إعلان

الذكاء الاصطناعي: ماذا سيتبقى من القدرات المميزة للبشر؟

01:53 م الإثنين 20 مارس 2017

تحقق شركة غوغل تطورا ملحوظا في مجال السيارات ذاتية

تطبيق مصراوي

لرؤيــــه أصدق للأحــــداث

لندن (بي بي سي)
في غضون بضعة عقود من الآن، سيصبح لتقنيات "الذكاء الاصطناعي" القدرات ذاتها التي نحسب أنها تجعلنا متميزين كبشر. ويشكل ذلك تحديا كبيرا في عصرنا هذا؛ كما يقول الباحث فيكتور ماير-شونبرغر. وقد يتطلب التعامل مع هذا التحدي التصرف على نحو لا عقلاني.

أحد أهم الأخبار التي وردت من الولايات المتحدة مطلع العام الجاري لم يأت من البيت الأبيض، أو من على حساب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على موقع تويتر، وإنما جاء في ثنايا تقرير مُقدم إلى إدارة المركبات التي تعمل بالمحركات في ولاية كاليفورنيا الأمريكية، ونشرته الإدارة على موقعها الإلكتروني.

ويتناول هذا التقرير بشكل مفصل الجهود التي تبذلها شركة غوغل (أو للدقة شركة وايمو التابعة لها) لجعل القيادة الآلية حقيقة واقعة. فطبقا للتقرير، قطعت سيارات غوغل ذاتية القيادة خلال عام 2016 ما مجموعه 635 ألف و868 ميلا.

ويشير إلى أن الأمر تطلب تدخلا بشريا في 124 من حالات تجريب هذه السيارات، وهو ما يعني تدخلا واحدا فحسب كل نحو خمسة آلاف ميل من القيادة الذاتية.

والأمر الأكثر إثارة للإعجاب في هذا الشأن، يتمثل في ذاك التقدم الذي أُحرِز خلال عام واحد فقط على صعيد السيارات ذاتية القيادة، فقد تقلص معدل التدخلات البشرية في هذا الصدد من 0.8 مرة كل ألف ميل إلى 0.2 فحسب، وهو ما يمثل تحسنا بنسبة 400 في المئة.

وبهذا المعدل من التقدم، لن تلبث أن تتفوق قدرة سيارات غوغل على القيادة، على قدراتي في هذا المضمار، في وقت لاحق من العام الجاري.

في حقبة ما، بدت قيادة السيارات مهارة يمتلكها البشر دون سواهم. ولكننا قلنا ذلك - يوما ما - عن لعبة الشطرنج أيضا، ثم ألحق حاسبٌ آلي الهزيمة بلاعب كان بطلا للعالم، مرات عدة. بعد ذلك، اعْتُبِرت لعبة "غو" - وهي من بين الألعاب التي تشحذ التفكير الاستراتيجي - الاختبار الحقيقي لقدرة البشر على التفكير، وليس الشطرنج.

وفي عام 2016، تفوق جهاز كمبيوتر على أحد أبرز محترفي هذه اللعبة على مستوى العالم.

وفي عام 2011، تفوق كمبيوتر "واتسون" - الذي طورته شركة "آي بي إم" - في برنامج "جيُباردي" (المحك) للمسابقات؛ الذي كان يُفترض أنه يشكل بدوره مضمارا يحتكره البشر وحدهم.

والآن، يوزع جهاز الكمبيوتر وقته بين رصد وتحديد الشامات المصابة بالسرطان في أجسادنا، وتحضير أطعمة بناء على وصفات مبتكرة، بجانب أنشطة أخرى مختلفة.

ومع غزو أجهزة الكمبيوتر مجالات كانت مقصورة في السابق على البشر، وتتطلب معرفة ووضع استراتيجيات، بل وابتكارا كذلك، يظهر السؤال: ما الذي سيعنيه أن تكون إنسانا في المستقبل؟

ويشعر البعض بالقلق من أن استخدام السيارات والشاحنات ذاتية القيادة قد يؤدي إلى الاستغناء عن ملايين من السائقين المحترفين (وهم محقون في ذلك)، وكذلك إلى إحداث اضطرابات في صناعات بأسرها (وهذا صحيح أيضا!).

