انزحوا إلى الجنوب

جثامين الشهداء تفضح الكذب الإسرائيلي

"انزحوا إلى جنوب وادي غزة" جملة يرددها الاحتلال وقادته على مدار 47 يومًا، منذ بدء حرب السابع من أكتوبر، لأهالي قطاع غزة ممن يقيمون بمناطق الشمال والوسط، باعتبار أنّ الجنوب هو الأمان الوحيد لهم، وعدم خروجهم نحوه يعني الموت لا محالة.

البعض من العائلات قرر الانصياع خوفًا على صغارها، فخرجت متجهة نحو الوجهة الآمنة التي سردها الاحتلال لهم، لم يخالفوا معايير الأمان التي وضعها، وفور أن وطأت أقدامهم وادي غزة، شعروا أن الخطر بات بعيدًا عنهم، لم يدركوا أن التاريخ شاهدًا على خيانة هذا المحتل لمواثيقه، فاستهدفهم بطائراته وصواريخه بمناطق الجنوب وعلى طرقاته، لتنضم تلك العائلات إلى ذويها من الشهداء ممن رفضوا الخروج نحو الأمان.

عائلة عون



في السابع من أكتوبر وفي اليوم الأول من الحرب، استيقظ الشاب عون أبو شرار وزوجته على أصوات انفجارات شديدة، لم يدرك الشاب ماذا حدث، أسرع نحو شرفته فإذا به يتفاجأ بأعداد من القذائف تتساقط من سماء غزة تدمر كل ما حولها، فتيقن أن الاحتلال بدأ حربًا جديدة على مدينته كعادة ما يقوم به بين الحين والآخر.

الشاب الذي كان يعيش بحي الرمال في شمال غزة، أحد الأحياء الذي استهدفته طائرات الاحتلال بغارات عنيفة على مدار شهر من الحرب، في حديثه لمصراوي، سرد تفاصيل ما حدث معه في الأيام الأولى من الحرب، "لقد عاصرت وعايشت سبعة حروب في قطاع غزة منذ أن كان عمري 13 سنة، لم تكن القذائف التي تلقيها الطائرات في الحروب السابقة مثل التي تستخدمها في حرب السابع من أكتوبر، فالأخيرة ضخمة ومرعبة".



في الـ12 من أكتوبر خرج جيش الاحتلال الإسرائيلي، يهدد ما يقرب من نصف سكان غزة البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة، للنزوح إلى النصف الجنوبي خلال 24 ساعة. وقال الجيش إن الأمر يهدف إلى إبعاد المدنيين عن أهداف حركة حماس، التي يعتقد أنها تتركز في الشمال، حينها قال جيش الاحتلال أن المنطقة سيكون بها نشاط عسكري كبير، ولهذا السبب نطلب من المدنيين التوجه جنوب نهر غزة.

وفي الـ18 من أكتوبر حثّ الجيش، سكان الشمال من جديد على الانتقال إلى ما سمّاه منطقة إنسانية في المواصي، على ساحل جنوب غزة، وجدد الاحتلال تحذيراته في الـ22 من أكتوبر مرفقة بمنشورات ألقتها طائراته على المواطنين، قائلة: " إن أي شخص يقيم في الشمال يمكن وصفه متعاطفاً مع حماس إذا لم يغادر".


وفي الثالث عشر من أكتوبر ومع شدة القصف على مناطق شمال غزة، وتحديدًا الحي الذي يعيش به الشاب وعائلته" حى الرمال"، تلقى اتصالات هاتفية مكررة من جيش الاحتلال الإسرائيلي يخبره بإخلاء منزله فورًا، ليكون بذلك الأوفر حظا من العديد من أبناء مدينته ممن لم يتلقوا إنذارًا بالإخلاء وقُصف منزلهم فوق رؤوسهم وهم نيام.

