إعلان

"سعادة السوبر ماركت".. إناث يسعين إلى الحرية

د. عمار علي حسن

"سعادة السوبر ماركت".. إناث يسعين إلى الحرية

د. عمار علي حسن
09:01 م الأربعاء 01 يناير 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

ما إن تفرغ من قراءة مجموعة الكاتبة ضحى عاصي القصصية المعنونة بـ"سعادة السوبر ماركت" حتى تجد نفسك راغبا في تذكر تلك الحالات المتعددة التي تأخذها الأنثى، في صبرها وتبرمها، وانشراحها وعبوسها، وإقبالها وصدها، وكفاحها واستسلامها، وجدها ولهوها، ورشدها ونزقها.

فالمجموعة الحافلة بشخصيات متنوعة، من الرجال والنساء، والفتية والفتيات، تحرك الأنثى أحداثها، سواء كانت هي بطلة القصة منفردة، أو تمد يدها وعقلها ووجدانها من بعيد لتدفع الأمور إلى الأمام، أو كانت متوارية تماما، غائبة حاضرة، حيث يتم استدعاؤها من أعماق الذاكرة لتفعل وتشارك وتؤثر، بل تغلب أو تسود أحيانًا.

لا يعني هذا أننا أمام كاتبة "نسوية" وفق أحد اتجاهاتها المتعارف عليها حتى وإن كانت قصصها تنتصر لحرية بطلاتها، إذ إن مجموعتها حافلة بالرجال الإيجابيين ذوي الصور البراقة النابعة من أدوار متعددة يمارسها الأب والحبيب والزوج والابن المكافح والأخ الطيب والصديق المخلص... إلخ.

ولعل القصة الأولى التي يكون الأب بطلها تضرب مثلا ناصعا على هذه الإيجابية، فهو يعود إلى المنزل ومعه بعض طعام عشاء مما يحلو لهم، وفي عودته تنطق السعادة في عينيه، لأنه قد جلب إليهم ما يقبلون عليه دوما بشهية مفتوحة، لكنه يُفاجأ بلهوهم عنه، وانشغالهم بلعب "البلاي ستيشن"، ولا يتغير هذا الانشغال حتى بعد أن يعد الطعام بنفسه، فيبقى بينهم كاسف البال، شاعرا أنه قد سقط من علُ.

وفي الغالب الأعم يحظى تصرف أصحاب الأدوار من الرجال في هذه القصص برضاء بعض النسوة، بل قد يكون بدفع وطلب وحض وإيحاء منهن. كما أن اللغة التي كتبت بها القصص، والموزعة على الكتابية والشفاهية والفصحى والعامية، لم تتسم بأي قدر من الحدة، أو الجرس العنيف، الذي يواكب كثيرا الكتابات النسوية النازعة إلى تحرر لا يأتي أحيانا إلا إلى أكف المشاحنة والمشاححة.

ولنبدأ في هذا المقام بقصة "ليلة مايسة" لنجد أمامنا امرأة تحلم طيلة حياتها بشريك يدفئ فراشها، لكن هذا لا يتحقق لها حتى بعد زواجها من رجل لا يقصر معها في شيء إلا أنه اعتاد النوم منفردا حاضنا وسادته. وتنتهي القصة بنهاية مفتوحة، إن كانت تضع بطلتها على أبواب الصبر والحيرة، أكثر من باب الاحتجاج والتمرد، فإنها لا تغلق أمامها طريق الاختيار الحر، إذ لم تذعن وتنام فوق الطرف الآخر من السرير كما طلب لتنتهي القصة بالقول: "واستغرق في النوم تاركني لأصدقائي كلاب الجيران، وصوت السيارات على الأسفلت".

فإن انتقلنا إلى قصة "الثالث" نلفي امرأة تدفعها الرغبة في التحرر إلى اختراع شخصية افتراضية تمنحها مشاعرها كي يتسنى لها الاحتفاظ بزوجها الحبيب، الذي يولع بهذه المفترضة، فتجدها الحقيقية فرصة لتبوح له بكل ما يدور في نفسها، وتعرف عنه عبر موقع التواصل الاجتماعي الإلكتروني أكثر مما تعرف في دنيا الناس، وتجد في الشخصية التي اختلقتها متنفسا لها كزوجة مكبوتة "تحكمها الأعراف والأصول والعيب والخوف"، حتى إنها وظفتها في فض أي نزاع بينهما عبر النصائح والتحايل.

