إعلان

 كم ينفق المصريون على رحـلات " الحـج " ؟(3)

كم ينفق المصريون على رحـلات " الحـج " ؟(3)

د. عبد الخالق فاروق
09:00 م الخميس 15 مارس 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

أثيرت في الأسابيع القليلة الماضية مسألة زيادة وزارة السياحة الرسوم المقررة على المسافرين لقضاء شعيرة العمرة للأراضي المقدسة.. والسؤال كم ينفق المصريون على رحـلات "الحـج"؟

قبل عام 1955م كان أداء فريضة "الحج" وشعيرة "العمرة" يكاد يكون محصوراً في الطبقات الثرية في مصر من طبقة ملاك الأراضي الزراعية والتجار ورجال المال والأعمال، وفئة قليلة من متوسطي الدخول من كبار الموظفين، ومن هم على مشاكلتهم، نظراً للتكاليف الباهظة التي كان يتحملها المسافر لأداء فريضة "الحج" وكانت تتراوح بين 200 جنيه وخمسمائة جنيه مصري** وهو مبلغ باهظ لا يتوافر للكثيرين من غالبية الشعب المصري في ذلك الوقت (الجنيه المصري كان يساوي 2.86 دولار أمريكي خلال السنوات (1956م- 1961م) وقبلها كان الجنيه المصري يعادل نحو 3 دولارات أمريكية، ورغبة من نظام الرئيس "عبدالناصر" في إتاحة أداء هذه الفريضة للفئات الوسطى ومحدودي الدخل بدأ عام 1955م بإعادة تنظيم هذا القطاع، حيث جرى التعاقد بيـن وزارة الداخلية المصرية من جهة، وكل من الشركة المصرية للملاحة البحرية وشركة مصر للطيران من جهة أخرى لمدة 10سنوات، ويتم بمقتضاه حصول الوزارة على تأشيرات زيارة الأماكن المقدسة، وإصدار وثائق السفر الخاصة بها، مع تنظيم أفواج الحجيج بحيث لم تتجاوز تكاليف السفر ذهاباً وعودة والإقامة والتنقلات بين مكة والمدينة وميناء جدة أو ضبـا نحو 120 جنيهاً (في حالة السفر بحراً) وتزيد إلى 150 جنيهاً (في حالة السفر جواً) بالإضافة بالطبع إلى رسوم وضرائب زيارة الأراضي المقدسة.

وقد ساهم هذا في توسيع قاعدة المسافرين من المصريين لأداء فريضة "الحج"، بحيث زاد عددهم إلى نحو 40 ألف حاج سنوياً خلال الفترة التي أعقبت ذلك العام، حتى عام 1973م. ولم تشمل هذه التكلفة بالطبع نفقات المأكل والمشرب وشراء الهدايا من جانب الحجاج المصريين في الأماكن الحجازية.

ومن جهة أخرى، بدأ منذ ذلك التاريخ "نظام القُرعَة" الذي كانت تنظمه سنوياً وزارة الداخلية المصرية، بسبب تزايد الإقبال على هذا "الحج " الشعبي– إذا جاز التعبير– في ظل وجود تأشيرات محددة للسفر إلى الأراضي الحجازية قد لا تزيد على 40 ألف تأشيرة سنوياً، بالإضافة إلى الاعتبارات المالية التي أخذت بها الحكومة المصرية– وما زالت– بشأن تأثير هذه المسحوبات من العملة الأجنبية (الدولار الأمريكي أو الريال السعودي أو الجنيه الإسترليني) على احتياطياتها المتاحة من النقد الأجنبي.

وحتى ذلك التاريخ.. لم تكن قد برزت أدوار أطراف أخرى فاعلة في عمليات تنظيم رحلات "الحج" و"العمرة"، مثل شركات السياحة التجارية، أو الجمعيات الأهلية، فظل أفواج الحجيج في معظمها تتولاه أجهزة وزارة الداخلية بالتعاون مع السلطات السعودية من الجانب الآخر.

