جمال الغيطاني وحكايات أبي المنسية

07:52 ص الإثنين 05 أكتوبر 2015

بقلم – دينا نبيل:

بينما يستغرق جمال الغيطاني في حلمه الطويل منتظرا قضاء الله او رحمته ، أجلس انا كعادتي امسك بمجلد ازرق ضخم يحمل علي غلافه الأمامي عنوان "تجليات الغيطاني: الاسفار الثلاثة"، ربما اليوم مميز قليلا عن غيره حين احتفل بمرور ٦ أشهر علي اليوم الاول لي مع جنة الغيطاني ورحلته العجائبية ... ٦ شهور أجبرني خلالها استاذي اسير حلمه الإجباري على "التلكؤ" قدر الامكان و التلذذ بصفحاته ببطء علي غير عاداتي.. يقولون أيضا إن علامة الكتاب الجيد أنك حين تنتهي منه تشعر بغصة رحيل صديق ربما أحاول تأجيل اللحظة قد ما أستطيع.

إعلان

هناك قصص وأفكار يستطيع أن يدونها أي منا، لكن قلة تبرز دائما تعلم قلمها و ان لم يبقى الاسم مدونا... إذا ما تناولت الكتاب دون غلاف ستدرك -روحك على الأقل- أنها تجليات الغيطاني دون غيره، خلاصة أفكار وروح الرجل دون سواه.

أما التصنيف فيظل عصيا على الناقد الحازم المستند على كومة من القوانين الصلبة فلا يجد سوى أن يعتبر أن التجليات هي تصنيف أدبي في حد ذاته، سألتني رفيقة قراءة عن الكتاب فأجبت أنها تجليات الغيطاني... سألتني عن النوع؛ فبعد أن تعدد في ذهني تعريفات الرواية والقصص القصيرة والخواطر والسيرة الذاتية وكتب الصوفية بفتوحات بن عربي ومواقف النفري، وبعد أن طال الصمت القلق في انتظار إجابتي قطعته إجابتي التي خرجت مني تقريبا دون وعي: هي تجليات الغيطاني.

يعلمك الغيطاني على لسان مولانا وقرة العين ورفيق الرحلة الطويلة الحسين بن علي وفاطمة أني إذا أخلصت للتجليات رأيت، وإذا رأيت سمعت، وغذا سمعت شعرت، وإذا شعرت استقصيت، وإذا استقصيت فهمت، وإذا فهمت أدركت... لتندفع إلى لحظات نائية من الليل المنطوي في غيابات الدهر لتشاهد ما لم ترى وتحضر ما حجبه عنك ثقل وجودك المادي المؤقت.

ينفخ الغيطاني بترابه السحري في وجوة الصور القديمة ليعاد لها الروح وتتجسد مرة اخرى لنعيش الأحداث مرة تلو الأخرى... تتحول صورة الزعيم إلى وجه أسمر على جسد طويل وملامح "ناصر" الهادئة المكسوة بلمحة حزن لم يمحها نصر حدث بعد عمره، الصديق ذو البدلة الكاكي بجرح نضر يقطر الدم من رصاص من كان يسمى في الأزمنة الأسط العدو. شهيد دخل دوامة النسيان من عائلة ومجتمع قرر أن يتجاوزه وكأن الثأر قد انمحى، وجه الحسين الصبوح التقي النقي يتعجب من تحولات الرجال ولم تمر على الهجرة إلا ستون عاما، وجه الأب في عود أبدي لا يموت ومواقف تكرر دون زوال.

الصور تتداخل فالوجه وجه الصديق النازف والصوت الأب الغائب والهيئة ناصر الشامخ رغم الهزيمة، مأساة واحدة متعددة الوجوه.

كتاب لم يدفعني لأخذ ملاحظات أو تدوين نقص هنا أو تجديد هناك، بل دفعني للتأمل في وجه أمي أحفظ تفاصيله والتصرف ونبرة الصوت أحاول حفظه من النسيان والتغيرات وكأن عيني تحولت لكاميرا دقيقة، أعلم أن المهمة ملقاة عليّ وحدي فلا الحسين ابن بنت النبي ولا القطب محي الدين بن عربي سينقذني تلك المرة لاسترجاع ما فات.

دفعني للجلوس عند أبي أسأله عن حياته طفلا وشابا وتواريخ الجد والاعمام... يتعجب، يتسأل عن تأففي السابق من قصصه المعادة، ألح... فيجيب جامعا شتات و مذيل التراب عن المنسي... عن رحلته الطويلة في محاولة التعرف عن جده الرابع و هواجسه لمعرفة اسم الجد البعيد الذى لم تحتفظ به شهادات الميلاد... عن تجنيده الإجباري الذي عشقه في إسكندرية ساحرة مشبعة باليود لا تحوى سوى الجمال والرشيقات... يتلعثم... يدرك أن أمي تسمع... يتوقف.. ألح... عندها يسرد هو قصته الاثيرة عن إحداهن يختفي من وجهه علامات المرض ويتحدى صوته وصفات الأطباء الكثيرة المكدسة بجانبه على شكل هرم صغير... يحكي دون أن يتوقف عن وجه أمي في لقاء أول، عن بحث مضن للقاء عابر، عن دراسات عليا ود دائما أن يكملها، عن القطاع العام وعيوبه... وتلك المرة التي رفض فيها رشوة بمبلغ كانت لتغير وجه حياته.. عن انتماء جدي لحزب الوفد ... يخفي تنهيدة شاردة في سعال مفتعل... يحكي عن خطب ناصر بنفس الشغف عن حفلات أغاني عبد الحليم، عن ليلة قضاها بأكملها يشرح للرفاق ولمن طلب ولم يطلب كلمات "قارئة الفنجان"... عن خطاب كتبه بخط يده في العاشرة من عمره يطلب من رئاسة الجمهورية صورة موقعة للرئيس، ينساها لشهور قبل أن يفاجئ بوصول خطاب يحمل صورة شبه جانبية لعبد الناصر مزينة بكلمات تشجيع للتلميذ... بعد الحديث الطويل عن جنازة ناصر يأتي فتور أعلمه وأتوقعه... ويتوقف حديثه إلا من إلحاح مني يدفعه للحديث بحماس أقل.

أجلس أنا عند قدميه أضغط على حروفه وأكررها لعل الذاكرة تمنع الدخول شبه الحتمي في دوامات النسيان واتمتم أن يصحو الغيطاني من غفوته ليحكي لي عن حلمه الإجباري الطويل.

إعلان