وفي قصة "صالة ديسكو"، تنقل الفتاة المتحررة قناعتها وانشغالها وتحيزها إلى رجل محافظ، تصف القصة ميوله وحاله بالقول: "يجلس مع مجموعة رجالية مثيرة للشفقة، فهذا الهندام الفائق هو ومن معه الملابس الفاخرة، الساعات الذهبية وميداليات السيارات الملقاة على الطاولة، الملامح الجادة تنم عن حيثيات اجتماعية، الضحكات المصطنعة تجعلك تدرك أن كلا منهم هارب من جحيم ما".

مع هذه الفتاة اكتشف الرجل أنه يرسف في أغلال من الادعاءات والتصورات والأوهام والأحكام التي تعيق حركته، وتجعله يعيش كما يريده الآخرين، لا كما يريد هو، ويحلو له. فسهرة واحدة، وحوار واحد مع هذه الجميلة جعلته يصل إلى حقيقة السجن الذي يحمله في رأسه وفوق ظهره، وهنا يقول الراوي: "لم يكن مدركا أنه مقيد إلى هذه الدرجة".

وتنطوي قصة "أيها الملك العادل" على نوع من الفانتازيا تقع المرأة في قلبه؛ إذ يتجه بطلها بالدعاء لهذا الملك لأنه اهتم بحقوق النساء، فيقول: "كنت دائما- كما لم يكن ملكٌ من قبل- تهتم بمشاعر النساء"، لكننا سرعان ما نكتشف أن هذا الدعاء ليس طلبا ولا تضرعا أو مباركة، إنما هو تهكم من الإدراك المعتل، والصورة المغلوطة، والتصور المجروح، الذي يعشش في أذهان الرجل عن المرأة؛ باعتبارها صاحبة عقل ناقص، وتفكير ضحل، يمكن التحايل عليها في سهولة، وإلهائها دون عناء.

وتجسد قصة "حلاوة شمسنا" جانبا من هذا التصور الخطأ، فبطلها الطالب بالصف الثاني الثانوي ينبهر بصبية في الصف الثاني الإعدادي تغني باقتدار على مسرح المدرسة، فتنال إعجاب الجميع وتقديرهم، لكنه حين يقدم على خطبتها بعد أن كبرت، تستعيد أمه وقت الغناء القديم هذا لترمي الفتاة بالعبث والاستهتار والميوعة والخلاغة، فقد سافرت في رحلة إلى خارج مصر برفقة زملائها من الصبية. ورغم أنه يحقق ما أراد في وجه أمه، ويتزوج بهذه الفتاة فإن عقده النفسية تستيقظ منذ حفل الزفاف فيمنعها من الغناء بعد أن طلب منها الحضور هذا، وفي البيت يعيرها بموهبتها هذه، فلا تجد أمامها من طريق سوى الطلاق، وتنهمك بعدها بعملها في كلية الطب، بينما هو يتزوج بأخرى وينجب ابنة تغني صغيرة على مسرح المدرسة فإذا به يفخر بها، وكذلك أمه التي تمدح غناءها كثيرا، وبذا تتجلى أمامنا أمثولة لتناقض ذكر في تعامله مع الأنثى.

وهذا التصور يمتد من عالم البشر إلى عالم الحيوان في قصة "حرية"؛ إذ إن الأسرة نظرت إلى القطة "لوجي" التي تقتنيها على أنها قد ارتكبت خطأ شديدا وخالفت قواعد الأدب واللياقة حين تركت البيت خلسة، وخرجت إلى الشارع. ورغم أن الأم في مكنون نفسها فرحة بما أقدمت عليه القطة التي فضلت الحرية مع المخاطرة والجوع على العيش الرغيد حبيسة الجدران، فإنها لم تكن قادرة على أن تظهر هذا لطفلتها الصغيرة، خوفا من تنشأ على هذه القيمة أو ذلك التصور.

فالأم تقول: "أما أنا كنت أشعر بالسعادة من أجل لوجي، أخيرا قررت أن تثور وتتحرك في اتجاه حريتها ما الذي يجبرها على هذه الحياة المملة في بيتنا"، لكنها وجدت نفسها مضطرة إلى الصمت في البداية على وصف ابنتها للقطة بأنها ليست مؤدبة، ثم المجاهرة بهذا، على العكس تماما من اقتناعها.

وتبين قصة "شمبانيا" حالة التمزق التي تعيشها امرأة، وروحها مع زوجها الغائب، وجسدها تسلمه لآخر. وفي قصة "أمشير" نجد أنفسنا في وجه فتاة تأكلها حيرة الانتظار ولوعته، لتضرب بها الكاتبة هنا مثلا على مثيلاتها إذ تقول: "البنات ما زلن ينتظرن.

