إعلان

الثورة الصناعية الرابعة والثورة الاجتماعية

د. غادة موسى

الثورة الصناعية الرابعة والثورة الاجتماعية

د. غادة موسى

أستاذ مساعد - كلية الاقتصاد والعلوم السياسية - جامعة القاهرة 

09:00 م السبت 02 فبراير 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

سيطر الحديث عن الثورة الصناعية الرابعة وعناصرها (التحولات الرقمية، وإنترنت الأشياء، والطباعة ثلاثية الأبعاد) وفوائدها ومخاطرها على حديث ومناقشات رجل الشارع والخبراء والباحثين في كل أرجاء العالم.
ومن لم يتحدث عنها يستطيع تحسس آثارها المتنامية على حياتنا.
والثورات الصناعية لا تحدث دون مسببات اجتماعية أو بدون أن تُحدث هي نفسها ثورة اجتماعية.

فلو عدنا للقرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وتحديداً في الفترة التاريخية من ١٧٥٠-١٨٥٠ وقت ظهور الثورة الصناعية الأولى، لوجدناها كانت مصحوبة بتحولات اجتماعية وسياسية وفكرية كبيرة، تمثلت في زيادة متوسط دخل الفرد في العالم إلى حوالي عشرة أضعاف، مثلما زاد عدد سكان العالم إلى ستة أضعاف.

كما قدمت بريطانيا- مهد الثورة الصناعية- الأسس القانونية التي مكّنت أصحاب المشاريع لتقلد ريادة الثورة الصناعية في نهاية القرن التاسع عشر، حيث بدأ التحول في أجزاء من بريطانيا من العمالة اليدوية وتلك المرتبطة باستخدام الحيوانات والأدوات البسيطة إلى اقتصاد قائم على التصنيع واستخدام الآلة، وتم تطوير تقنيات تصنيع الحديد واستخدام الفحم، والتوسع في خطوط السكك الحديدية. وبدأت السلع التي كانت تنتج على نطاق ضيق في البيوت إلى الانتقال إلى المصانع لتنتج على نطاق واسع من خلال التطبيق العلمي والمعرفي المنظم.

كما كان من أهم آثارها زيادة الهجرة من الريف للمدن للعمل في المصانع.
كما تعدى الإنتاج المميكن والنمو الاقتصادي بريطانيا ليصل لكل أرجاء العالم.
كما كان قد سبق التوسع الصناعي ابتكار "جيمس وات" عام ١٧١٢ الآلة البخارية لتدير الطواحين التي كانت تدار قبل ذلك بمساقط المياه، ما جعل إنشاء المصانع في أي مكان أمراً ممكناً.
وقد واكب كل ذلك القيام بإنشاء مركز للابتكار التقني الذي أصبح حجر الزاوية في الاقتصاد البريطاني في منتصف القرن الـ١٨. وكان دوره حل المشكلات التقنية ونشر الأبحاث وعرضها على الشركات البريطانية، مما خلق تطوراً سريعاً ومتنامياً للثورة الصناعية.
وفي المقابل، تكونت ونمت تنظيمات عديدة، وأولها النقابات العمالية والنقابات الحرفية؛ وذلك للحفاظ على حقوق العمال والشغيلة في مواجهة أصحاب رؤوس الأموال.
بالإضافة إلى انتشار الثراء وتأثير ذلك على رغبة أصحابه في الحفاظ على ثرواتهم، من خلال تجنيد قطاعات واسعة من الجماهير لتأييدهم سياسيًا واقتصاديًا.

كما تطلبت الثورة الصناعية الإنفاق المتزايد على التعليم والتدريب للعمال ولأصحاب الأعمال. وبالتالي قامت طبقة رجال الأعمال بتمويل إنشاء المدارس والجامعات والمكتبات على نطاق واسع. فنشأت طبقة تتوسط العمال والحرفيين وأصحاب الأعمال والثروات عُرفت باسم الطبقة الوسطى التي تنتج المعارف والعلوم والفنون اللازمة لبناء وبقاء المجتمعات.
أما على الجانب السلوكي، فضعفت العلاقات الاجتماعية، وزادت الحريات، وتحطم الناموس الأخلاقي الذي كان سائداً في الاقتصاد الزراعي ليتشكل نظام آخر نحو المزيد من الفردية والنفعية.

وعليه، تعتبر الثورة الاجتماعية هي تغيير في واقع المجتمع وحياة الناس في فترة معينة من تاريخهم. ويحدث حين تصبح علاقات الإنتاج القديمة وما يصاحبها من أنماط حياتية لا تتناسب مع متطلبات قوى الإنتاج الجديدة. وهنا لا أتحدث عن البعد الطبقي في الثورة الاجتماعية فقط، وإنما كل مفاصل المجتمع الفكرية والسلوكية والسلطوية.

ويتوقف الأمر على الاستعداد الذاتي للأفراد والنظام الذي يحكمهم لفهم الظواهر الجديدة والتحولات المصاحبة له لإحداث تقدم مجتمعي. لذلك تعد الثورات الاجتماعية نوعًا من الجدلية المتبادلة بين الأفراد وطموحاتهم في المجتمع والنظم الاقتصادية والسياسية والاجتماعية القائمة.

والثورة الاجتماعية يشارك فيها كل الأفراد، لأنها تتعلق بمتطلبات حياتهم اليومية من أفكار وخدمات وعلاقات. ومما لا شك فيه أن الثورة الصناعية الرابعة بفرصها وتهديداتها قد ولدت، وستولد ثورات اجتماعية في دول العالم، تطالب بتغيير أطر قانونية وثقافية واجتماعية واقتصادية. وسينتج عنها وجود نظام اجتماعي جديد يستفيد من عدم تكرار الخسائر الاجتماعية والثقافية التي نتجت عن الثورتين الصناعيتين الأولى والثالثة تحديداً، وفي نفس الوقت يستفيد من التطورات الاقتصادية والثقافية التي تتيحها الثورة الصناعية الرابعة، وفي مقدمتها نظام اجتماعي ديمقراطي أو بعبارة أخرى "شكل من أشكال الديمقراطيات الاجتماعية" أو ما يمكن أن أطلق عليه "الديمقراطية الاجتماعية المسطحة أو الأفقية" Flat
Social Democracy.

حيث ستتركز السلطة في يد الأفراد الذين يمتلكون منصات التواصل التي تمكّنهم من التفاعل والتعامل الاجتماعي والثقافي والاقتصادي بشكل أكثر حرية وأكثر سرعة، مقارنة بالدول التي يعيشون فيها.

كما ستتيح الثورة الصناعية الرابعة سرعة اتخاذ القرار على مستوى السلطة السياسية وعلى مستوى المجتمع والأفراد، بل يمكن أن يكون اتخاذ القرار على مستوى الأفراد أسرع من نظيره على مستوى السلطة، عبر الوسائط التكنولوجية التي تتيح البيانات والمعلومات للجميع على أساس من المساواة والشفافية وإمكانية الوصول لها.

كما تزداد ملكية الأفراد للثروات وقدرتهم على تكوينها بشكل سريع وتوزيعها وتبادلها دون الحاجة للسلطة الرسمية؛ حيث ستكون التنظيمات واللوائح الموجودة في منظومات وأطر تشغيل كافية لتنظيم تكوين وتبادل الثروات والمعلومات والحفاظ وتنمية وتبادل القيم الثقافية.

وخلافًا لتداعيات الثورة الصناعية الأولى من إضعاف مجتمع الريف والاقتصاد الزراعي لحاجة الأفراد للانتقال للعمل في المصانع التي تعطي أجوراً أعلى، فالثورة الصناعية الرابعة ستمكّن- إن لم تكن مكّنت- الأفراد من إنتاج سلع لا تحتاج إلى بيئة حضرية أو منشآت مادية؛ إذ يمكن أن تتم عمليات إنتاجية ومعاملات كثيرة في بيئات ريفية وبيئات افتراضية لا تتطلب أكثر من جاهزية تكنولوجية أرضية أو قمر صناعي وهاتف ذكي!

كما ستتعدى الثورة الصناعية الرابعة النمط التقليدي من التبادل التجاري الدولي إلى إنشاء شبكات من التبادل التجاري الفردي العابر للدول والقارات، بحيث تصبح المنازل بمثابة محلات تجارية مرتبطة بشبكات إنترنت. ومن ثم تنشأ مجتمعات دولية مفتوحة تستعصي على هيمنة وسيطرة النظم السياسية الشعبوية اليمينية عليها populist regimes.

وعليه، فإن تغير أنماط الإنتاج والاستهلاك والتجارة من جهة، والانتقال السريع للأفكار والقيم الثقافية من جهة أخرى سيجعلان من المجتمع قوة في مجال تحديد شكل النظم الضريبية ونوعية الخدمات ومواصفاتها.
تتبقى الآثار النفسية لهذه الثورة على الأفراد في المجتمعات؛ إذ لا يمكن في المرحلة الراهنة الجزم بإمكانية تجنب العزلة والحد من الفردية التي صاحبت الثورتين الصناعيتين الأولى والثالثة.

ومع ذلك تنبئنا الاتجاهات الحالية بإمكانية أن يسهم التداخل والتواصل المجتمعي، عبر الدول، والمصاحب للثورة الاجتماعية في وجود أفُق أكثر رحابة يستجيب للمخاوف النفسية، ويستوعب الاحتياجات النفسية للأفراد.

إعلان