إعلان

"كتالوج" ابني (1)

"كتالوج" ابني (1)

د. براءة جاسم
09:02 م السبت 05 مايو 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

مرحبًا بكَ على كوكبِ الأرض، اليومُ هو موعدُ ولادتِكَ الذي لم تخترْهُ، لم تخترْ والديْكَ أو لونَ بشرتِك أو شكلك أو جنسَكَ أو لغتَكَ أو موطنَكَ، فكلها محددةٌ مسبقًا، ولا سلطانَ لك عليها.

منذ اليوم وحتى إشعارٍ آخر، أنتَ مُسيّرٌ في كل ما يتعلقُ بكَ مما سيختارونَهُ لك، اسمَك ومسكنَكَ وملبسَكَ ومأكلَكَ ومدرستَكَ، وغيرَها من أشياءٍ تجعلُك إمّا تحتَ رحمتِهِم، وإما تحتَ نِقمتِهم، فإن صانوا الأمانةَ فيكَ سلِمتَ وكنتَ أوفرَ حظًا، وإن خانوها أو قصّروا فيها بقصدٍ أو عن جهلٍ وغفلةٍ فقَدْ كُتِبَ عليكَ أنْ تسعى بنفسِكَ مِن أجلِ أن تنجوَ بها، وأن تُعانِيَ أكثرَ من غيرِكَ لترسوَ بسفينةِ إنسانيتِك واحتياجاتِك إلى برِّ الأمان، وأنْ تؤمنَ أنّكَ حتمًا ستصِل.

ستكونُ منذُ لحظةِ ولادتِكَ وحتى رحيلِكَ رقمًا في إحصائياتٍ لا حصرَ لها، رقمٌ يكونُ إيجابيًا في بعضِ الأحيان، أو ربّما سلبيًا في أحيانٍ أخرى، إلا أنّهُ بإمكانِكَ ألَّا تَبقَى مجردَ رقمٍ لا إرادَةَ له، بل تتحول إلى اسمٍ وكِيان، ذلك بما تقدِّمُهُ لنفسِكَ ولمنْ حولَكَ من المجتمع، حتى لو لمْ يطُلْ أثرُكَ إِلَّا شخصًا واحدًا.

قالَ لي أحدُهُم وقد اختلطَ في صوتِهِ المزاحُ بالأسى: "يقولونَ إن الأهلَ يتحكّمونَ في النصفِ الأولِ من حياتِنا، وأن أولادَنا يتحكمونَ في النصفِ الآخرِ منْها، وربما كان ذلك التحكمُ دمارًا للحياة"، نظرتُ إليْهِ باسمةً وقُلت: "وأينَ دورُكَ أنت؟! إن كنتَ مسيرًا لوقتٍ مضى، فأنت مخيرٌ الآن، ثم ألمْ تكن يومًا ابنًا "لأهْلِك"!؟، فهل ترى أنَّكَ دمرتَ نصفَ حياتِهِم الثاني بعد أن دمَّر أجدادُكَ نصفَها الأول؟ وأنتَ كأب، هل ترىَ أنّك دمرتَ نصفَ حياةِ أبنائك اليومَ، أم أنَّكَ قرّرتَ أن تسلُكَ معهُم طريقًا غيرَ الذي سلكَهُ أهلُكَ معَك؟ بإمكانِكَ أن تختارَ ببصيرتِك، وأنْ تكسِرَ دائرةَ كلِّ سيءٍ تعرضتَ له وتصحّحَ أخطاءَ من أثَّروا في حياتِكَ سلبًا، فإن كنتَ وجدتَ من أبويكَ ما لمستَ فيه إساءةً لكَ فلا تكرِّره مع أبنائِك".