لكنني أشعر بالقلق بشأن طفلي الذي لم يتجاوز عمره ست سنوات، فما الذي سيكون عليه موقعه المستقبلي في عالم تُلحق بنا الآلات فيه الهزيمة في مجال تلو الآخر؟

فما الذي سيفعله، وكيف سيتعامل مع هذه الآلات التي باتت شديدة الذكاء أكثر من أي وقت مضى؟ وما هي طبيعة الإسهامات التي سيقدمها هو وأقرانه من البشر للعالم الذي سيعيشون فيه؟

فلن يكون بوسعه إجراء عملية حسابية أو حل معادلة رياضية بشكل أسرع من الكمبيوتر. ومقارنة بالكمبيوتر أيضا، لن يصبح بمقدور طفلي أن يغدو أسرع في الكتابة والطباعة، أو أفضل في القيادة، أو حتى الطيران على نحو أكثر أمانا.

ربما سيواصل لعب الشطرنج مع أصدقائه، ولكن لن تتاح له الفرصة بعد الآن ليصبح أفضل لاعب شطرنج على وجه الأرض، نظرا لأنه من بني البشر.

وربما سيتسنى له أن ينعم بالقدرة على الحديث بعدة لغات (كما يفعل الآن بالفعل)، ولكن ذلك لن يشكل ميزة تنافسية له في حياته المهنية بعد الآن، بالنظر إلى ما أُحْرِز من تقدم مؤخرا على صعيد الأجهزة القادرة على الترجمة الفورية.

يرتبط كل ذلك - في الواقع - بسؤال شديد البساطة: ما هي الأشياء التي نختص بها دون غيرنا؟ وما هي القيمة التي ستبقى مرتبطة بنا على الدوام؟

لا يمكن أن تكون مثل هذه الأشياء متعلقة بمهارات تتفوق علينا الآلات فيها بالفعل، مثل تلك المرتبطة بالحساب أو الطباعة. كما أنها لا تتعلق بالتفكير المنطقي العقلاني، إذ أننا نفتقر كبشر إلى هذا النوع من التفكير، في ظل كل ما يشوب تفكيرنا من تحيزات وعواطف.

لذا، ربما نحتاج هنا إلى التفكير في صفات تقع على الجانب الآخر تماما من هذا المقياس، مثل الابتكار المتطرف والإبداع اللاعقلاني، بل ويمكن أن نضيف كذلك جرعة من الجنون المحض المخالف للمنطق، من أجل أن يحل ذلك كله محل المنطق الواقعي الصارم.

أي أن نتحلى ببعض صفات شخصية "كيرك" الخيالية، التي تظهر في أفلام ومسلسلات سلسلة "ستار تريك"، بدلا من أن نتسم بخصال شخصية "سبوك" التي تتضمنها السلسلة نفسها.

وحتى هذه اللحظة، تعاني الآلات كثيرا لمحاكاة صفات مثل تلك التي تحدثنا عنها للتو، من قبيل الإيمان بشدة بأفكار من العسير إثبات صحتها، والتصرف بقدر من العشوائية في هذا الشأن، على نحوٍ كافٍ لجعل سلوك الإنسان عسيرا على التوقع من جانب برنامج كمبيوتر. وتشكل معاناة الآلات في هذا الشأن فرصة بالنسبة لنا.

لا اقترح هنا أن نكف عن التفكير العقلاني والمنطقي والنقدي. في حقيقة الأمر، فإن تفكيري المستمر في القيم التي نربطها بالعقلانية والتعليم والتنوير هو تحديدا ما يحدوني للاعتقاد بأننا قد نرغب في الاحتفاء بقدر من الصفات المعاكسة لذلك تماما.

أود أن أشدد هنا على أنني لست من بين رافضي الآلات أو المعادين لها، بل على العكس تماما. فإذا واصلنا تطوير وتحسين أداء أجهزة معالجة المعلومات، وجعلناها تتكيف وتتعلم من كل تفاعل مع العالم، ومن كل البيانات التي تُغذى بها، فسيفضي ذلك إلى أن يصبح لدينا قريبا "مساعدون عقلانيون مفيدون".

وسوف يُمَكننا "هؤلاء المساعدون" من التغلب على بعض القيود النابعة من كوننا بشرا، والتي تحد من قدراتنا على تحويل المعلومات إلى قرارات عاقلة راشدة. ولا شك في أن مستوى "أولئك المساعدين" سيتحسن في هذا المضمار بمرور الوقت.

