symp
Symp
حكاية آخر وحيد قرن في مصر مشوار زيزي
ملف: رنا الجميعي
فوتوغرافيا: روجيه أنيس - محمد حسام الدين
فيديوجرافيك: محمد طارق - أحمد لطفي
إنفوجرافيك: مايكل عادل
تنفيذ: محمد عزت
إشراف عام: علاء الغطريفي

زيزي

symp

يُداهم الحزنُ المرءَ حين يعلم بوفاة أحد دون صُحبة... هكذا رحلت "زيزي" أيضًا، وحيدة. كانت مفاجأة بالنسبة للمسئولين، فعلى الرغم من سنها الكبيرة، فإنّ رحيلها جاء صادمًا، غير أن "زيزي" لم تُغادر تمامًا، ولكونها فريدة من نوعها، مرّت برحلة تحنيط امتدت لشهور عديدة، حتى تسكن مكانها الجديد، فـ"زيزي" هي آخر وحيد قرن في مصر ستستقر قريبًا داخل متحف التحنيط بحديقة الحيوان.

رحلتها في مصر

كانت رحلة زيزي طويلة؛ فقد أتت إلى مصر في 22 نوفمبر من عام 1983، لتسكن حديقة الحيوان بالجيزة، حينها كانت في السابعة عشرة من عمرها، فقد وُلدت زيزي عام 1966 في شرق أوروبا، كما تقول دكتورة مها صابر، المدير الإداري لحديقة الحيوان.

ظلّت زيزي تُعاني الوحدة، وقد جلبت الحديقة أنثى وحيد قرن في التسعينيات، وذكرًا آخر من الأراضي الفلسطينية المحتلة، لكن الاثنين نفقا مُبكرًا، وعادت زيزي إلى الوحدة مُجددًا منذ عام 2000، فشعور العزلة لم يكن ببعيد "كان بيبان عليها لما تزعل، بحس في وشها وعينيها"، يتذكر عم حمدي، أحد حُراسها، الأوقات التي تملّ فيه زيزي من قضاء ساعات وحيدة في "الجورة"، وهو بيت الحيوان المفتوح، فتُنكّس رأسها عائدة إلى الداخل مرة أخرى.

صحيح أن حيوان وحيد القرن لا يعيش داخل مجموعات كبيرة بالأساس، لكن الأنثى لا تعيش دون رُفقة أمها "والذكر بيكون ترانزيت في حياتهم" وفقًا لدكتورة مها، لكن حتى ذلك لم يكن مُتوفرًا في حالة زيزي، التي قضت سنوات شيخوختها وحيدة تمامًا، دون أية صُحبة.

مصدر الصور: أرشيف حديقة الحيوان

إعلان

يقوم حراس الحديقة بإطلاق الأسماء على الحيوانات؛ يُحاولون تدليلها حتى يسهل التعامل معها "الحيوان بيحب الاسم اللي يميزه بسهولة"، حيث يقضي الحراس حوالي تسع ساعات برفقتهم حتى يصيروا جُزءًا أصيلًا من حياتهم "بيبقوا عِشرة معانا"، وهكذا سمّى الحُراس "زيزي" محبّة، كما يُفسّر عم حمدي بابتسامة عالقة على شفتيه.

لم يتوقع أحد وفاة زيزي، على الرغم من أنها تعدّت متوسط السن، لكنّها كانت باقية وسط الجنينة كأحد سكانها الأصليين. في الثامنة من صباح يوم 21 مارس الماضي، فتح الحارس الباب، ليضع لها الأكل كما اعتاد كل يوم، لكن الحسرة ملأت أرجاء وجهه، حين وجدها ساكنة تمامًا، رحلت زيزي في هُدوء، دونما شكوى تسبق ذلك.

منذ ذلك الوقت، وقد صارت الحديقة بلا طعم بالنسبة لعم حمدي "كانت عاملة منظر في الجنينة، والجمهور بيسأل على زيزي لحد دلوقت"، عكف عم حمدي على رعايتها عشر سنوات، برفقة أربعة حراس آخرين يتناوبون العمل، لكن عم حمدي كان مُختلفًا.

لو غبت يوم بيروحوا عندها بصعوبة".. يقول عم حمدي، لأن زيزي التي تزن حوالي 2500 كجم، لم يكن التعامل معها سهلًا "ممكن تهاجم"، يتذكر الحارس مُبتسمًا ذلك اليوم الذي التقطت فيه عدسات الكاميرا صورة له مُمسكًا بقرن زيزي "مكنش حد يَجرؤ من الرجالة يعمل كدا"، ظلّ عم حمدي معها سنين عديدة حتى اعتادت عليه "كنت أجيب الخرطوم وأحمّيها، وأديها أكل تفضل تاكله طول اليوم، وأنضفها"، يسرح عم حمدي بنظره بعيدًا، ثم يقول "بيطمر في الحيوان عن البني آدم".

عائلتها الكبيرة

رغم وحدة زيزي، لكنها تنتمي إلى سلالة حيوان لازالت باقية على الأرض.

أيامها الأخيرة

حين ماتت زيزي، لم يكن عم حمدي بجوارها، حزن كثيرًا حين علم بالخبر "لو الجنينة مفيهاش حيوانات إحنا هنيجي ليه؟"، وصلت زيزي في السنوات الأخيرة إلى مرحلة الشيخوخة، تغيرت طباعها كثيرًا، تعرضت لما يتعرض له كبار السن "كتير تبقى عايزة تاكل حاجة بس مش عارفة تمضغها كويس"، فتُفضّل أطعمة سهلة المضغ "بتحب العلف بس متعرفش تاكله، ممكن ندشه لها"، تقول دكتورة مها.

كانت زيزي تُحب أكل الجزر والبطاطا والبرسيم والعلف "إحنا بنرعي الحيوان زي الطفل اللي في البيت"، يُضيف عم حمدي، لم تتألم قبل رحيلها، لكن لفت نظر الحراس والإدارة تقليلها للأكل، صار شكلها هزيلًا، وأضحت أقل حركة، أخذت زيزي تنزوي وحيدة، حتى رحلت.

فجأة بدا صمت حزين داخل الحديقة، سَكنَت الحيوانات للحظة، تُعزّي فقدان واحدة من سُكانها الأصليين الذين يبلغ عددهم حوالي 5700 حيوان، بجانب الحُزن المُسيطر على الحديقة، فإن الإدارة تُدرك مدى أهمية زيزي، حيث تتفاوت قيمة الحيوان، بحسب مدى انتشاره "لو الحيوان مش منتشر في مصر، بيكون ليه قيمة كبيرة".

لذا بدأت رحلة طويلة لتحنيط جسد آخر وحيد قرن في مصر "معندناش خرتيت متحنط في المتحف، غير هيكل واحد بس" تذكر المدير الإداري، وقد استغرقت الرحلة تسعة أشهر، انطلقت منذ يوم الرحيل.

symp

يُشبه التحنيط فن النحت، لكنه يعتمد في الأساس على أجساد الحيوانات، ويُسمى علم التحنيط بالإنجليزية "taxidermy"، ينقسم المصطلح إلى كلمتين؛ هما "taxi" أي تحريك، و"derma" هي كلمة يونانية تعني الجلد، أي تجسيد الجلد، وهو ما يقوم به دكتور رامز صابر، المشرف على عملية تحنيط زيزي.

مهمّة رامز تُشبه النحات أو الرسام، ويُسمى "التاكسي ديرمست" أي المُحنّط أو القائم بفعل التحنيط، بدأ رامز تلك المُغامرة بهمّة كبيرة، وشغف للرحلة الاستثنائية في مشواره، وتاريخ حديقة الحيوان.

كيف كانت الرحلة

Image Image Image Image Image

في اليوم الذي نفقت فيه زيزي، عكف 11 فردًا من عمال الحديقة، تحت إشراف المتخصصين في مجال الدباغ والتحنيط على سلخ الجلد باستخدام أدوات حادة، ولم يكن الأمر سهلًا أبدًا لسلخ جلد يزن وحده حوالي 500 كجم.


Image Image Image Image Image

بعدها انتقل الجلد إلى منطقة المدابغ بمصر القديمة، وقام المتخصصون في الدباغة هناك بتقليل سُمك جلد زيزي الثقيل، مرة بعد مرة، واستغرقت تلك المرحلة حوالي 15 يوم، تم فيها وضع مجموعة من الأحماض، تغلغلت بسهولة بين الأنسجة، بعد تقليل سمك الجلد.

في النهاية، تمت إضافة مادة كابريتيد الكروم، وهي مادة حافظة، ويحدث ذلك كله حتى يتأكد فريق العمل من حفظ الجلد من التلف والتحلل.


symp
symp

ومن أرشيف الصور الخاص بالحديقة تأتي المرحلة الثالثة، حيث يلزم أخذ المقاسات المضبوطة لجسد زيزي، حتى تتم صناعة قوالب جبسية لها نفس المقاسات التي كانت عليها، وتحديدًا حين كانت في مرحلة شبابها، لذا يقوم الفنيون المختصون بالعودة لصور زيزي في وقت عنفوانها.


Image Image Image Image Image Image Image Image Image

داخل مكان آخر في الوقت ذاته، كان يقوم أحد الفنيين بصناعة المُجسم من مادة الفيبر سهلة الحمل، ذلك المكان هو قرية الفخارين الموجودة بمنطقة الفسطاط.

بعدها تم تجسيد الجلد المُعالج كيميائيًا فوق المُجسم، باستخدام بعض الأدوات المعدنية المعدة لهذا الغرض، ثم تمت حياكة الجلد بإبر صلبة وخيط بلاستيك قوي.


Image Image Image Image Image Image

حينما انتهت حياكة الجلد على المُجسم، جاءت مرحلة "المحاكاة"، تأكد فيها فريق العمل من شكل زيزي، لتُشبه تلك التي كانت موجودة يومًا، وكان الفريق حريصا على مُحاكاتها بالضبط، حتى لون الجلد الغامق عند بعض المناطق، وحينما وُضعت العينين المصنوعتين من الزجاج، بدت زيزي كأنها قد عادت للحياة.

رامز وزيزي

لم يكن المُشرف على تلك الرحلة شخصًا عاديًا، بل كان حُبه الشديد للتحنيط -كمهنة نادرة داخل مصر-هو الدافع وراء البحث عن طريقة مُبتكرة توازي الطرق العالمية لتحنيط زيزي.

Image Image Image Image

لم تبدأ صلة زيزي، أنثى وحيد القرن، بدكتور رامز وهي جسد حي، بل بعد موتها، يؤمن الشاب الثلاثيني بأن التحنيط درب من الفن، وهو المسار الذي طبّق فيه كل علمه وحُبه في تلك المغامرة.

حين أُبلغ رامز بأنه سيكون المسئول عن تحنيط وحيد القرن، لم تسعْه الفرحة، فها هو على بُعد مسافة صغيرة من تجربة ثانية عظيمة في التحنيط. في 13 أغسطس 2015 نفق إنسان الغاب "بنجو" وكان عمره عشر سنوات، حينها تم تكليف رامز بتحنيطه، ويعتبر إنسان الغاب هو آخر حيوان عُرض داخل متحف التحنيط بالحديقة، ويرى إنسان الغاب الآن زوار المتحف ضمن مُحنطات عديدة مبهرة.

تذّكر رامز خلال رحلة تحنيط زيزي شغفه بذلك الفن الذي لم يظهر فجأة، بل بدا على ذلك الصغير في المدرسة الإعدادية، حين أغواه كتاب "فن التحنيط"، حتى تحوّل ذلك الفضول إلى هوس بمعرفة كل المعلومات عن تلك الهواية العجيبة "شدني التحنيط، وكنت عايز أعرف إزاي أقدر أخلي حيوان واقف على حيله، ويظهر إنه طبيعي، بس هو أصلًا ميت".

ويعتبر دكتور رامز من القلائل الذين يمارسون التحنيط في مصر، حيث تمنع الدولة الصيد والاتجار بالحيوانات البرية، لذا يعتبر التحنيط محظورًا بالتبعية.

symp

كانت حديقة الحيوان هي الجهة الطبيعية التي يُمكنها احتضان ذلك الشغف، وقد كانت واحدة من أمنيات رامز، الباحث في مركز البحوث الزراعية، ولطالما حلم الشاب بالعمل داخل الحديقة، بابتسامة يقول عن نفسه "عارفة عادل إمام في دور سفروت في مسرحية شاهد ماشفش حاجة، أهو أنا الشخص ده"، وبالفعل اتجه الشاب نحو الحديقة التي تعاون فيها منذ 2008.

حين كُلف رامز بتحنيط زيزي، وجد نفسه أمام تحدٍ جديد؛ فكان عليه البحث وراء أساليب فن التحنيط، التي جعلت رامز يتخذ أسلوبًا مُختلفًا؛ فقد كان من المعتاد استخدام مواد كيميائية شديدة السمية في التحنيط، لكنه طرق سبيلًا آخر، ففي مدابغ الجلود، وهي منطقة موجودة في مصر القديمة، تعرّف الباحث على مواد آمنة، هي التي استخدمها في تحنيط زيزي.

وكأن زيزي لم ترحل، فالمُجسّم الصناعي قادر على أن يُشبهها تمامًا، بعد التحنيط لم يستقر جسد وحيد القرن مباشرة في متحف التحنيط، الذي أنشئ عام 1906؛ فقد جاء الدور على هيئة الآثار، تحديدًا فرع التلف البيولوجي، "المحنطات بتتعامل معاملة الآثار"، وقامت اللجنة على رؤية مدى تطابقها للمواصفات، من حيث شدة الإضاءة ودرجة الحرارة ومدى قابلية الجسم للحفظ، وتم التصديق على صحّة المواصفات بالفعل.

نهاية المشوار

حين يرحل أحد السكان الأصليين للحديقة، يترك فراغًا، لكن إدارة الحديقة تُنظّم خطة للإكثار، فبدلًا من نفوق حيوان، يأتي آخر بديل، أو يُستبدل به آخر، هكذا يتحدث دكتور محمد رجائي، رئيس الإدارة المركزية لحدائق الحيوان والحفاظ على الحياة البرية، "بنبدّل مع حدائق عالمية"، حيث قامت الحديقة قبل ذلك بالتصديق على جلب حيوانات سبع البحر والزراف والحمار الوحشي، وفيها تتواصل الإدارة مع حدائق عالمية من دول عديدة، منها سلوفينيا والصين وجنوب أفريقيا، أما في حالة وحيد القرن، فلا تزال الحديقة تُفكر في شراء حيوان آخر، خاصة مع عدم وجود حيوان جاهز للتبادل.

لطالما كان نفوق حيوان داخل الحديقة خبرًا حزينًا، تخلو آثاره من بيته أو ما يُدعى "الجورة" التي ظلّ فيها سنين، يفتقده الحُراس والزوار التي لا تنقطع أسئلتهم عن "زيزي"، لكن يبقى العزاء أن زيزي ستظل موجودة لكن بجسد مُحنّط.

Image Image Image Image Image Image Image