إعلان

الوادي الجديد.. حلم عبد الناصر المُجهض

الوادي الجديد.. حلم عبد الناصر المُجهض

د. أحمد عبدالعال عمر
09:01 م الأحد 01 أكتوبر 2017

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

كثيرة هي أحلام الرئيس الراحل جمال عبد الناصر المُجهضة، التي صارت مع مرور الزمن - وتغير الواقع السياسي الداخلي والإقليمي والدولي - تدخل في باب أساطير الماضي وأحلامه غير قابلة لإعادة الحياة إليها؛ مثل القضاء على الإقطاع بكل تجلياته، والقضاء على الفساد وسيطرة رأس المال على الحكم، وإقامة حياة ديمقراطية سليمة، وحلم الوحدة العربية، وعدم الانحياز واستقلال القرار الوطني.

إلا أن هناك أحلاما مُجهضة للأبد من إعادة الحياة إليها من جديد، وعلى رأسها، ما يتعلق بالتنمية الشاملة والمستدامة في عموم البلاد. وحلم عبد الناصر العظيم بإنشاء وادٍ جديد مواز لوادي النيل، يروي بمياه العيون والآبار الجوفية، ويهدف إلى تخفيف التكدس السكاني في وادي النيل.

وقد أعلن عبد الناصر عن بداية تنفيذ هذا الحلم في إحدى خطبه بمحافظة بورسعيد عام 1958. وبعد إجراء العديد من الدراسات والبحوث الميدانية التمهيدية، بواسطة خبراء متخصصين، صدر قرار باعتبار منطقة الواحات محافظة مستقلة من الناحية الإدارية، تحمل اسم محافظة الوادي الجديد في عام 1959. وفي يوم 3/ 10/ 1959 وصلت إلى محافظة الوادي الجديد أوَّل قوافل التعمير التابعة لسلاح المهندسين للقوات المسلحة للبدء في تنفيذ ( المشروع / الحلم) وهو اليوم الذي تم اعتباره لاحقًا عيدًا قوميًّا للمحافظة، يحتفل به أهلها كل عام.

وبعد ذلك أُنشئت هيئة تعمير الصحاري المصرية، التي قامت في حينه بدور رائد في إنشاء البنية التحتية في المحافظة الوليدة، وحفر الآبار الجوفية، وتهيئة الطرق التي تربطها بمحافظات وادي النيل المختلفة.

كما قامت بتحفيز المصريين على الهجرة إلى المحافظة الواعدة من أجل استصلاح وإعمار أرضها بتقديم حوافز كثيرة، منها بيت من غرفتين وحوش كبير به فرن وأماكن لتربية الحيوانات، وبقرة وحمار و60 جنيها، على أن يُسدد كل ذلك على مدار ثلاثين عامًا. ومنها إنشاء استراحات ومساكن للموظفين الإداريين.

ولكن هذا المشروع الحلم، لم يُنفذ وفق المخطط الذي وُضع له، ولم يحقق الغايات المرجوة التي تمنَّاها له عبد الناصر وخبراؤه. ويرجع ذلك الإخفاق إلى الأزمات السياسية والمالية التي عناها نظام حكم عبد الناصر، بداية من أزمة الانفصال عن سوريا عام 1961، وحرب اليمن (1962-1967)، ومرورًا بهزيمة 1967، وانتهاء ذلك بتكريس كل الجهود والأموال لإعادة بناء القوات المسلحة، والسعي لإزالة آثار العدوان، ثم وفاة عبد الناصر عام 1970.

وبعد ذلك دخلت المحافظة التي تمثل نسبة 44% من مساحة مصر الإجمالية في غياهب العزلة والإهمال من جانب الدولة، وعادت لسيرتها القديمة كمنفى وعقاب للموظفين المغضوب عليهم أو الذين لا يجدون وظيفة وعملًا في محافظاتهم، والذين يأتون إليها مُكرهين ويعيشون بها في ضيق حتى رحيلهم.

وكأن قدر تلك المحافظة المرير - كما قال الراحل الأستاذ أحمد أمين في مذكراته عنها بعد أن زارها وعمل فيها لمدة ثلاثة شهور عام 1913- ألا تعرف موظفًا وافدًا صالحًا، يريد الخير لها ولأهلها، ويعمل على إصلاح البيئة وتحسين مستوى الحياة بها وخدمة سكانها.

وقد اكتشف عندما ذهبت إلى هذه المحافظة منذ ثلاث سنوات، للعمل بفرع جامعة أسيوط الجديد بمدينة الخارجة، الذي يضم الآن عدد ست كليات، هي: التربية، والعلوم، والآداب، والتربية الرياضية، والزراعة، والطب البيطري، مفارقة عجيبة، مؤداها: إنَّ العشوائية التي نعاني منها في مدن وادي النيل والدلتا، التي ارتبطت في أذهاننا بالزحام وصخب الحياة وضيق المكان، موجودة بالوادي أيضًا، ولكن – وهنا جوهر المفارقة - مع فائض كبير من الهدوء وفرص التخطيط السليم واتساع المكان.

وقد أرجعت هذا بعد تأمل كبير في خصوصية المكان وسياقه الطبيعي، وسمات السكان وتكوينهم وثقافتهم، إلى سوء الإدارة عبر عقود طويلة، وعدم وجود نية وهمة حقيقية لخدمة المكان وتحديثه والاستثمار فيه، بهدف خدمة أهل المحافظة أولًا، والوطن بجملته ثانية.

وقد أدت تلك الإدارة السيئة إلى جعل محافظة الوادي الجديد تعيش بعد كل تلك العقود على رحيل عبد الناصر، على البنية التحتية ومقومات الحياة التي تأسست في عهده، بدون إضافة حقيقية، تُحدث طفرة نوعية في مستوى الحياة وثقافتها وجودتها.

فهل آنَ الأوان لأن تدرك الدولة أهمية إعادة الحياة لحلم عبد الناصر المُجهض في تأسيس وادٍ جديد جنوب غرب مصر، يجذب فائض السكان من وادي النيل والدلتا، ويخدم سكان تلك المنطقة، بعد تقديم كل الحوافز المُشجعة على ذلك؟

وهل آنَ الأوان لحدوث اهتمام من الدولة ومؤسساتها المختلفة، بثقافة المحافظات الحدودية، ومنها الوادي الجديد، والعمل على رصدها وتحليلها، والاهتمام بقيمها الإيجابية وإبرازها والاستثمار فيها، ومكافحة وتغيير قيمها السلبية المعوقة، واعتبار تلك العملية الثقافية قضية أمن قومي وليست رفاهية ثقافية؛ لأن ظلم الجغرافيا لتلك المناطق، اتبعه تهميش اقتصادي وفكري وثقافي لهم من جانب الدولة، وجعل تلك المناطق الحدودية عصب مصر العاري، وبيئة حاضنة للذهنية السلفية المحافظة جدًا سلوكيًّا والمنغلقة فكريًّا، مما يسر لبعض أعداء الدولة من المتأسلمين، اختراقها، والاستثمار في الإحساس المترسخ لدى بعض سكانها بظلم الدولة لهم، وعدم اهتمامها بهم.

إعلان

إعلان

إعلان