وبرغم التدهور الذي ساد العلاقات السياسية بين مصر والمملكة السعودية بعد عام 1958، واستمر تقريباً حتى عام 1971، فقد حافظت أفواج الحجيج المصريين للأراضي المقدسة على روابطها قائمة ومستمرة وعند معدلاتها العادية.

فإذا حاولنا تقدير حجم النفقات التي تكبدها المصريون الحجيج والاقتصاد المصري جراء هذه الرحلات المقدسة خلال الفترة الممتدة من عام 1955م حتى عام 1973م التي تشـــــمل:

1) تكاليف السفر ذهاباً وإياباً بحراً وجواً (ت1)

2) تكاليف التنقلات داخل الأراضي الحجازية (ت2)

3) تكاليف الإقامة (ت3)

4) تكاليف المأكل والمشرب داخل المملكة السعودية (ت4)

5) تكاليف الفدو (الأضحية) (ت5)

6) تكاليف شراء الهدايا من الأراضي المقدسة (ت6)

ووفقاً للمعادلة:

تكاليف أداء الحاج المصري لفريضة "الحج" في السنة (س) = عدد الحجيج مضروب في تكاليف الحاج الواحد.

= 20 مليون جنيه مصري (ما يعادل 60.0 مليون دولار أمريكي)، ثلثاهما تقريباً حصل عليهما الاقتصاد السعودي.

وبالتالي فإن مجموع ما تحملته مصر من اقتصادها في رحلات "الحج" هذه الفترة (1955- 1973) = 20 مليون جنيه × 18 سنة = 360 مليون جنيه (أي ما يعادل 1044 مليون دولار أمريكي حصل الاقتصاد السعودي على ثلثيهما ( 678.6 مليون دولار أمريكي). 

وحتى نتعرف على مدى ما تمثله هذه المبالغ من قيمة في الاقتصاد المصري في ذلك الحين، ينبغي مقارنتها بالدخل القومي المصري، الذي تراوح بين 800 مليون جنيه عام 52/1953، و2692 مليون جنيه عام 70/1971 (16)، وبالتالي فإن نفقات المصريين على رحلات الحج خلال هذه الفترة كانت تتراوح بين 2.5% و3.0% من الدخل القومي المصري.

فكيف حدث التحول ومتى؟

بعد عام 1974م تحول المشهد كله في مصر والمنطقة العربية والإسلامية للأسباب التي سبق أن عرضناها والمتمثلة في:

1) أثر حركة العمالة المصرية والعربية والإسلامية إلى دول النفط العربية على توزيعات الدخول.

2) تصاعد نفوذ المملكة السعودية على سياسات المنطقة.

3) "الصحوة الإسلامية " وصعود التيار الوهابي والسلفية وانتشارها بين قطاعات واسعة من السكان.

وهنا اتسع نطاق الرحلات الدينية المقدسة لتشمل:

■ رحلة "الحج" (مرة واحدة سنوياً).

■ "العمرة" في مواسم دورية كبرى طوال العام.

وكذلك تعددت الأطراف والعناصر الفاعلة في هذه الحركة، فحولتها إلى سوق ضخم له قواعده العرفية، ومعدلات أرباحه الخيالية، وممارسته أحياناً غير الأخلاقية، وغير الدينية، ومن أبرز هذه الأطراف الجديدة أو المتجددة على كلا الجانبين:

■ بعض الشركات السياحية

■ بعض الجمعيات الأهلية

■ بعض الأجهزة الرسمية وشبه الرسمية

وقد زاد الأمر سوءاً لجوء السلطات السعودية بعد تكرر أحداث مظاهرات الحجاج الإيرانيين إلى فرض نظام الحصص عام (1993) لحجيج كل دولة إسلامية وفقاً لقاعدة (واحد لكل ألف من السكان) حتى تستطيع تحجيم عدد الحجيج الإيرانيين من ناحية، ولتمكين الأجهزة الأمنية من السيطرة على الموقف من ناحية أخرى. بيد أن هذه السياسات الجديدة قد لعبت دوراً كبيراً في خلق "سوق سوداء" ضخمة في مصر وبقية الدول الإسلامية، وانتشر ممارسو السمسرة في "تأشيرات الحج" وفنادق الإقامة وغيرها.

فلنتأمل كل عنصر من هذه العناصر الفاعلة:

(أ): شركات السياحة والوكلاء السعوديين:

أدى انتعاش هذه الحركة الواسعة بعد عام 1974م، وتحرك ما يزيد على 1.5 مليون مصري سنوياً في قوافل "الحج" و"العمرة" إلى انتعاش مقابل في شركات السياحة العاملة في هذا السوق. ففي عام 1975م لم تكن شركات السياحة المصرية تزيد على 180 شركة من جميع الفئات* زاد عددها عام 1985م إلى 502 شركة ثم إلى 892 شركة عام 1997م (17)، ثم وصلت الزيادة إلى 990 شركة عام 2000م، وبحلول عام 2007م كان عدد شركات السياحة العاملة في مصر قد بلغ 1409 شركات (18)، وفي نهاية عام 2008م كان عدد الشركات السياحية في مصر قد قارب على 1700 شركة، وتتركز معظم هذه الشركات في خمس محافظات هي (القاهرة والإسكندرية والدقهلية والجيزة والشرقية)، ويعمل بهذه الشركات جميعاً ما بين 60 ألفًا و70 ألف موظف ومشتغل.

وكما يلاحظ فإن كثيراً من الشركات من الفئة (ب) تحرص على الانتقال إلى الفئة (أ) حتى تتمكن من المشاركة في هذا السوق الضخم المسمى رحلات "الحج" و"العمرة "

وتشرف على هذه الشركات السياحية غرفة صناعة السياحة باتحاد الصناعات المصرية، ووزارة السياحة صاحبة القول الفصل في توزيع حصص هذه الشركات من تأشيرات "الحج" و"العمرة". وقد أدى دخول هذه الشركات– ووكلائها السعوديين من الجانب الآخر– على خط تنظيم هذه الرحلات الدينية إلى فتح أبواب جهنم على الأسعار والتكاليف، فانتشرت عمليات البيع والشراء– وعمليات السمسرة– في تأشيرات "الحج" التي كانت القنصليات السعودية تصدرها مجاناً، خاصة بعد اتباع المملكة السعودية عام 1993، أسلوب النسبة العددية لكل بلد (واحد لكل ألف من السكان)، وأصبح التكالب على أداء فريضة "الحج" بوابة بنقص المتاح من تأشيرات السفر، ومن جهة أخرى فقد أصبح التوزيع الرسمي الساري في مصر لحصص كل طرف من هذه التأشيرات كالتالي:

-40% من التأشيرات توزع عن طريق وزارة الداخلية، ومن خلال "القُرعَة" السنوية التي تنظمها الوزارة.

-40% أخرى توزع على الشركات السياحية وفقاً لحصص تكاد تكون 50 تأشيرة لكل شركة من هذه الشركات العاملة في هذا النوع من النشاط. بينما تحظى الشركات العشر الكبرى بحصة أكبر من هذه التأشيرات.

-20% أخيرة توزع عن طريق وزارة الشئون الاجتماعية (التضامن الاجتماعى) للجمعيات الأهلية بالمحافظات وفقاً لنظام "القُرعَة" يراعى فيه– نظرياً الكثافة العددية للسكان في المحافظات، وعدد المتقدمين من كل محافظة للسفر لأداء فريضة "الحج"، وبعض الاعتبارات الأخرى. كما تقدم الوزارة معونة مالية سنوية لهذه الجمعيات.

وقد بلغ عدد التأشيرات المقدرة لمصر عام 2008م (1429هـ) ما بين 75 ألفاً و80 ألف تأشيرة لأداء فريضة "الحج". وبالتالي فقد بلغت حصة الشركات السياحية نحو من 32 إلى 35 ألف تأشيرة، وزعت على الشركات العاملة في هذا المجال.

ونظراً لقلة حصص بعض هذه الشركات (أقل من 20 تأشيرة) فقد لجأ بعضها إما إلى بيع حصته تلك إلى شركات سياحية أكبر، مقابل الحصول من 10 آلاف إلى 14 ألف جنيه للتأشيرة الواحدة، أو تجميع حصص عدد من الشركات في كتلة واحدة حتى تتمكن من التفاوض مع وكلائها السعوديين والحصول على شروط مناسبة لإقامة وتنقلات الحجيج التابعين لها، وتحقيق أرباح معقولة في موسم "الحج".

