الداروينية الاجتماعية وتراجعنا الثقافي والحضاري

09:00 م السبت 26 أكتوبر 2019

طارق أبوالعينين

برغم فداحة وبشاعة جريمة القتل التي شغلت رواد مواقع التواصل الاجتماعي، وراح ضحيتها الشاب الرائع محمود البنا، ابن المنوفية، الذى دفع حياته ثمناً لموقفه الرجولي بالدفاع عن فتاة تعرضت للتحرش؛ فإن الجرائم التي من هذا النوع يجب أن تتجاوز مساحة النقاش داخل مواقع التواصل الاجتماعي إلى مساحة التحليل العلمي؛ لأنها تكشف- ببساطة- كارثية التحولات القيمية الحادثة في مجتمعنا، والتي نجمت عن موجة التحولات الاقتصادية غير المدروسة التي ضربت مصر منذ عام 1974 بتدشين سياسة الانفتاح الاقتصادي العشوائي.

إعلان

فالرأسمالية شأنها شأن غيرها من التصورات الاقتصادية والاجتماعية؛ لا تعدو أن تكون مجرد خيار له إيجابيات وسلبيات تجعل من استدعائه دون الالتفات إلى محاذيره أمراً بالغ الضرر. وأنا هنا لا أنتقد هذا النموذج الاقتصادي والاجتماعي من منطلق انحياز أيديولوجي مغاير بقدر ما تعنيني عشوائية التطبيق التي كرست أسوأ ما في الرأسمالية على صعيد المنظومة الأخلاقية والقيمية في المجتمع.

هنا ينبغي الإشارة إلى أحد المفاهيم السلبية التي اقترنت بالنظام الرأسمالي، وهو مفهوم الداروينية الاجتماعية، الذى دشنه عالم الاجتماع البريطاني هربرت سبنسر للمرة الأولى في منتصف القرن التاسع عشر انطلاقاً من أطروحة عالم الأحياء البريطاني تشارلز داروين بشأن التطور، والتي كانت مقولة البقاء للأصلح بمثابة بند تأسيسي لها؛ فتلك المقولة التي يعتقد البعض بنسبتها إلى هربرت سبنسر نفسه قد دفعته إلى الاعتقاد بإمكانية أسقاط نظرية التطور بمنطقها الدارويني الطبيعي على المجتمع وتشريحه من خلالها، بل سك قوانينه المجتمعية بالاتكاء عليها انطلاقاً من انحياز متطرف إلى النظرية الرأسمالية يحيلها من مجرد خيار علمي إلي قانون وجود يجعل الأشخاص غير المتكيفين معها والعاجزين عن الصعود الاجتماعي تحت مظلتها عديمي الجدارة ووصمة عار على الجنس البشري؛ ومن ثم يجب التخلص منهم عبر استراتيجية اجتماعية قوامها هو عملية الانتخاب الطبيعي حسب اعتقاد هربرت سبنسر. ....

ولذلك فإن أي مجتمع يختار النهج الرأسمالي دون فرز أو عقلنةٍ لما ينبغي أخذه أو تركة منه يفتح الباب- ببساطة- أمام تنامى العنف المجتمعي الناجم عن شيوع ثقافة الصراع ومنطق البقاء للأقوى كبديل للتعايش المشترك والتناغم المجتمعي والتنافس داخل الأطر الشرعية والقانونية إثباتاً للتفوق وتحقيقاً للجدارة المجتمعية وهنا تكمن الكارثة الكبرى التي تؤكدها حقائقنا المجتمعية بكل أسف، فبعد ما يزيد على خمسة عقود من التحول الرأسمالي تنامى منطق الصراع، وترعرعت العشوائية، وانحطت الأخلاق، وضرب الفساد معظم المهن والحرف، وازدادت معدلات الجريمة، وتنوعت أنماطها بشكل غير مسبوق، فهذا التحول قد جاء على أنقاض دور ووجود قوة مصر الناعمة التي خلقت التوازن والتناغم داخل المجتمع المصري لعقود، سواء قبل التحول الرأسمالي في السبعينيات أو أثناء ذلك التحول، أو بعده بعقدين من الزمان، كما أن تلك القوة الناعمة قد منحت المجتمع المصري شرعيته كمجتمع مصدر للقيم والمفاهيم والفنون والأفكار في محيطة الإقليمي، ولعل جميع المشتغلين بالعمل الثقافي وإبداع الفنون وإنتاج الأفكار يدركون كيف انقلبت الأمور رأساً على عقب بفعل التراجع الثقافي والحضاري الرهيب الذى أصاب البلد ومدى تأثير المنتج الفني والإعلامي الرديء على شباب مصر الذين تكرس لديهم مبدأ الصراع وثقافة الجريمة واسترداد الحق عنوة وفرض الأمر الواقع الذى ينافى الخلق والقانون باستخدام القوة والبلطجة بفعل رداءة المنتج الفني والإعلامي وشيوع العملة الثقافية الرديئة التي طردت العملة الجيدة وفق قانون الاقتصاد البائس، وهنا يسير التوحش الرأسمالي جنباً إلى جنب مع تراجعنا الثقافي والحضاري لتكون المحصلة هي جريمة قتل محمود البنا التي تعكس مدى تدهور وانحطاط قيمنا الأخلاقية وتحللنا المجتمعي وسيطرة العنف والعشوائية على سلوكيات شبابنا، وهي جريمة سوف تتكرر بكل أسف، ما لم نلتفت إلى بواعثها وأُطرها الكبرى التي حولت خلافاتنا الفردية اليومية إلى جرائم قتل..!

إعلان