تأتي كل واحدة منهن محتضنة أحلامها، منتظرة فارسها، متلهفة شوقا للقاء.. ولكن كثيرا لا يأتي.. هنا في هذا المكان تكتشف أنها ليست سندريلا أو ست الحسن والجمال، هنا في هذا المكان تختبر أول أحاسيس الإهمال.. الرفض.. هنا في هذا المكان تتلقى الصفعات الأولى التي تدغدغ إحساسها بأنوثتها. هنا تعرف معنى الهزيمة".

ورغم أن قصة "للموت طعم آخر" تدور حول ظاهرة الهجرة غير الشرعية لشباب يخاطرون في البحر الوسيع ليصلوا محتشدين في مراكب متهالكة إلى الشاطئ الآخر بحثا عن عمل، وبذا فإن شخوصها الأصلاء إخوة من الذكور، فإن المرأة تطل من الخلف محركة المشهد من خلال الزوجة والأم الراغبتين في تحسن الأحوال المادية. وهذا الدور الخلفي المؤثر يحدث أيضا في قصة "بالونة" إذ أن الأم والزوجة المتنعمتين بما يكسبه الإعلامي الشهير طالما تطلبان منه عدم المواجهة، ومسايرة الأمر، خوفا على حياته.

أما الهجرة الشرعية فتنتج مشكلة لبطلة قصة "صرخة"، إذ إن أباها الذي عمل في السعودية لسنوات بنى بيتا لأسرته، فأعطى ابنته شقة مثلها مثل أولاده الثلاثة، وكانت تظن أنها قد ربحت مزية ستجعلها مرغوبة من أي شاب، وستتوفر لها حياة هادئة هانئة، لكن حدث العكس، لأن الزوج كان ينظر طيلة الوقت لنفسه على أنه صاحب اليد السفلي نظرا لإقامته في شقة زوجته.

وأخيرا تنزع بطلة قصة "حلوة يا بلدي" إلى الحرية بطريقة مغايرة، فهي لديها تعني الاختلاء بالنفس، فنجد هذه القيمة الفلسفية والسياسية والاجتماعية العظيمة تنزل لديها إلى مفردات متعينة في الطبيعة مثل البحر والمدى متمثلا في الطريق والرمل، وكذلك مقابلة الغرباء الذين لن يضيقوا عليها مثلما يحدث في بيتها، وهنا تقول: "نسمة هواء جميلة، الطريق الواسع الممتد، الفضاء حولها.. أغاني النصر التي جعلتها تشعر بأنسام الحرية... لقد تحررت من المسئولية، من حماتها، من زوجها، من أعباء العمل، تحررت من الخادمة التي تراقب تصرفاتها داخل المنزل، ومن سائق السيارة الخاص بها، والتي تلمح عينيه تتلصص عليها من خلال المرآة الأمامية".

لكن هذه المرأة لم تتمتع بتلك الحرية سوى الساعات التي قضتها في طريقها إلى العريش، لتظهر أمامها القيود والإكراه فجأة حين تمنعها قوة شرطة مرابطة على الأسفلت من الذهاب إلى المكان الذي تريده، وتنزلها من سيارة الأجرة "الميكروباص" التي ترتادها مع آخرين، ثم تضايقها إلى حد يغضبها ويبكيها، وهي الأستاذة الجامعية، ولا ينقذها سوى تدخل زوجها، الضابط في أمن الدولة، عبر اتصال هاتفي بمن يحتجزونها، فتتغير المعاملة تماما، وتخصص سيارة سريعا لها لتذهب إلى العريش، لكنها تقرر العودة إلى القاهرة.

وبينما كانت الحرية ممثلة في مفردات الطبيعة في هذه القصة فإن الإكراه تمثل في السلطة إلى جانب التقاليد البالية، والتنطع الذكوري، الذي سيطر على من منعوها، لأنها امرأة تذهب من دون مرافق لتقضية وقت للنزهة.

تطل نون النسوة عفية بين سطور هذه القصص جميعا أو جلها، ويتدرج حضورها بين الطغيان والترقب الخجول، وهو أمر طبيعي لكاتبة كانت في أول طريقها، تدور حول بنات جنسها تفكيرا وتعبيرا، لكنها لم تكتفِ بالشواغل الجسدية للأنثى إنما دفعت نساءها وفتياتها في خضم كل ما يشغل المجتمع من أتراح وأفراح، وهذا ما جعلها تنبو عن النسوية التقليدية، وإن كان هذا الاتجاه لا يعني بالضرورة، وفي كل مدارسه ونصوصه عداء صارخا مع الرجل، خصوصا إن كان الجانبان معنيين بالسعي الدؤوب إلى الحرية.

إعلان