كيف غيّرت حرب غزة خريطة الصراع في الشرق الأوسط؟
كتب : مصراوي
تغيرت بنية الصراع في الشرق الأوسط على نحو غير مسبو
بي بي سي
قبل خمسة أيام من حلول الذكرى الثانية لهجمات السابع من أكتوبر2023، أعلنت حركة "حماس" قبولها خطة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لوقف الحرب في قطاع غزة.
وبغض النظر عما ستسفر عنه المفاوضات بشأن تفاصيل الخطة، فإن المشهد الإقليمي يبدو مختلفًا تمامًا عما كان عليه عشية الهجمات، إذ تغيرت بنية الصراع في المنطقة على نحو غير مسبوق منذ عقود.
يقول يعقوب عميدرور، مستشار الأمن القومي الإسرائيلي السابق، في حديث لبي بي سي، إنه منذ البداية كان واضحًا أن "هذه الحرب هي مواجهة بين إسرائيل واستراتيجية إيران القائمة على وجود وكلاء لها حول إسرائيل، وبالتالي فهذه الحرب ليست مع حماس أو إيران أو حزب الله كُلٌ على حدة، بل تتعلق بالهيكل الكامل الذي بنته إيران خلال الأربعين عامًا الماضية".

هزيمة حزب الله
يتيح التجول في الضاحية الجنوبية لبيروت، معقل حزب الله ومقر قياداته السياسية والأمنية والعسكرية، معاينة حجم الدمار الذي خلّفته الحرب الإسرائيلية بعد نحو عام على اندلاعها، إذ مُني الحزب بهزيمة مدوّية وقضى الكثير من قادته، بمن فيهم الأمين العام حسن نصر الله في السابع والعشرين من سبتمبر، وخليفته هاشم صفي الدين بعده بأسبوع.
أربك اغتيال نصر الله صفوف الحزب على نحو غير مسبوق، خاصة أنه جاء بعد سلسلة من الاختراقات الأمنية، كان أبرزها تفجير إسرائيل آلاف أجهزة البيجر والاتصالات اللاسلكية التي كان يستخدمها أعضاء حزب الله، ما أدى إلى مقتل وجرح الآلاف منهم.

ودمرت إسرائيل خلال شهرين جزءًا كبيرًا من إمكانات الحزب العسكرية والأمنية، ومنظومته المالية في الضاحية والجنوب والبقاع الغربي، قبل أن يدخل اتفاق وقف إطلاق النار حيز التنفيذ في السابع والعشرين من نوفمبر، ويقبل الحزب بموجبه بسحب عناصره إلى شمالي نهر الليطاني وتسليم سلاحه وتفكيك المرافق الأساسية والمواقع العسكرية - وهو ما يعتبر سابقة في تاريخ الصراع، خاصة أنه أدرج لاحقًا كبند في البيان الوزاري لحكومة رئيس الوزراء نواف سلام التي يشارك فيها حزب الله.
ويقول الكاتب والصحفي اللبناني حازم صاغية إنه لا آفاق أمام حزب الله للقيام بأي شيء بسبب تغير موازين القوى على نحو كبير، واستمرار الطيران الحربي الإسرائيلي باستهداف مواقعه.
لكن صاغية يرى أن "الحزب قد يقوم، كنتيجة لاعقلانية انتحارية أو بفعل طلب إيراني، بالقيام بتحرك ما، وهذا ما سيعطي لإسرائيل ذريعة لتزيد رقعة احتلالها والبقاء لفترة أطول. كما سيدفع التفكك اللبناني أكثر بالنظر إلى ازدياد الرفض للتعايش مع سلاح حزب الله".

ولا تزال إسرائيل تسيطر على خمسة مواقع في الجنوب اللبناني، وتطالب بتنفيذ بنود الاتفاق قبل الانسحاب منها، وتواصل طائراتها ومسيراتها الحربية استهداف أي نشاط لمقاتلي حزب الله في مختلف المناطق اللبنانية، دون أي رد من الحزب، رغم مقتل ما يقدر بنحو 250 شخصًا من منتسبيه منذ سريان وقف إطلاق النار.
ويناور حزب الله في مسألة تسليم سلاحه للحكومة اللبنانية مشترطًا انسحاب إسرائيل من المواقع الخمسة. وقد أعلن مؤخرًا رفضه تسليم السلاح بشكل نهائي، فيما يبدو أنها محاولة لرفع سقف التفاوض مع الحكومة بحثًا عن فرص لتحسين أوضاع الحزب على الصعيد الداخلي، بعد الهزيمة التي مُنِيَ بها والدمار العمراني الكبير الذي لحق بمناطق سكن قاعدته الشعبية خاصة في الجنوب.
سقوط الأسد
بعد عشرة أيام على وقف إطلاق النار، تلقّى حزب الله ضربة قاصمة عبر الحدود أضيفت لهزيمته المدوية، بسقوط حليفه نظام الأسد في دمشق في الثامن من ديسمبر 2024، ما أدى إلى انتهاء النفوذ الإيراني والميليشيات الشيعية في سوريا.
لم تشترك إسرائيل مباشرة في إسقاط الأسد بحسب تصريحات مسؤوليها، لكنها تعتبر سقوطه أحدَ تداعيات أحداثِ السابع من أكتوبر، والحربِ التي شنتها على عدة جبهات. وخلال الأيام الأولى لسقوط نظام الأسد قامت الطائرات الحربية الإسرائيلية بتدمير ما تبقّى من مقدرات الجيش السوري في طول البلاد وعرضها، فيما وصف حينها بأنه أكبر عملية عسكرية جوية في تاريخ إسرائيل.
ويقول يعقوب عميدرور، مستشار الأمن القومي الإسرائيلي السابق، إن نتيجة سقوط النظام "كانت اختفاء ما وصفه يومًا ملك الأردن بالهلال الشيعي" الممتد من إيران لبيروت مرورًا بالعراق وسوريا.
وتحرك الجيش الإسرائيلي سريعًا ليلة هروب الأسد، واحتل المنطقة العازلة على حدود الجولان السوري المحتل أصلًا. وتقدمت قواته في عمق الأراضي السورية باتجاه قمم جبل الشيخ والبلدات التي تؤدي إليها. وباتت تقف عند مشارف دمشق على بعد نحو 25 كيلومترًا.

دأب حكام سوريا الجدد بمن فيهم الرئيس الانتقالي أحمد الشرع على طمأنة دول الجوار بما فيها إسرائيل. لكن بنيامين نتنياهو وحكومته يرفضان حتى اليوم تصديق هذه الوعود، خاصة مع التحذيرات التي صدرت عن أكثر من مسؤول إسرائيلي من استبدال النفوذ الإيراني بالنفوذ التركي في سوريا.
ويقول عميدرور إن "هذه المنطقة الآمنة ليست دائمة، ولكنها تهدف إلى تقييم قوة وعدوانية النظام الجديد، ونحن نتفاوض مع هذا النظام، ولسنا متأكدين بخصوصهم، ولا نعلم بشأن جدية عدم انتمائه لتنظيم القاعدة، ولست متأكدًا أنه قد نسي جذوره".
على الجانب الآخر من الحدود، في الجولان السوري المحتل منذ عام 1967، يبدو الوضع هادئًا، إذ سُحبت الحشود العسكرية التي كانت انتشرت على طول الحدود الشمالية لإسرائيل مع لبنان وسوريا خلال العام الأول لهجمات السابع من أكتوبر. لكن تدخل إسرائيل لوقف هجوم القوات السورية الرامي إلى فرض السيطرة على محافظة السويداء يلقي بظلاله على كامل المشهد عند المناطق الحدودية.
وبلغ التصعيد الإسرائيلي ذروته يوم السادس عشر من يوليو بقصف مبنى هيئة الأركان وسط العاصمة السورية دمشق، لإجبار القوات السورية على الانسحاب من السويداء، وأدت الضربة لاحقًا إلى انسحاب هذه القوات سريعًا.
وتعمل الحكومة السورية المؤقتة جاهدةً لاحتواء تداعيات أحداث السويداء التي وصفها الرئيس الانتقالي السوري مؤخرًا بأنها كانت "فخًا مدبرًا" - غير أن إسرائيل تصر على أن تشمل أي ترتيبات أمنية مقبلة السويداء. ويُتوقع أن تشمل كافة محافظات الجنوب السوري في القنيطرة ودرعا والسويداء.
وفي مشهد غير مسبوق، ترفع بعض الأطراف الدرزية اليوم أعلام إسرائيل في تظاهرات أسبوعية بالسويداء، ويطالب شيخ عقل الطائفة حكمت الهجري بالانفصال عن سوريا. ورغم أن حقائق الجغرافيا تشير إلى استحالة تحقيق الانفصال حاليًا، إلا أن ذلك يعكس بوضوح حجم التشظي والانقسامات التي خلّفتها تداعيات ما بعد السابع من أكتوبر.

وتتزايد المخاوف من أن تؤدي التطورات التي تشهدها سوريا منذ سقوط نظام البعث إلى تقسيم البلاد بين أقاليم سنية وكردية وعلوية ودرزية. ويرى الكاتب اللبناني حازم صاغية أن "المنطقة برمّتها نظريًا قريبة من التقسيم"، ويشرح ذلك بالقول "إن النظام الاجتماعي العقائدي الفكري السياسي قد انهار في المنطقة، وأحداث السابع من أكتوبر كانت إعلانًا لانهياره".
ضرب قلب المحور
بعد تأكيد تحييد الخطر على الجبهة الشمالية لإسرائيل، بدأ بنيامين نتنياهو حربه المؤجلة ضد إيران، قلب المحور، في الثاني عشر من يونيو 2025.
استمرت الحرب اثني عشر يومًا، واستطاعت طهران خلالها الرد بقصف مدن إسرائيل بصواريخَ بعيدةِ المدى ألحقت أضرارًا جسيمة. لكن إيران تكبدت خسائر هائلة في منظومتها للصواريخ بعيدة المدى، وبرنامجها النووي، فضلًا عن مقتل عدد كبير من العلماء الذين عملوا على هذا البرنامج، في عمليات اغتيال دقيقة.
ويقول يعقوب عميدرور، مستشار الأمن القومي الإسرائيلي السابق، إنه "لتحقيق كل ذلك، كان علينا فتح المجال الجوي لإيران. وبالفعل في غضون أيام قليلة، كنا نتحرك فوق إيران كما لو كنا فوق غزة. ومن أجل تحقيق ذلك كان علينا تدمير الدفاعات الجوية الإيرانية، وربما دمرنا 85 في المئة منها، وأخّرنا قدرتها على المبادرة بقتل أهم 25 جنرالًا في المؤسسة العسكرية الإيرانية".
لم تنكسر إيران، وليس من المتوقع أن تغير سياساتِها قريبًا، بحسب ما أكد الكثير من قادتها فور انتهاء الحرب. لكن وكما في حالة حزب الله، عكست هذه الحرب حجم اختراقها استخباراتيًا، وتخلُّف قدراتِها تكنولوجيًا.
لا خطوط حمر
اعتُبرت الهجمات على إيران إنجازًا كبيرًا لحكومة بنيامين نتنياهو، وحظيت بتأييد داخلي واسع، غير أن إسرائيل لم تتوقف عند هذا الحد، بل مضت أبعد من ذلك.. ففي خطوة وُصفت بأنها سابقة في تاريخ الصراع الإقليمي، استهدفت صواريخها العاصمة القطرية الدوحة في التاسع من أيلول، محاولةً اغتيال عدد من أعضاء المكتب السياسي لحركة حماس، في أول قصف من نوعه يطال دولة خليجية.
وعلّقت الدوحة دورها في الوساطة لوقف الحرب في غزة بعد الضربة، قبل أن تعود وتستأنفه بعد اتصال نتنياهو برئيس الوزراء القطري الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني واعتذاره له متعهدًا بالامتناع عن مهاجمة قطر مجددًا.
دوامة العنف المفتوحة
يتابع المؤرخ الإسرائيلي اليساري المعارض للصهيونية، آفي شلايم، من منفاه الاختياري في مدينة أكسفورد البريطانية بقلق كبير مستقبل المنطقة في ظل سياسات الحكومة الإسرائيلية اليمينية. ويقول لبي بي سي إن "الهدف الإسرائيلي هو تغيير الجغرافيا السياسية للمنطقة، لذا فإن إسرائيل تشن حربًا إقليمية، ليس فقط ضد حماس، وإنما ضد جميع جيرانها وخصومها لتحقيق الهيمنة العسكرية في المنطقة".
ويرى شلايم أنه نتيجة لهذه السياسة "فمن غير المرجح أن تنضم السعودية إلى اتفاقيات التطبيع (اتفاقات أبراهام)، ومن الواضح أيضًا أن الدول التي وقّعت على هذه الاتفاقيات، تشعر الآن بغضب شديد من سلوك إسرائيل، ولا تملك إمكانية التراجع عنها".

ويؤيد الكاتب اللبناني حازم صاغية توقعات شلايم من أن "إسرائيل الحالية تسير باتجاه مزيد من العنف والإخضاع". لكنه يرى أن إسرائيل "تتكبّد هزائم معنوية كبرى رغم انتصاراتها العسكرية، بالنظر إلى تراجع صورتها عالميًا".
ومع دخول المنطقة العام الثالث على هجمات السابع من أكتوبر، يبدو واضحًا أن ما كان يعرف بمحور المقاومة قد تلقّى ضربات موجعة، تركته يترنح، ولكنه لم يعلن هزيمته بعد. وبالمقابل تنتصر إسرائيل عسكريًا، وتبدو مستعدة لمواصلة حربها على عدة جبهات، لكن تحويل هذا النصر إلى مكاسب سياسية لا يبدو بالأمر اليسير، فما تؤكده زيارة المنطقة أن ما خلّفته هذه الحرب من قتل ودمار ومآسٍ وغضب وكراهية سيحتاج عقودًا لتجاوزه، ومن المتوقع أن يظل يغذي دوامة العنف التي تشهدها المنطقة لأجيال جديدة.