إعلان

ما تحكيه الأخبار عن الصناعة والجمهور

د.هشام عطية عبدالمقصود

ما تحكيه الأخبار عن الصناعة والجمهور

د. هشام عطية عبد المقصود
09:00 م الجمعة 21 فبراير 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

تاريخ طويل هو من عمر البشرية، منذ تواجد الإنسان الأول سعيًا وتنقلاً على سطح الأرض ليؤسس مقامه فيستقر، ثم التفت من حوله يبحث عن آخرين "يأنس" بهم فتتشكل المجموعات الإنسانية الأولى، والتي جمعها توافر موارد طبيعية متاحة أو احتياج جمعي لدرء خطر الكائنات المتوحشة وغوائل الطبيعة، وكان ذلك أبعد كثيرًا في الزمان وقبل أن يمتلك ذلك الإنسان وقتا وفكرًا؛ ليمد عينيه مستطلعًا خارج حدود ما يعرف ويجري أمامه، بحثا ونظرًا وتقصيًا عن أولئك الآخرين وتفاصيل معايشهم في مقاماتهم البعيدة عنه بحذر وشغف معًا، وهكذا نشأت "الأخبار".

وقد نمت حاجة الناس متسارعة؛ لأن يعرفوا أكثر ولم تسعفهم نطاقات عمل حواسهم الشخصية، ويمثل الناقل التاريخي الأكبر في مجال تحول الأخبار إلى مهنة وصناعة معًا، هو توسع مضطرد في مجالات الصناعة والتجارة، وتطور وسائل النقل والاتصالات، وما ترافق مع ذلك من تجسد منظومة الاستهلاك السلعي والخدمي وتبادلهما بين البشر عبر مساحات جغرافية ظلت تقترب في بعدها دوما بفعل ما تقوم به الأخبار من وظيفة جديدة، وبعد أن حدث انقطاع عن فترات اكتفاء المجموعات البشرية "المقيمة" باستهلاك ما تصنعه بيديها وإشباع الحاجات الأساسية لها وفق المتاح والممكن، وحيث تم التعرف على عوالم أخرى عبر وسائل النقل والأسفار والاكتشافات، وما تلي ذلك، وحلت تلك الأشياء في عيون الناظرين؛ لتكون مجال اشتهاء، فكانت الأخبار هي وسيلة تعريف الحواضر ببعضها وبما تضمه من جديد لمن هم في غير المكان، وربما توقيت الزمان وعلي اختلاف دوران الأرض حول نفسها وسطوع الشمس على بقاعها.

وهكذا نشأت مؤسسات مهنية تعني بالمهمة الجديدة التي وجدت لها احتياجا موسعًا اقتضى أن يتم التفرغ لها، تتركز وظيفتها في تنظيم نقل الأخبار لمن يحتاجونها وفق تقصي احتياجات هؤلاء الراغبين في المعرفة، فنشأت وسائل الإعلام الجماهيرية وتوسعت في نمطها وأشكالها وطرق أداء وظائفها لتلبي هذا الاحتياج وتترافق معه، ثم لتمضي بتواز مع تسارع نمط وتيرة استهلاك الجمهور لكل شيء، وما يتضمنه ذلك حالة ومحتوى تلك الأخبار "العادية"، وقد شهد ذلك مراحل شتى من بينها اعتقاد الصناع في فترة ما من تاريخ هذه الصناعة بأن احتياج الجمهور لتلك الأخبار المتعلقة بالحوادث "اليومية" والمألوفة من شؤون الحياة لم يعد مؤسسًا لارتباط "استثماري" لهذه المؤسسات، وبما فكروا أنه سعيًا وراء إشباع ما يطلبه أهل الاستهلاك يمكن لهم كسر "تابوهات" الثقافة والتقاليد وقواعد المهنة وأشياء أخرى.

اليوم، وقد صار كل ذلك جزءًا من تاريخ الصناعة فإن عمل البعض بذات شروطه من أجل استعادة الجمهور هو يقينا يخاصم خصائص العصر واهتمامات واحتياجات الجمهور "الجديد"، ثم التبرير اليسير بالقول إن اهتمام الجمهور بالأخبار يتقلص هو وقوع في هوة التبسيط مفتوحة الذراعين ترحيبًا بالمستسهلين.

ذلك أن حاجة الجمهور للأخبار لم تتقلص قط، لكن ربما المهم هو ربط الصناعة بفهم يتأسس على أنماط تصفح الجمهور للمحتوى الذي "يفضله" ويمثل سلوكا لمتابعاته المستمرة، ويمنحنا دخول الفيس بوك مؤخرًا حيز "الاستثمار" في صناعة الأخبار مساحة للتأمل، تلك الحالة التي مر عليها البعض عبورًا دون النظر إلى أنه يجدد بقاءه ونموه عبر توظيف المحتوى البشري "الخالد" متمثلا في الأخبار وقصصها ولكن على الطريقة "العصرية"، ولأن الفيس بوك صار أكبر "خزانة بيانات" ومنظومة تحليل للتصفحات والتفضيلات البشرية في المتابعة، وحيث إن 1.69 بليون شخص يتعاملون في كونه بشكل منتظم ويومي من جملة كوكب أرضي عدد سكانه 7.8 بليون شخص، وبهذا الرقم تعد أرض الفيس بوك ومجتمعه هي الدولة الافتراضية الأكبر في العالم والجغرافيا الأكثر نموا بشريا وبالطبع الأكثر استهلاكا للغذاء الأكثر طلبا واحتياجًا على هذه الجغرافيا وهي الأخبار بدلالاتها وسياقاتها المختلفة.

هكذا والآن يستثمر الفيس بوك في صناعة الأخبار عبر مبادرات بدأت في نهاية عام 2019 داخل الولايات المتحدة ذاتها، راغبًا في بقاء مستخدميه على منصته بإغرائهم بمزيد من تقديم نوع الأخبار التي يريدون تصفحها، وينتوي الفيس بوك توسيع ذلك بإقامة شراكات مع مؤسسات الإعلام والأخبار والضخ ماليًا في بيئة صناعة الأخبار التقليدية؛ لتقدم له مذاقات ما يفضلها جمهوره وينقل عنها ما يحدده لها، اعتمادًا على أن حاجة الجمهور للأخبار تنمو، وليس كما يراها المتكلسون متقلصة، في حين تبقي تساؤلاتهم عن أين ذهب الجمهور معلقة على نواصي من لم يبارحوا مقاعد أفكارهم في اتجاه المستقبل.

مضي زمن بعيد بين ذلك "الإعلامي" الذي يسأل عن الجديد، فيحصل عليه، ثم يمضي به منفردًا به حتى يقدمه للجمهور فيكون خبرًا، وبين مفهوم الجمهور المعاصر لطبيعة ومحتوى الأخبار، وحيث لم ينقطع قط احتياجه؛ لأن يعرف وبما يؤثر في معيشته وأفكاره وتفاعله مع أوجه الحياة بل وأحلامه وشغفه.

هذا دافع جديد ومحفز كبير لصناعة الأخبار "الحقيقية" لكي تنمو ويحتاج فقط صناع المهنة إذا أرادوا البقاء، ألا يستسلموا لمقولات النهاية التي تحملها فقط شاشات السينما الفسيحة في نهاية مدة العرض لكل فيلم جديد، بينما الحياة تمضي دوما خارج الشاشات، وحيث دوما هناك جديد، إن التكيف وإبداع الاستجابة لاهتمامات وتفضيلات الجمهور محتوى وشكلا هي قصة مستقبل المهنة الإعلامية لمن شاء إلي رؤية ذلك سبيلاً.

إعلان