قرر "عون" مغادرة منزله رفقة زوجته التي كانت حامل بالأيام الأخيرة من الشهر التاسع، وعائلته وبعض من جيرانه، متوجهين نحو الجنوب إلى بعض أفراد عائلة زوجته، الذين يقيمون في مدينة رفح تحديدًا منطقة تل السلطان، واستقروا بداخله حتى رزق الشاب بمولوده الأول "سند"، لكن خلال الأيام الماضية وبالرغم من أنّ مناطق الجنوب تعد الأكثر أمانًا لكن الاحتلال لم يستثنيها من قصفه العنيف هي الأخرى أسوة بجميع مدن القطاع.

"أهلي يخططون يرجعوا لحي الرمال حتى بعد أن أصبح مهجورًا" عائلة عون قررت العودة من جديد إلى الشمال، بالرغم من إقامتهم داخل مدرسة الأونروا في مدينة رفح، لكن المناطق من حولهم تشهد غارات عنيفة، إضافة إلى الظروف القاسية داخل المدرسة، " لا ماء- لا طعام- لا كهرباء"، لذا كان الخيار الأفضل لهم العودة،"الخلاصة ما في مفر وما بقى أمامنا غير الرجوع بغض النظر عن الخطر".

"عون" نفسه لم تخلوا المنطقة التي يقيم بها في رفح "تل السلطان" من غارات عنيفة، بالرغم من خوفه الشديد على طفله الذي لم يكمل سوى أيامًا قليلة، لكّنه أيضًا بدأت تراوده فكرة العودة، خاصة وأنّ غزة الآن لم تعد آمنة لأحد.

بالرغم من أنّ إسرائيل طلبت من سكان غزة التوجه جنوباً، لكن جيشها واصل قصف الأهداف في جميع أنحاء المنطقة، بل ويومًا عن الآخر يشتد القصف في مناطق الجنوب تحديدًا مدينة خانيونس التي لم يتوقف القصف بها منذ الـ25 من أكتوبر الماضي حتى اليوم..

النزوح تحت النار



نزحنا تحت النار مفيش حدا طلع من بيته برضاه" مع شدة القصف العنيف المتواصل على شمال قطاع غزة قرر محمد أبو ضلفة وعائلته البالغ عددها نحو 45 شخصًا الخروج في اليوم العاشر من الحرب، نحو الجنوب للإقامة لدى أحد أصدقائه والذي طلب منه الذهاب رفقة عائلته بعيدًا عن خطر الشمال.



الشاب الذي يقيم وعائلته بمنطقة الشجاعية أحد المناطق التي شن الاحتلال عليها هي الأخرى غارات عنيفة في شمال القطاع، قرر في ظل استهداف المنازل المحيطة بمنزله وتهديدات الاحتلال الدائمة بقصف منزلهم لم يكن أمامهم خيارات سوى النزوح، وفي اليوم الذي قرر فيه محمد وعائلته الخروج، وصلت إليه أنباء استهداف سيارات لنازحين على الطريق"صلاح الدين وشارع الرشيدي" أثناء توجههم إلى جنوب غزة.

"احنا كنا هنطلع في اليوم اللي الاحتلال هددنا فيه بقصف منزلنا، راح الطيران ضرب السيارات على الطريق، روحنا أجلنا الطلوع لتالت يوم" استأجر محمد سيارة له ولأفراد عائلته، وتوجهوا للجنوب نحو مدينة خانيونس تاركين خلفهم كل شئ، وبعد نحو عدة ساعات على الطريق وصلوا للجنوب واستقبلهم أحد مواطنيه ووفر لهم مأوى وطعام.

اعتقد الشاب وعائلته أن ّالجنوب سيكون آمنا بالنسبة لهم، لكنّهم ومنذ خروجهم حتى اللحظة لم يشعروا بالأمان قط، من بداية خوفهم الشديد لاستهدافهم على الطريق، مثلما تم استهداف عدد من جيرانهم أثناء محاولتهم النزوح، فاستشهد عدد كبير منهم، وحتى بعد وصولهم للمناطق الآمنة في رواية الاحتلال الإسرائيلي. لم يتوقف القصف بجوارهم.