إنّ الأسطورةَ التي طالما توارَثَها أجدادُنا تقولُ أن الأطفالَ يولدونَ "دون كتالوج"، وأنا أقولُ لكم أنَّ هذه خرافةٌ، فلا تردّدوها فتصدّقوها، لأنَّ هذا الـ"كتالوج" مُتاحٌ بالفعل، وقدْ رسمَ المتخصصونَ خطوطَهُ العريضة وحدّدُوا ملامحَه الأساسية لتستعينوا بها، بلْ إنّكُم مطالَبون أيضًا بأن تضيفوا إليْها وتطوّعوها بما يتناسبُ مع شخصياتِ أبنائِكُم، ولكي تجدُوا ذلك الـ"كتالوج"، فليس عليكُم إلا أن تبدؤوا في تجميعِه واختيارِ تفاصيلِه قبلَ أن تتّخذُوا قرارَ الإنجاب، ولتبدأْ فصولُهُ الأولى باختيارِ شريكِ الحياة، ولْيسألْ كلٌّ منكُم نفسَه عما إذا كانَ مستعدًا بإرادتِهِ واختيارِه لاستقبالِ هذه الأمانةِ التي منحَهُ اللهُ مسؤوليتَها، فإن كانَ على قدرِها فلْيفعلْ.

وها قد أصبحتُم آباءً وأمهاتٍ تضعونَ اللّبِناتِ الأولى في حياةِ أبنائِكُم، فأمّا البدايةُ فالاهتمامُ بأنفسِكُم من أجلِهِم؛ إنَّ الأهلَ الأصحاءَ جسديًا ونفسيًا قادرونَ على رعايةِ أبنائِهم بطريقةٍ أفضلَ وأسهل، وأمّا أولُ ما ينبغي لكُم أن تعلموه عن أبنائِكم فهو أن السنواتِ الخمسَ الأُوَل في حياتِهم هي الأهمُّ في تشكيلهِم، ففيها تتطوّرُ أدمغتُهُم أسرعَ من أيِّ وقتٍ لاحِق، وتلك نقطةُ الانطلاقِ وقاعدةُ الأساسِ التي ينبني عليها ما يتوجّبُ عليكُم فعلُه والوصولُ إليهِ بالاطلاعِ والبحثِ والتثقيف.

وطّدُوا علاقتَكم بهِم بكثيرٍ من الحبِّ والأحضانِ والتواصلِ البصريّ "eye contact"، والاهتمامِ والرعاية، لاعبوهُم وتحدّثوا إليهم منذُ اليومِ الأول؛ إن الطفلَ وإنْ كانَ لا يفهمُ لغةَ أمّهِ وأبيهِ في شهورِهِ الأولى فإنّهُ حتمًا يشعرُ بما يصلُ إليه منهُما من رسائلَ مباشرةٍ وغيرِ مباشرة، وأولُ ما يُترجمُ إليهِ من رسائلِهِما أنهُما أمنُهُ وأمانُه ومصدرُه الأولُ لثقتهِ بنفسِه، فإياكُم أن تهدُّوا قواعدَ تلكَ الثقةِ قبلَ بنائها، فاحذروا الإهاناتِ اللفظيةَ أو الجسدية وإن كانت على سبيل المُزاح، فإنكُم نورُ المنارةِ التي توجِّهُ السفينةَ إلى البرّ، فأحسِنوا إلى أنفسِكُم بإحسانِكُم إليهِم.

إن جوهرَ تربيةِ الأبناءِ تضحياتٌ بكلِّ غالٍ ونفيس، ومحاولاتٌ مستميتةٌ من الآباءِ أن يخلقُوا لأبنائِهم حياةً أسعدَ وأيسَر من حياتِهِم، ويعقُبُ كلُّ ذلكَ دعاءٌ بكلِّ خير، واستعاذةٌ من كلِّ شر.
خلاصةُ ما أستطيعُ أن أقولَ لكم أن الأمنياتِ شيء، وأن السعيَ إلى تحقيقِها شيءٌ آخر، سعيٌ تلزمُهُ المَعرِفةُ وتطويرُ الذاتِ اللذان هما أحدُ الأعمدةِ التي يرتكزُ عليها هذا الصرحُ البشريُّ العظيم، وذلك أقلُّ ما يليقُ بحبِّ الآباءِ لأبنائهم حبًا غيرَ مشروطٍ ولا محدود. وتذكروا دائمًا أن التربيةَ رحلةٌ وليست وِجهة.

أتوقف هنا على وعدٍ بحديثٍ مستفيضٍ عن السنين الأولى في حياةِ أبنائنا ومنهاج تربيتهم على نحوٍ صحيح.

إعلان

إعلان

إعلان