إعلان

العلم والحلم.. وحكايات الجدات

د.هشام عطية عبدالمقصود

العلم والحلم.. وحكايات الجدات

د. هشام عطية عبد المقصود
09:00 م الجمعة 18 أكتوبر 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

كان ياما كان في سالف العصر والأوان، كان هذا هو المبتدأ لحكايات عظيمة وخيال رحب يتسع لأحداث تفارق المعرفة المباشرة بواقعيتها المفرطة ولشخصيات أسطورية تفعل ما يشبه المستحيل، وهكذا كبساط الريح السحري حملتنا حكايات الجدات والأمهات بعيدًا، خارج مساحة كل ما هو واقع وممكن أيضا، فأمدت أجيالا من البشرية – كما تحكي تواريخ الأمم - بطاقة للفعل واشتهاء لتحقق وسعيا نحو منجز غير عادي، ولولا طاقة الأمل هذه ما صنع المخترعون وتكبدوا مشقة الكشف والاختراع، أحببنا صورة الفارس الذي يخوض المفازات ويعبر الأودية ويعتلي قمم الجبال متجها نحو ما أراد، وحتى تنتهي الحكاية "الحدوتة" ببسمة وأمل، وفك لعقدة الصعب والمستحيل، بينما تتكفل هدهدة تمسح الوجه والجبين بمنح مزيد من الطمأنينة وهكذا سرت الأيام البعيدة.

كبرنا ورأينا وأردنا، وعبر تجارب وخطأ وصواب، عرفنا أن العلم والحلم معا هما ضفيرة متماسكة للفعل البشري العظيم، منهما يرسم خط الصعود حركته في مؤشرات الآتي ويصنع منجزا يفوق ما عرفه السابقون، وهكذا تفعل الدول التي تصنع وجودها في خريطة العالم مضيفة، بأن تشجع غايتين متضافرتين تبنيان، العلم سلوكا وفضيلة والحلم أملا ورافعة لإحباطات وسكون، فتزهر مضيئة على جغرافيا الكون، بينما يبقى آخرون عند ساحة رؤية العلم ووسائله مطية واستخداما محضا وزينة، فيظلون على بقائهم في ساحات ظلمة الجغرافيا مكانا، والأيام وفق كلام المؤرخين دورات صعود وهبوط، يمنح استمرارية الصعود طاقتي العلم والحلم، ومن تغيب عنهما لا تحتفي بهم خريطة المنجز كونيا، وتلك مسؤولية يجدر أن تعتبرها الأمم مقوم بقاء وتحقق في أن تنقل المجتمع أولا وعيا من حالة الاستهزاء أو السخرية أو الاستخدام المحض الاستهلاكي لمستورد منجز العلم، ليكون عطاء ووسيلة ودورا ومهمة ومشاركة في صناعته، إضافة يجيدها كل ناشئ يتعلم وينمو، ومهمة لكل طالب، ومنجزا وتحققا ومسؤولية أيضا، وذلك خريطة واستراتيجية عمل لمن شاء لذلك سبيلا.

وقد جاء العلم حلا لموقف الإنسان مع ظواهر الحياة التي لم يألفها أو يتعامل معها، فكانت مجالا لحيرته وخوفه وترقبه تاريخيا، حتى إذا قربتها الملاحظة والمعرفة منه ففهم صيرورتها وآلية عملها صارت عادية وبسيطة بل وأيضا بديهية، لا تخيف بل تضيف، وليست عابرة بل مجالا للتوظيف المثمر، وهكذا يفعل العلم بالبشر والحياة.

فلو تحدثت فقط مع أحدهم من ألف عام بينما تتنزهان علي شاطئ أو تجلسان تحت ظل شجرة بأنه ربما سيأتي يوم يمكن للبشر أن يذهبوا هناك بعيدا يمشون فوق ذلك الشيء المضيء الذي يبدو حينها أنه المسؤول عن فك ظلمة الليل قليلا واسمه القمر لقال عليك مجنونا، ولأمر أهلك بأن يرأفوا بحالك علاجا واهتماما فربما تفيء إلى هدى الجموع، وترجع لتكون ضمن من يقنعون بالمعرفة المتاحة.. تحلم بالمتاح وتعيش اللحظة كما يقولها إعلان المشروبات الغازية.

أنكر العوام وجمهرة الناس على البعض الحلم فرأوه بعيدا، بينما رآه آخرون قريبا ولولا هذه النظرة ذاتها والأمل ذاته الذي أفاء الله عليه البشر، لما عرف الناس واكتشفوا ولما يسروا أمور معيشتهم، وما جلسوا يوما يشاهدون مصدقين بعدها مألوفية وبداهة أنهم يشاهدون بثا فضائيا منقولا عبر دولة بعيدة لحدث أو حفل أو مباراة تتم في المساء بينما هم في منتصف الظهيرة.

تظل الأمثلة حاضرة عن أولئك الذين يرون الحياة دوما صعابا واستحالات، وعمن يرونها بالعلم والأمل حلما ممكنة وأنها ستطل مظللة وستشرق مشمسة، وهذا حال الناس، ففي الأزمنة القديمة لم يؤمنوا فورا بالأنبياء المرسلين فما بالك بما يصنعه ويراه البشر العارفون؟، بالحلم والعلم عرف الإنسان صناعة السفن والطائرات فسافر وحلق وطاف فوق الكون، فتأكد يقينا أنها كروية كما قالها جاليليو ذات زمن بعيد فأنكروه، وربما تعد إحدى فضائل العالم هي في الحفاظ على طاقة الحلم وتزويد بطاريات نورها إن شحب أو خفت، ولعلها وظيفة أساسية لمنظومات التعليم والبحث في المجتمعات المختلفة، ليس العمل على بناء صخور العقل حشوا وزيادة المتعلمين عددًا، قد يذهب جفاء، بل بناء نوافذ الحلم والخيال وترسيخ فكرة التعامل مع الكون ضمن ضفيرة أسباب العلم والحلم معًا، فتعيد صهر روابط إنسانية حول معضلات وتحققات مجتمعية، وتأكيد شراكة الجميع فيها، وحيث الكل يعمل للكل.

ولعل الأطفال الصغار أقرب إلي فطرة الإنسان الحقيقية التي تحلم وتثق وترى الممكن البعيد، ومن هنا ربما جاء كتاب الحكايات التي روتها الأمهات والجدات تنداح فيها الصعاب ويفوز بثمرها الطيبون المخلصون الذين عملوا، فيشعر الأطفال بالأمل وأن العالم أجمل والكون براح وأن الأيام مانحة لا محالة، ولو طال الأمد.

إعلان