وشاء القدر أن يودع محمد وعائلته، نحو 41 شهيدًا من أصدقائهم الذين نزحوا رفقتهم إلى الجنوب بعدما تم استهدافهم بمنزل مجاور لهم، "هما قالوا الجنوب آمن احنا مغمضناش عينا من كتر الضرب"، وبالرغم من القصف الشديد بمناطق الجنوب، إلا أن الشاب لم يعد أمامه أي وجهة أخرى، رافضًا فكرة الخروج من أرضه مطلقًا "ما بنطلع من الجنوب نهائي، حتى لو هيقصفوا الدار علينا".

تقديرات للأمم المتحدة



وقدر مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) في 24 أكتوبر، عدد الذين نزحوا داخل غزة بأكثر من 1.4 مليون فلسطيني، نزحوا من منازلهم خلال أسبوعين منذ بدء العدوان إما بسبب الخوف أو بسبب تدمير منازلهم أو تضررها، لاسيما بعد تلقيهم تحذيرات من الجيش الإسرائيلي بالإخلاء، هذا الرقم الذي زاد بالفعل بسبب شدة الضربات خلال الأيام الماضية.


وادي غزة




يمتد من إسرائيل من منطقة جبل شجرة البقار القريبة من مستوطنة سديه بوكر حتى البحر المتوسط قريبا من منطقة الزهراء.

تضم المنطقة الجنوبية للوادي عشرات المدن من بينها النصيرات ودير البلح والبريج والمغازي وخان يونس وعبسان ورفح.



يقسم الوادي قطاع غزة جغرافيا إلى قسمين، شمالي وجنوبي.

يتراوح عرضه بين 40 مترا في أضيق مناطقه، ويتسع حتى يصل إلى 400 مترا في الساحل الغربي لغزة.


اذهبوا نحو الجنوب



الدكتور حسن مرهج عميد كلية الإعلام جامعة القدس والباحث والمختص بالشؤون الإسرائيلية، تحدث عن سبب دعوة الاحتلال الإسرائيلي، لأهالي غزة بالتوجه نحو الجنوب، بأنّ الجيش الإسرائيلي منذ اللحظة الأولى من حرب السابع من أكتوبر، وهو يريد التعامل مع الأنفاق في المنطقة الشمالية من قطاع غزة.

الباحث بالشأن الإسرائيلي، قال لمصراوي أيضًا إنهّ يبحث التعامل مع تلك الأنفاق بطرق غير تقليدية، إمّا بإغراقها بالغازات السامة، وبعد ذلك يقوم بتفجيرها، وبعد تفجير الأنفاق يمكن أن يتعامل مع المنطقة الشمالية في غزة، كمنطقة حزام أمن للمستوطنات في غلاف غزة.



الطيران يلاحقهم أينما ذهبوا



في الثالث عشر من أكتوبر وفي ظل غارات الاحتلال العنيفة على مناطق شمال غزة وتحديدًا مخيم جباليا حيث يعيش الشاب عاطف وعائلته، التي قررت النزوح من منزلهم الكائن بإحدى مناطق الشمال نحو وجهة جديدة في وسط مدينة غزة والتي لم تختلف كثيرًا عن الشمال فقرروا النزوح مرة ثالثة إلى مدينة رفح بالجنوب.

خرج عاطف وعائلته التي بلغت نحو 20 فردًا بينهم 4 أطفال نحو الجنوب، لم يتمكنوا من العثور على سيارة تقلهم على الطريق، هم يدركون جيدًا أنه لا أمان على أي طريق حتى التي أعلن الاحتلال فتح ممرات آمنة من خلالها، لم يكن هناك خيار آخر أمام عاطف وعائلته سوى الخروج، كانت رحلتهم بالغة الصعوبة، "كنا شوي نمشي على أقدامنا مسافة كبيرة وممكن نلاقي سيارة على الطريق توافق تاخدنا معها حتى وصلنا رفح".

"من المفترض أن نكون في أمان هنا في الجنوب ولكن هذا لم يحدث"، لم يعلم الشاب أن غارات الاحتلال العنيفة ستلاحقه في وجهته الجديدة، داخل مدرسة لإيواء النازحين بمنطقة تل السلطان في رفح، الأطفال من عائلة عاطف وغيرهم من أطفال المدرسة التي نزحوا إليها لا تغمض لهم عين ليلًا، فيستيقظون مفزوعين على أصوات القصف والذي يقترب منهم تباعًا، حتى أنّ أحد هؤلاء الأطفال قال لعاطف "عمو ليش احنا تركنا بيتنا وجينا بعيد عن القصف والطيران لاحقنا هون كمان".

ووثق المرصد الحقوقي عمليات تنكيل يتعرض لها نازحون فلسطينيون لدى محاولتهم التوجه نحو جنوب منطقة وادي غزة من قوات الجيش الإسرائيلي التي تطوق مدينة غزة بالكامل وتقسم القطاع.

وأفادت شهادات لنازحين لفريق الأورومتوسطي، بتجريدهم بأوامر من القوات الإسرائيلية من ملابسهم بالكامل واحتجاز بعضهم كدروع بشرية فضلا عن إجبارهم على عبور منطقة جنوب وادي غزة مشيا على الأقدام تحت دوي الانفجارات والغارات وإطلاق القذائف.


لماذا تواصل إسرائيل قصف الجنوب؟



منذ أن طلبت إسرائيل من سكان غزة التوجه جنوباً، واصل جيشها قصف الأهداف في جميع أنحاء المنطقة، ما أسفر عن استشهاد مدنيين. وحسب ما تحدث به الخبير بالشأن الإسرائيلي غسان محمد، لمصراوي، فإن استهداف المدنيين من قبل الجيش الاسرائيلي هدفه اتهام حماس بقصف المدنيين لمنعهم من الخروج، وهذا ما تم بالفعل فبعض الجهات الإسرائيلية اتهمت حماس، بإطلاق النار على سكان غزة، الذين كانوا يحاولون الخروج من شمال غزة إلى جنوبها، وتلك ادعاءات مضللة وكاذبة.

وحسب المختص بالشأن الإسرائيلي، فإن الاحتلال الإسرائيلي يحاول ترويع سكان غزة لإجبارهم على المغادرة، وحينما يمتثل البعض للقرار فإنها تطلق عليهم النار في الممرات الآمنة، فإسرائيل تتعامل مع جميع سكان غزة أنهم ينتمون إلى حركة حماس، لذا فإنّ الحديث عن فتح ممرات آمنة للمدنيين، هي مجرد مناورة هدفها تلميع صورة إسرائيل في أوساط الرأي العام العالمي فقط.

"في المحصلة ما تريده إسرائيل هو قتل أكبر عدد ممكن من سكان غزة، حتى لا يبقى منهم من يعود إلى القطاع في المستقبل، وفقًا لما ذكره المختص بالشأن الإسرائيلي، والذي أكد على أنّ إسرائيل تقتل المدنيين بالغارات الجوية، وتزعم أنّها أنّها مستعدة لفتح ممرات آمنة لخروجهم من غزة، فكيف نصدق الأكاذيب الإسرائيلي؟.

وبعد قرابة شهرين من الحرب على قطاع غزة، التي خلفت وراءها آلاف الشهداء والجرحى، تم الاتفاق على هدنة إنسانية بدأت بأربعة أيام من الجمعة الماضي، ثم امتدت ليومين إضافيين، وهي الهدنة التي تم على إثرها تسليم نحو 50 من الأسرى الأطفال والنساء الإسرائيليين، مقابل 150 من السجناء والمعتقلين من النساء والأطفال في سجون الاحتلال.

وفي الساعات الأولى من الهدنة ورغم الخطر الكبير الذي لا يزال محيطًا بشمال قطاع غزة، لكن عدد كبير من العائلات آثر العودة إلى المنازل التي هجروها قسرا مهددين برصاصات وقذائف المحتل نحو الجنوب، الجنوب الذي لم يجدوا فيه أمانًا هو الآخر، فاتخذوا من طريق صلاح الدين ممرا "غير آمنٍ" للعودة، حتى لو اضطروا للبقاء على أنقاض منازلهم بالشمال وتحت أعين الدبابات المتوغلة في محاوره ليل نهار.


قصة: سارة أبو شادي

جرافيك: مصطفي عثمان ومايكل عادل

تصميم وتنفيذ: محمد عزت