إعلان

"يا رب تموت"

"يا رب تموت"

د. براءة جاسم
09:00 م الأربعاء 13 يونيو 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

"ربنا ياخدك"

"يا رب تموت"

"ربنا ياخدني عشان ارتاح منكم"

"يا رب أموت عشان تعرفوا قيمتي"

"يجعل يومي قبل يومك"

"يا رب أموت لو معملتش كذا..."

"يا رب تنام ما تقوم"

"بموت فيك/ في فلان"

"بموت في كذا"

"لو سبتني أموت من غيرك"

"هموتك من الضرب"

"هموت وأعرف"..

"هموت من الضحك"

"حلو موت"

"مات الكلام"

"ميت من: الجوع.. الفرح.. التعب"..

"هموت وأعمل (كذا): أنام.. أخرج.. أسافر.. أشتري.. إلخ."

"هموت نفسي في الـ: مذاكرة.. شغل.. إلخ."

ما سرُّ استسهالِ استخدام هذا الكمّ الهائلِ من الكلمات والمصطلحاتِ المُتعلّقة بالموت سواءٌ بهدف الذمِّ أو المدح، أو رفعِ شأنِ أحدِهم أو الدعاءِ عليه، أو التعبيرِ عن الحبِّ أو الجديةِ أو الضيقِ أو الاهتمام، إلخ...؟ كيف يلتقي الحبُّ والموت؟! كيف يجتمعُ الجمالُ مع القتامة؟ كيف يقترنُ الفناءُ بالبقاء؟

أكادُ أُجزمُ بأنَّ أغلبَ مجتمعاتِنا العربيّة على اختلاف لكناتِهم ولهجاتِهم لديهم مرادف لمعظم هذه المصطلحات، وأنَّ الأسماعَ لا تخلو منها بشكلٍ شبه يومي إلا مَن رحِم ربي.

والعجيبُ أنَّ هذه الشعوبَ نفسَها التي تنطقُ كلمةَ الموت بأريحيّةٍ مزيّفةٍ تخافُ أن تنطقَ اسم مرض السرطان فتشيرُ إليه بأسماء أو مصطلحاتٍ أخرى على سبيل المثال "المرض إياه"... إلخ.

ومعظمُ المصطلحات التي سبقَ ذكرُها لن تجدَ لها مرادفًا في المجتمعات الغربية، وقبلَ عملي كاختصاصيّةٍ اجتماعيّةٍ ودكتورة نفسيّةٍ حاليًا، فقدْ عملتُ مترجمةً لسنواتٍ ليست بالقليلة، ومن المعروف أنَّ المترجمين يُقسمون على ترجمة ما يُقالُ حرفيًا دون تصرّفٍ أو زيادةٍ أو نقصان، وكان جُلُّ عملي مع الشرطة أو في المستشفيات والعيادات، كنتُ حينها أسألُ مدربِيَّ كيف أترجمُ كلمةً مثل: "هموّتك"، فعادةً لا يعني قائلُها المعنى الحرفي للكلمة، وأخاف أن يُقبَضَ على الشخص بسبب ترجمةٍ حرفيّةٍ صحيحةٍ لفظًا غير مقصود المعنى، وسألتُهُم إن كان بإمكاني الاستعاضة عنها بكلمةٍ أخرى، استغربوا كثيرًا من سؤالي ومن استخدام فعلٍ جاد يحتوي تهديدًا مستهترًا مثل "سأقتلك" للتعبير عن الغضب.

يُمكنُ القولُ بأنَّ كلَّ هذه ما هي إلا مصطلحاتٌ استحدثناها أو توارثناها فكرّرناها دون أن نتوقفَ كثيرًا عندها، ولكنّها تعكسُ إدراك اللاوعي، وتعكسُ عند بعضنا وعيًا أيضًا بخطورة ومفهوم الموت لدى الأغلبية لأنه قمةُ الهرم في التعبير عن خطورة موقفٍ ما، فماذا بعد هول الموت؟!

يتأرجحُ بعض مستخدمي هذه التعبيرات بشكلٍ رمزيّ ما بين السادية والمازوخية، دعني أذكرْ بعض الأمثلة، حين تدعو على أحدِهم بالموت، فعادةً ما يكونُ ذلك لأنه سبَّبَ لكَ ألمًا فتعبر عن وجعِك ورفضِك ما حدثَ لك بأنْ تتمنى زوال ذلك الشخص من الحياةِ كلِّها فلا تضطر للتعامل معه أو تتعرّض لأذيَّته مجدَّدًا، وفي كثيرٍ من الأحيان تشعرُ بالراحة لمجردِ الدعاء عليه بالموت، ويُشعرُك ذلك بقوةٍ لا يُدركُها عقلُك الواعي، فحين نتعرضُ للأذى أو للشرِّ نشعرُ بفقدان السيطرة على محيطِنا، خصوصًا إنْ كُنّا أشخاصًا مسالمين لا نميلُ للعنف، أو إنْ كان المُعتدي شخصًا أقوى أو أكثرَ نفوذًا. وقد تقولُها لأحدهم وقد أزعجك بفعلٍ ما، وهنا تختلفُ ترجمةُ أمنيتِك له بالموت، فأنت لا تعنيها حقًا، ولكنها تعبيرٌ عن مدى استيائك مما رأيت منه. ومن الغريبِ أنَّه في كثيرٍ من الأحيان يغضبُ المتلقّي فيرُدُّها لك بمثلِها، أو قد يتعرضُ لكَ بالأذى الجسديّ وليس اللفظيّ فقط، مع أنه لو فكَّر لثوانٍ لما أعاركَ أيَّ اهتمام، فالله سبحانه وتعالى لا يربطُ القدرَ برغبةِ أحدٍ من عبادِه، وإنما موتُ أحدِنا أو حياتُه بإرادة اللهِ وحده.

أمّا مع من تحبّ فإنَّكَ تتحولُ إلى مازوخيٍّ بملء إرادتِك وبكل سعادة، تتمنى الموتَ لنفسِك وتفضلُهُ على رحيل حبيبٍ أو صديق، تدعو اللهَ أن يجعلَ يومَكَ قبلَ يومِه، تخبرُهُ أنَّك بالتعبير الأشهر "تموت فيه"، فالموتُ يهونُ لأجلِه.

وعادةً ما يُدرِكُ اللاوعيُ كلَّ ما سبق ذكرُه، فإن لم نتوقفْ ونتساءل، لماذا نستخدم هذه المصطلحات وكيف نستخدمُها ونقررُ استبدالَها، ستبقى هذه الموروثات اللفظيّة تتناقل من جيلٍ إلى آخر دونَ أن تجدَ من يُعمِلُ عقلَهُ فيها.

إعلان