(ب): وزارة التضامن (الجمعيات الأهلية):

بلغت حصة وزارة التضامن في ذلك العام 1429هـ (2008م) نحو 16 ألف تأشيرة يجري تجنيب نحو ثلاثة آلاف أو خمسة آلاف تأشيرة، ويوجه بعضها إلى وزارات معينة (وزارة الدفاع وبعض الأجهزة الرئاسية)، ويتسرب جزء آخر إلى "السوق السوداء"، حيث تباع التأشيرة بمبالغ تتراوح بين خمسة آلاف و6 آلاف جنيه للتأشيرة الواحدة ما ساعد على انتعاش واستمرار "السوق السوداء" في هذا النشاط الديني.

أما بقية التأشيرات (11 ألفاً إلى 13 ألف تأشيرة) فتوزع على الجمعيات الأهلية والبالغ عددها نحو 500 جمعية، تعمل في هذا المجال على مستوى محافظات الجمهورية، والجمعيات المنتشرة في الأجهزة الحكومية، والوزارات وغيرها ووفقاً لنظام "القُرعَة"، ينبغي أن تراعى عدة اعتبارات منها الكثافة العددية، كما سبق أن أشرنا، وإن كان قد تلاحظ في السنوات الأخيرة زيادة الشكاوى المقدمة بشأن خروقات تجرى وعدم التزام دقيق من جانب الوزارة والقائمين عليها بالقواعد المعلن عنها.

ثم تقوم هذه الجمعيات بالاتفاق مع شركات سياحية تتولى هي تنظيم هذه الرحلة مقابل حصول الجمعية على بعض المزايا المالية أو العينية، مثل تخفيضات سعرية معينة للمشرف على الفوج، أو سفره مجاناً طبقاً لعدد أفراد فوج الحجاج الذي ترعاه الجمعية وغيرها من صور الخدمات والعمولات المعروفة في هذا السوق. ووفقاً لتصريحات د. على المصلحي حين كان وزير التضامن الاجتماعي، في مؤتمر صحفي له يوم 28 يونيو 2009م، فقد تلقت الوزارة 91 ألف طلب من أعضاء الجمعيات الأهلية للحج، بينما ما جرى اختياره لم يزد على 12 ألفاً، حيث جرى استبعاد الطلبات الواردة من غير أعضاء الجمعيات الأهلية.

(جـ): وزارة الداخلية:

حتى منتصف السبعينات من القرن العشرين كانت هذه الوزارة هي المسئول الأول والأخير عن تنظيم هذه الأفواج من الحجيج، سواء بالاتصال بالسلطات السعودية للحصول على تأشيرات السفر وإصدار وثائق السفر أو إجراء "القُرعَة" لتحقيق التوازن بين المتاح من التأشيرات الصادرة، وأعداد المتقدمين من المصريين بطلب السفر لأداء فريضة "الحج".

ثم تقرر إشراك الشركات السياحية والجمعيات الأهلية في تنظيم هذه الأفواج واقتصر دور الوزارة على إصدار وثائق السفر للحج (مصلحة الأمن– مصلحة الجوازات ووثائق السفر)، وإجراء "القُرعَة" السنوية في حدود حصتها من التأشيرات التي قدرت بنسبة 40% سنوياً.

وقد بلغت حصتها لذلك العام 1429هـ (2008م) نحو 32 ألف تأشيرة، جنبت منها نحو 5 آلاف وزعت على بعض الجهات السيادية، وعلى الضباط والقادة، وبعض الأفراد داخل وزارة الداخلية ذاتها بأسعار تفضيلية، وبعضها في صورة تكريم، ولم يعرف حتى الآن إن كان هناك أي تسريب لعدد من هذه التأشيرات إلى السوق السوداء من عدمه.

فما هي ملامح سوق الحج والعمرة بعد عام 1974؟

إعلان