لذا، ففي إطار منظومة تقسيم العمل هذه، يجب أن نجعل هدف إسهاماتنا البشرية تعزيز وتكملة قدرات الآلات على التفكير المنطقي لا التنافس معها، لأن ذلك سيميزنا عنها بشكل مستدام. ويخلق هذا الفارق بيننا وبين الآلات قيمة في حد ذاته.

ومن هذا المنطلق، يتعين علينا - إذا كنتُ محقا في رؤيتي - أن نعزز خلال تعليمنا لأطفالنا الروح الإبداعية والخلاقة، والمحاولات غير التقليدية، أو حتى الأفكار اللاعقلانية.

ولا يعود ذلك إلى أن اللاعقلانية تشكل نعيما في حد ذاتها، وإنما لأن جرعة من الإبداع اللاعقلاني ستكون مُكملة ومُتممة لقدرات الأجهزة والآلات على أداء مهامها على نحو منطقي وعقلاني. وسيضمن ذلك أن يبقى لنا مكانٌ على طاولة التطور.

رغم ذلك؛ فلا يستطيع نظامنا التعليمي - للأسف - الارتقاء إلى مستوى واقع بات وشيكا، يتعلق بما يعتبره البعض "العصر الثاني للآلة"، في إشارة إلى ثورة التكنولوجيا الرقمية، التي تشكل حقبة تالية في نظر بعض المفكرين، لحقبة العصر الأول للآلات المتمثل في الثورة الصناعية.

وعلى غرار الفلاحين الذين ظل تفكيرهم عالقا في حقبة ما قبل الثورة الصناعية، صُممت المناهج في مدارسنا وجامعاتنا على نحو يرمي إلى قولبة طلابها بشكل يجعلهم - في الغالب - خُداما مطيعين للتفكير المنطقي والعقلاني، ويدفعهم لتطوير مهارات عفا عليها الزمن في التعامل مع آلات عتيقة الطراز بدورها.

فإذا كنا نأخذ التحدي الذي تُشكله الآلات على محمل الجد؛ فإن هذا يعني أننا بحاجة إلى تغيير ذلك الوضع وبسرعة. ولا ينفي ذلك أننا سنظل - بطبيعة الحال - بحاجة إلى تعليم أجيالنا الجديدة أهمية التفكير المنطقي المستند إلى الحقائق، وأن نعلمهم أنه كلما اتسمت هذه الحقائق بالدقة، كانت قراراتنا أكثر صحة وصوابا.

من جهة أخرى، فإننا نحتاج إلى مساعدة أطفالنا على تعلم كيفية العمل والتعاون - على أفضل وجه ممكن - مع الحاسبات الآلية الذكية، لتحسين عملية صنع القرار لدينا نحن بني البشر.

لكن الأهم من كل ذلك هو أن نُبقي في أذهاننا على منظور بعيد المدى مفاده: حتى إذا ما تمكنت الحاسبات الآلية من أن تفوقنا ذكاء، فإنه سيظل بوسعنا أن نبقى الأكثر ابتكارا وابداعا، إذا ما اعتبرنا النزعة الابتكارية والإبداعية إحدى القيم المُحَدِدة والمُمَيِزة لنا كبشر، على غرار الأفكار اللاعقلانية على نحو غير معتاد، أو العواطف والمشاعر السامية التي تختلج في صدورنا.

ومن المهم أيضا السير على هذا الدرب، لأن إحجامنا عن ذلك سيجعلنا عاجزين عن إضافة أي قيمة تُذكر للعالم في المستقبل، وهو ما قد يجعل أساس وجودنا في حد ذاته موضع شكوك.

على أي حال، يجدر بنا البدء في بذل هذه الجهود الآن، لأنه عندما يصبح وجود الإنسانية والغرض منها على المحك، يغدو التركيز على الخلافات الحزبية وتغطية مواقع التواصل الاجتماعي المكثفة بشدة لأخبار الرئيس الأمريكي، أمرا لا يختلف كثيرا عن إعادة ترتيب المقاعد على ظهر السفينة "تيتانيك"، وهي على وشك الغرق المحتوم.

هذا المحتوى من

فيديو قد يعجبك: