إعلان

كيف يساعد تطعيم القرود في منع تفشي وباء جديد؟

03:34 م السبت 13 فبراير 2021

قرد

تطبيق مصراوي

لرؤيــــه أصدق للأحــــداث

لندن- (بي بي سي):

في يوم غائم من أيام أكتوبر انطلق فريق من العلماء إلى الغابة الأطلسية في البرازيل، بحثا عن القرود. وحمل أحد الرجال أداة تبدو كهوائي تلفاز أو منجل، بينما كانت امرأة بجانبه تحمل قفصا معدنيا صغيرا، أو بالأحرى مصيدة، وحقيبتين مملوءتين بالموز.

وكانت مهمتهم تتلخص في الحيلولة دون تفشي الحمى الصفراء بين القرود قبل أن تنتشر بين البشر.

صحيح أن البرازيل، التي سجل فيها أعلى معدل وفيات جراء كوفيد-19 في العالم بعد الولايات المتحدة، لا تزال تخوض معركة لاحتواء الجائحة، إلا أن العلماء أثاروا مخاوف حيال تفشي هذا المرض الآخر الأشد فتكا في هذه الدولة الواقعة في أمريكا الجنوبية مرة أخرى. إذ يصاب بمرض الحمى الصفراء 200 ألف شخص ويموت منهم 30 ألف شخص سنويا، أي أكثر من ضحايا الهجمات الإرهابية وحوادث الطائرات معا.

والحمى الصفراء مرض فيروسي ينتقل عن طريق البعوض بين البشر والرئيسيات، وتتضمن أعراضه الحمى الشديدة والصداع وفي بعض الحالات اليرقان، أو اصفرار الجلد الذي يستمد منه المرض اسمه. وقد يؤدي المرض إلى النزيف الداخلي والفشل الكبدي في الحالات الخطيرة.

ويودي المرض بحياة نحو 15 في المئة من المصابين، ولولا اللقاح لكان معدل الوفيات جراء الإصابة بالمرض أعلى كثيرا مقارنة بكوفيد-19.

وقد سُجل في البرازيل في السنوات الأخيرة أعلى معدل إصابات بالحمى الصفراء في العالم. وفي ديسمبر/كانون الأول الماضي تفشى المرض في ميناس غرايس وانتشر إلى ولاية إسبريتو سانتو المجاورة، وكلاهما يقع وسط الغابة الأطلسية.

ويحتاج في الوقت الراهن نحو 40 مليون شخص في المناطق المعرضة لخطر انتشار الحمى الصفراء في البرازيل للتطعيمات. وتفشى المرض في عام 2017 في البرازيل، وكانت ولايتا ريو دي جانيرو وميناس غراتيس بؤرتين لانتشار العدوى. وتخطى عدد الإصابات 3,000 حالة وتوفي نحو 400 شخص في غضون شهور.

ويقول كارلوس رامون رويز ميراندا، عالم بيولوجيا حفظ الموارد بجامعة شمالي ريو دي جانيرو: "عندما تكون الرئيسيات محصورة في غابات صغيرة عالية الكثافة، فمن السهل أن تنتقل العدوى للجميع". وفي غابات البرازيل التي ينتشر فيها البعوض بكثافة، ينتقل المرض سريعا بين قرود الأسد الذهبي وبين البشر.

ويبدو أن الأنشطة البشرية لعبت دورا كبيرا في سرعة انتشار المرض بين البشر. فالتعدي المتزايد على الغابات تسبب في تقليص التنوع الحيوي واقتراب البشر أكثر من اللازم من الرئيسيات.

تحدي التطعيم

وعلى بعد 80 كيلومترا من الغابة التي يبحث فيها العلماء عن القرود، تقع مدينة ريو دي جانيرو، سادس أكبر المدن في الأمريكتين، وتبعد عنها مدينة ساو باولو، أكبر المدن في النصف الغربي من الكرة الأرضية، بست ساعات بالسيارة.

ويوفر قرب المسافات بين المدن المكتظة بالسكان وبين الغابات البيئة الخصبة لظهور جائحة لم نشهد لها مثيلا منذ اكتشاف لقاح الحمى الصفراء قبل نحو قرن مضى.

وفي عام 2018، أعلن وزير الصحة البرازيلي عن حملة لتطعيم نحو 80 مليون شخص في البرازيل ضد الحمى الصفراء. وبينما كانت الاستجابة عالية في بعض المناطق، حيث تلقى 95 في المئة من السكان اللقاح، فإن معدل التطعيم ضد الحمى الصفراء في أكبر مدن البرازيل يكاد لا يتجاوز 50 في المئة.

وذلك لأن الكثير من البرازيليين لا يثقون في التوجيهات الحكومية ذات الصلة بالصحة العامة. إذ يزعم الكثيرون في البرازيل، التي يعشش فيها الفساد، أن ثمة جهة ما ستتربح من التطعيمات، رغم أنها توزع على الناس مجانا. وقد عرقل انعدام الثقة جهود تطعيم 23 مليون شخص في ساو باولو وريو دي جانيرو. إذ أشيع بعد جائحة 2017 عبر تطبيقات الرسائل الفورية أن اللقاح غير فعال وامتنع البعض عن الحصول عليه.

وقد يفاقم نقص إمدادات اللقاحات هذه المشكلة. إذ دعت منظمة الصحة العالمية شركات الأدوية لزيادة إنتاج اللقاح المضاد للحمى الصفراء. ولهذا لم يحصل سوى نصف سكان ريو دي جانيرو على اللقاح.

لكن ثمة طريقة بديلة لمكافحة المرض. فبينما يبلغ عدد سكان العالم 7.8 مليار شخص، فإن عدد قرود الأسد الذهبي لا يتجاوز نحو 2,500 قرد. ولهذا قد يساهم تطعيم هذه القرود الصغيرة في منع تفشي المرض بين البشر.

ويقول رويز ميراندا: "في حال تطعيم القرود، سيقل عدد الناقلين المحتملين للفيروس لتحقيق مناعة القطيع".

التعامل مع القرود

كانت قرود الأسد الذهبي، التي تبدو كالكرات النارية وسط الأشجار الخضراء، تعيش في مناطق شاسعة من غابة الأطلسي بالبرازيل. لكن في السبعينيات من القرن الماضي، أدى تزايد قطع الأشجار إلى تدمير مواطنها. وفي عام 1971، لم يتبق منها سوى 400 قرد في الغابات، وأصبحت مهددة بشدة بالانقراض.

لكن في عام 2014، زادت أعداد هذه القرود مرة أخرى، بفضل جهود خبراء حفظ البيئة الذين نقلوا العشرات المتبقية منها إلى محميات طبيعية على مشارف ريو دي جانيرو.

لكن في عام 2017، تفشى وباء الحمى الصفراء. ويقول رويز ميراندا إن مزارعا أبلغ عن نفوق قرد صغير في الغابة، وهو أمر نادر الحدوث، واكتشف ميراندا وزملاؤه أنه كان مصابا بالحمى الصفراء. ثم سرعان ما عثروا على قرود نافقة أخرى. وأودت هذه الجائحة بحياة أكثر من 4000 قرد. وتراوح معدل الوفيات بين بعض الأنواع بين 80 و90 في المئة.

ويقول ميراندا إن عدد قرود الأسد الذهبي انخفضت من 3700 إلى 2600 قرد في أقل من سنة.

وكشف تفشي المرض في عام 2017 أن قرود الأسد الذهبي معرضة أيضا للإصابة بالمرض. ويقول ميراندا: "إن الحيوانات البرية قد تصبح أيضا فريسة للمرض وليس البشر وحدهم".

وتضم البرازيل أنواعا من الرئيسيات غير موجودة في أي بلد آخر في العالم. ولكي ننقذ البشر من المرض قد نحتاج أولا لإنقاذ قرود الأسد الذهبي.

اصطياد القرود

وفي الطريق إلى محمية بوكو داس أنتاس البيولوجية، عددت ميريلا دارك، الباحثة في علم الوراثة والرئيسيات بجامعة شمالي ريو دي جانيرو، مظاهر الزحف العمراني على الغابات، بدءا من الطرق السريعة ونظم مستودعات المياه الجوفية ومزارع الموز، وحتى مراعي الماشية.

وعندما وصل فريق جمعية قرود الأسد الذهبي، التي لا تهدف للربح، بقيادة أندريا مارتنز، إلى الغابة، استخدم أحد الباحثين جهازا لتعقب حركة القرود في الغابة باستخدام نظام التموضع العالمي. ووضع آخرون مصيدتين مملوءتين بالموز بين الأشجار.

وعندما تمكن الفريق من اصطياد عدد كاف من هذه القرود الصغيرة، عادوا إلى المعامل وشرعوا في تخدير القرود لإجراء الفحوصات اللازمة، مثل قياس الحرارة والوزن وجمع عينات منها، ثم تطعيمها. وأزال الباحثون الشعر عن بطونها قبل حقنها باللقاح.

وبعد الانتهاء من تطعيمها، أعادها الفريق إلى الغابة لتستيقظ من سباتها وسط الأشجار. ويعتزم الفريق تطعيم 500 من قرود الأسد الذهبي على مدى عامين.

مشكلة البشر

ربما تكون الحمى الصفراء، كشأن كوفيد-19، بدأت من الحيوانات، لكن البشر أسهموا في نشرها حول العالم.

ويقول جوليو سيزار بيكا ماركيز، أستاذ الإنسانيات بالجامعة الكاثوليكية البابوية في ريو غراندي دو سول: "الحمى الصفراء هي مرض منقول من أفريقيا، فلم يكن موجودا هنا قبل تجارة العبيد". لكن الأمريكتين لم تكونا مستعدتين للمرض.

ويقول ماركيز: "الرئيسيات في أفريقيا لديها مقاومة طبيعية ضد الفيروس. لكن الرئيسيات في أمريكا الجنوبية لم يكن قد سبق لها الإصابة بالفيروس ولم تتطور لديها مناعة ضده، ولهذا فإن بعضها أكثر تأثرا بمراحل بالفيروس مقارنة بالرئيسيات في أفريقيا، وقد تموت بسهولة".

وتنتشر الحمى الصفراء عندما تلدغ أنثى البعوض المصابين بالعدوى من البشر أو القرود، ثم تنقل العدوى إلى غيرهم عند لدغهم. ويقول ميراندا إن الفيروس قد يظل نشطا في مجرى دم الرئيسيات لنحو أربعة إلى ستة أيام، وقد يصاب البعوض بالعدوى عند لدغ المصاب في هذه الفترة. ولهذا تساهم القرود في نشر الأمراض التي ينقلها البعوض.

وقد زاد دور الرئيسيات في نشر العدوى بسبب تسارع وتيرة قطع الأشجار. وتغطي الغابة الأطلسية في البرازيل مساحة 100 ألف كيلومتر مربع، لكنها كانت في الماضي أكبر بنحو 12 مرة.

وأدى تقليص رقعة الغابات إلى زيادة مخاطر انتقال العدوى بين الرئيسيات التي أصبحت تعيش في غابات أصغر حجما وأعلى كثافة. ويزيد الزحف العمراني على هذه المناطق من مخاطر انتقال مسببات الأمراض من الحيوانات إلى البشر.

وفي العقود الماضية كان الطلب العالمي على الأخشاب هو المحرك الرئيسي لقطع الأشجار في غابات الأمازون. لكن الآن، أصبح المحرك الرئيسي لقطع الأشجار هو الطلب على اللحوم. إذ يبلغ عدد رؤوس الأبقار في منطقة الأمازون بالبرازيل 200 مليون رأس. وقد استخدمت 80 في المئة من الأراضي التي أزيلت منها الأشجار في غابات الأمازون لتربية الأبقار.

يخدر الباحثون الرئيسيات قبل إجراء الفحوصات اللازمة لإعطائها اللقاح

ويقول ماركيز: "يشغل رعاة الماشية مساحات كبيرة من غابات الأمازون ويحرقون أشجارها". لكن البرازيل لا تتحمل وحدها مسؤولية تحويل الغابات إلى مراع للماشية، فهذه اللحوم تصدر إلى الدول مرتفعة الدخل التي تستهلك كميات هائلة من اللحوم، كالولايات المتحدة.

والنتيجة أن الغابات الكبيرة انقسمت إلى مجموعة غابات صغيرة متفرقة تتخللها مناطق سكنية، وانخفض التنوع البيولوجي في هذه الغابات. ويقول ميراندا: "إن التنوع البيولوجي يعمل كحاجز يقي البشر من الأمراض. فكلما زاد التدهور البيئي، زادت قدرة المرض على استيطان المنطقة".

وقد أجبرت هذه التغيرات القرود على التنقل بين المساحات التي يعيش فيها البشر في الغابة الأطلسية، وأصبحوا أكثر عرضة للإصابة بالأمراض التي ينقلها البعوض بين البشر. ويقول ميراندا: "يعيش القرود والبشر معا بالقرب من الأراضي الزراعية. وزادت فرص الاحتكاك بين البشر والقرود".

وتقع حافة الغابة الأطلسية على مشارف ريو دي جانيرو، التي يتجاوز عدد سكانها 12 مليون نسمة. ويعيش أكثر من 148 مليون شخص في المنطقة البيئية للغابة الأطلسية بالبرازيل.

وكل هذه العوامل تزيد احتمالات انتشار مرض الحمى الصفراء، لا سيما لأن البشر يقطعون مسافات طويلة في غضون دقائق أو ساعات. ويرى العلماء أن التفشي في 2017 في البرازيل كشف عن مدى قدرة البشر على نشر مرض الحمى الصفراء من منطقة إلى أخرى في فترة وجيزة.

حدود الغابة

يرى الخبراء الصحيون أن البشر قد يسهمون في منع تفشي مرض الحمى الصفراء الفتاك من خلال تطعيم أكبر عدد ممكن من الناس ضد المرض.

لكن علماء الرئيسيات يرون أن ثمة طريقة أخرى للحد من انتشاره وهي الامتناع عن تدمير الغابات في البرازيل والحفاظ على التنوع الحيوي.

ويقول ماردون كاسترو رودريغز، البالغ من العمر 32 عاما ويمتلك مزرعة صغيرة بمحاذاة الغابة، إن المزارعين دأبوا على قطع الأشجار لزراعة المحاصيل، فإذا كان المحصول ضعيفا، يحولون الغابة إلى مراع للأبقار، ويقطعون المزيد من الأشجار.

وتقول آنا بياتريز كورديرو، التي تعمل في السياحة البيئية، إن نزوح الناس من المناطق الريفية إلى المدن قد يساعد على استعادة الغطاء النباتي لأن الناس سيهجرون هذه المناطق. وانتقلت كورديرو من مدينة ريو دي جانيرو إلى بلدة سيلفا جارديم بالقرب من الغابة، وتزرع الأزهار والأشجار الأصلية في الأراضي التي أزيلت منها الأشجار وتنظم رحلات تعليمية للأطفال والبالغين من المدن.

ولاحظت كورديرا زيادة التنوع الحيوي في الغابات مقارنة بالسنوات الـ 15 الماضية.

وتقول كارين ستراير، أستاذة الإنسانيات بجامعة ويسكونسين ماديسون، إن قرود الأسد الذهبي قد تسهم في تنبيه البشر إلى انتشار مرض الحمى الصفراء، لأن المرض سينتشر بين أفرادها أولا قبل انتقاله للبشر.

لكن في خضم وباء 2017، تعرض العشرات من قرود الأسد الذهبي للحرق أو الرشق بالحجارة أو إطلاق النار بعد أن أشيع أنها مصدر لانتشار العدوى.

ويقول ميراندا: "كانت الحكومة المحلية في الجوائح السابقة تقتل القرود لاحتواء الانتشار. وأطلقت وزارة الصحة في فترة ما على مرض الحمى الصفراء (مرض القرود)" مشيرا إلى أنه وزملاءه كانوا يبذلون ما في وسعهم لمنع الناس من قتل القرود.

ويحذر المسؤولون الصحيون من أن حالات انتشار الحمى الصفراء القادمة ستكون أسوأ ما لم تتخذ خطوات لتطعيم أكبر عدد من البشر والقرود. وتشير التقديرات إلى أن البرازيل ستحتاج لنحو 226 مليون جرعة من اللقاح البشري المضاد للحمى الصفراء بحلول 2026.

ولحسن الحظ أن اللقاح الفعال ضد المرض متاح على نطاق واسع. ويقول العلماء إنه في حالة توفر التمويل الكافي وتأمين الإمدادات اللازمة من اللقاح، سنتمكن من احتواء مرض الحمى الصفراء قبل انتشاره.

هذا المحتوى من

فيديو قد يعجبك: