سيدة الأرض

سيرة النكبة داخل منزل أم فلسطينية

يكفي أن تمر بمنزل السيدة لطيفة أبو حميد لتعرف عن فلسطين؛ التهجير من قرية للسكن في مخيم، يهدم الاحتلال بيتها أربع مرات، ويُلقي بالأبناء العشرة جميعا في غياهب السجون لوقت غير معلوم، فيما تستمسك بالأرض بكل ما أوتيت من قوة.. النكبة لديها لم تُعرف مرة واحدة، ففي منتصف مايو 1948 ذاقت مع أسرتها مرارة النزوح، وفي آخر مايو قبل ربع قرن سلبها الاحتلال أحد أبنائها.

هي سيدة اجتمعت فيها كل الألقاب: أم الشهيد، أم الأسرى، وأم فلسطين- ابنتها. الصامدة التي يعرفها كل فلسطيني، في سيرتها وسلسال عائلتها نموذجا لتاريخ وواقع المحنة الفلسطينية، فحق لها أن تكون "سيدة الأرض".

شجرة العائلة..


تزوج محمد يوسف عبد الرحمن ناجي أبو حميد، مواليد 1937، المهجر من مدينة السوافير الشمالي قضاء غزة، من السيدة لطيفة أبو حميد، المهجرة من قضاء الرملة، سكنا مخيم الأمعري، وأنجبا 10 أبناء، (تعرضوا جميعا للاعتقال في سجون الاحتلال واستشهد أحدهم) وابنتين، علا وفلسطين، فيما يمتد نسلهم إلى 28 حفيدًا وحفيدة.

جهاد أبو حميد

30 سنة


- معتقل في يناير 2018

- اعتقال إداري

التهمة: لا يوجد

- الحكم: حجز تعسفي

إسلام أبو حميد

33 سنة


- تاريخ الاعتقال: 6/6/2018

- التهمة: قتل جندي في مخيم الأمعري.

- الحكم: تحت المحاكمة

يوسف أبو حميد

50 سنة


- اعتقل 3 سنوات في الثمانينيات قبيل الانتفاضة الأولى

ناجي أبو حميد

49 سنة


- قضى 7 سنوات متقطعة في السجن خلال الثمانينيات قبل الانتفاضة الأولى

باسل أبو حميد

40 سنة


- اعتقل 4 سنوات ونصف في 2014 ودفع 4 آلاف شيكل غرامة

الشهيد عبد المنعم أبو حميد

رحل عن عمر 24 سنة


- عضو في كتائب عز الدين القسام (جناح حركة حماس)

- شارك في عملية اغتيال ضابط المخابرات الإسرائيلي نعوم كوهين في 13/4/1994.

- اغتاله جنود الاحتلال وسقط شهيدا في 31 مايو 1994.

ناصر أبو حميد

47 سنة


- مؤسس مجموعة الأسد المقنع في كتائب شهداء الأقصى (جناح فتح العسكري) تشكلت بعد الانتفاضة الأولى في مخيم الأمعري.

- التهمة: قتل 7 إسرائيليين في 4 عمليات إطلاق نار مختلفة بدأت في 21/12/2000، وآخرها في 5/3/2002

- الحكم: 7 مؤبدات و50 سنة

نصر أبو حميد

46 سنة


- عضو في حركة فتح

- التهمة: شارك في قتل 4 جنود إسرائيليين في هجومين عام 2002.

- الحكم: 5 مؤبدات

شريف أبو حميد

41 سنة


- التهمة: شارك في قتل 4 جنود إسرائيليين في هجومين عام 2002 (نفس التهمة الموجهة لنصر)

- الحكم: 4 مؤبدات.

محمد أبو حميد

37 سنة


- التهمة: مقاومة الاحتلال

- الحكم: مؤبدان و30 سنة.

كلما وهب الله السيدة لطيفة حملاً، أسرت في نفسها حلماً بحياة مستقرة، غير أنها مع كل اعتقال جديد لأحد أفراد العائلة لا تستطيع إثناء فلذات أكبادها عن المقاومة مهما كلفها ذلك من شتات وفراق وألم لا ينتهي "هذا عدو.. نحن رد فعل وهما مفروضين علينا.. هما المحتل موش إحنا، إسرائيل عمرها ما كانت دولة ومش هتكون".

عبدالمنعم هو أول اسم في سجل البطولات داخل منزل الست لطيفة، تم اعتقاله 4 مرات لرفضه التعاون مع قوات الاحتلال "بس ولا مرة يرضخ لهم، وقتل 3 من المخابرات الإسرائيلية، وفي الأخير راح شهيد، اغتالته قوات خاصة بـ150 رصاصة في جسده، وقعد 3 أيام عشان تصريح الدفن"، تقول الأم بفخر.

ما يزيد عن 100 ألف فلسطيني وعربي استشهدوا دفاعا عن الحق الفلسطيني منذ نكبة 1948 وحتى اليوم. (الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني)


كل يوم نكبة..


مذبحة. لم تكن تدري لطيفة أبو حميد ماهية تلك الكلمة التي زلزلت أرجاء قرية أبو شوشة -قضاء الرملة- لكنها كبرت معها. كانت ابنة ثلاث سنوات حين بدأ ميقات "التطهير العرقي" الذي أعملته قوات الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين، صباح تلك الجمعة -14 مايو 1948- كان آخر عهد أسرة لطيفة مع أراضيهم وديارهم "حكوا لي أنه كان عندهم زرع ومواشي.. مكنوش محتاجين لحدا. فجأة العدو دمر كل شيء". أخبروها عن شباب صُف أمام الجدران وقُتل بدمٍ بارد، وكذلك الفلسطينيون الذين فروا من الموت، خصوصا بعد مذبحة دير ياسين.

في 1948.. تم تهجير 800 ألف فلسطيني من قراهم، من أصل 1.4 مليون نسمة كانوا يقيمون في فلسطين التاريخية في 1300 قرية ومدينة، وتم تدمير 531 منها بالكامل، واقترف الاحتلال 71 مجزرة أسفرت عن استشهاد 15 ألف مواطن (الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني)

أنصتت الخالة للحكاية، بينما تسكن مخيم الأمعري المنشأ جنوب رام الله عام 1949، ساورها الشك في لحظة وهي صغيرة عن حقيقة ما جرى، حتى ذاقت "شفت عيشتنا على أرض الواقع. كيف الاحتلال بيسيطر على حياتنا. كيف يقتل النساء والأطفال. اللي بيعمله ينحكي عليه للصبح. هذا عدونا"، أيقنت لطيفة أن إسرائيل فعل مكروه.

إعلان

إعلان

ثمن المقاومة..


تغير مخيم الأمعري. زاد سكانه، أمكن للسيارة أن تدخله، لكن الحكاية لم تتغير. "إحنا أرضنا احتلها اليهود وإحنا راح نحررها. ما بنستنى حدا إذا بنستنى عمرها ما هتتحرر" كما غرس والدا لطيفة فيها وأشقائها، فعلت السيدة السبعينية. حفظت عنهما القضية وأكملتها مع الحياة في المخيم "البطالة كتير هون. الشاب ممنوع يطلع لبره المنطقة.. إحنا عايشين في سجن كبير". تكبر الخالة ويشتد عضد أولادها، يختارون طريق الآباء والأجداد "المقاومة"، يسجنون وينهدم بيتها مرارًا، فتسلك سبيل الساندين "لجأنا إلى المخيم وبرضه بينهدم بيوتنا. كل بيت فلسطيني فيه أسرى وشهداء. كل أم بتعاني. كل يوم عن يوم بنعيد النكبة من هاي الاحتلال".

وقت أن اعتقل ناصر -في ثمانينيات القرن الماضي- كانت لطيفة تنتظر مولودًا جديدًا. "إذا بنت سميها فلسطين" أخبر الابن الأسير والدته. في 12 إبريل 1986 وضعتها أنثى، وأوفت بمقترح ابنها، وبعد 40 يومًا حملتها إلى سجن عسقلان لزيارته، حاول الاحتلال منعها "قالوا لي لما بتغيري اسمها فيكي تزوري"، تحدت الأم السجان "ما بنغير اسمها وغصب عنك راح نزور". استماتت الخالة على موقفها حتى تمكنت من جمع شمل ناصر بفلسطين. هكذا ظلت الخالة على العهد "فلسطين ما راح نتخلى عنها سواء اسم أو تضحيات وين ما كنا".

لم تكن فلسطين قد تخطت عامها الثامن حتى عرفت الطريق إلى المعتقلات في رحلات شهرية لزيارة أشقائها المقاومين -كانت الوحيدة المسموح لها بالزيارة حينها- لا تزال فلسطين تتذكر اللحظات المريرة وهي تبكي قهرا مما يلاقيه إخوانها "كنت أسأل ليه مش بيرجعوا معانا ع البيت.. ولحد إمتى هيضلوا ورا السور، كانوا بيحاولوا يبانوا أقوياء ومبسوطين وأنا صغيرة بستغرب". تسترجع فلسطين الذكريات بعينين تفيضان دمعا "كانت أمي تحزن عليّ عشان أنا صغيرة، وبعدين ترجع تقولي مفيش حدا غيرك يطمني عليهم"، كانت فلسطين عيني أمها "كل كلمة في الزيارة أحفظها صم وأرجع أحكي لأمي كل شيء بالتفصيل، مين فيهم خس ومين تخنان، لابسين إيه، مين ضحكته مفارقتوش، وكلهم يطلبوا دعواتها".

47 أسيرة

250 طفلًا في السجون

5700 أسير يقبعون في سجون المحتل حاليا

حوالي مليون فلسطيني/ة مروا بتجربة الاعتقال منذ 1967 حتى الآن

218 شهيدًا داخل سجون الاحتلال منذ 1967

56 أسيرًا مضى على اعتقالهم أكثر من 20 عامًا

570 أسيرًا محكومًا عليهم بالمؤبد

500 معتقل إداري





المصدر: نادي الأسير الفلسطيني

إعلان

إعلان

سلبونا الأبناء والأيام..


مع نهاية عام 2017، كانت حبات عائلة أبو حميد تفتقد 4 من أبنائها، بأحكام مؤبدة، غير أن ذلك لم يكن كافيًا في أعين قوات الاحتلال الإسرائيلي، ومع مطلع عام 2018 كانت الأسرة مع موعد جديد للتكدير "اعتقلوا أخويا جهاد إداري ولحد اليوم بيتجدد حبسه بلا تهمة لمجرد إنه ابن أبو حميد".

مع كل أزمة في المنطقة يكون منزل الست لطيفة هو هدف الجنود الإسرائيليين، لذا حين قُتل جندي بجوار مخيم الأمعري في يونيو من العام الماضي -بعد خمسة أشهر من اعتقال جهاد- كانت قوات الاحتلال تملأ أركان المنزل البسيط "أي حاجة بتحصل حوالينا ييجوا على بيتنا وكأننا محطة المقاومين" تسرد فلسطين تفاصيل اعتقال شقيقها السادس إسلام.

عادت القوات تنتهك البيت من جديد، "كنا نايمين ولقيناهم مفجرين الباب وداخلين. هجموا على إسلام وحملوه وهو نايم وحطوا العصبة على عينيه وكأنه خرج من نومة بيته للسجن الكبير"، بألم تستعيد فلسطين اعتقال أقرب الأشقاء إليها، وعودته بعد أسبوع يلازمه نحو 7 جنود، فيما يقول كبيرهم للسيدة لطيفة "هاي ابنك قتل جندي بحجر".

ربما لم تلتقِ الست لطيفة بالشاعر أحمد فؤاد نجم يوما، فيما يبدو أن قصيدة "الممنوعات" تنطبق عليها بالحرف؛ فهي في سبيل فلسطين صارت ممنوعة من كل شيء، السفر، الغنا، الكلام، الاشتياق والاستياء "محرم عليا رؤية أولادي.. الصهاينة ما بيكفيهم الاعتقال والموت، كمان مش قادرة أملي عيني منهم"، 4 من الأبناء في سجن عسقلان واثنان في سجن عوفر، نحو خمس سنوات كاملة حُرم فيها آل أبو حميد من رؤية ذويهم القابعين خلف القضبان، حتى عام 2013 قبل رحيل الأب مباشرة "كان المحامي بس هو اللي بيطمنا، وبنبعت لهم رسالة واحدة: إحنا الحمد لله بخير وإنكم أبطال، فكونوا على العهد".

في السجن يُنتزع كل شيء ولا يعود إلا بالانتزاع كذلك. صورة ظفرت بها أسرة أبو حميد من الاحتلال، جمعت الأب والأم والأبناء الأربعة المحتجزين وقتها داخل السجن، في زيارة استثنائية أواخر إبريل 2013، وبعد مطالبات لسنوات وضغط الجهات الحقوقية، ذهب الوالد القعيد بسيارة الإسعاف ليرى أبناءه الأسرى جميعًا للمرة الأخيرة، ففي 13 ديسمبر 2014 رحل محمد يوسف ناجي أبو حميد، فيما ظل ينادي حتى الرمق الأخير بأسماء أولاده.

غاب الوالد عن الدنيا ويغيب الأبناء لوقت غير معلوم، بينما يبقى الأثر "كان في فترة بيقاوم المحتل هم أخدوا هذا عن والدهم كان قدوة إلهم" تفتخر الخالة لطيفة، فيما توضح أن أصوله تعود لغزة قبل أن تهاجر أسرته في 48 بينما هو ابن 13 عامًا.

الست لطيفة لم تكن الأولى في فلسطين التي يُعتقل جميع أبناؤها في سجون الاحتلال، بحسب عبدالناصر فروانة، رئيس وحدة الدراسات والتوثيق بهيئة الأسرى الفلسطينيين، ويعدد فروانة لمصراوي نماذج شتى أبرزها الحاجة ربحية القني "أم مازن" ، من قرية كفر قليل جنوب نابلس، التي تمنت أن ترى أبناءها الخمسة المعتقلين في سجون الاحتلال الإسرائيلي وقد جمع الله شملهم في سجن واحد لتتمكن من زيارتهم معاً، لكن الموت خطفها عام 2009 قبل أن تتحقق أمنيتها وقبل أن يتحرر أبناؤها.

فيما يوضح أن الست لطيفة تمتاز عن غيرها من الأمهات من حيث صلابة الإرادة وقوة العزيمة والقدرة على التحمل. مشيرا إلى أن أبناءها العشرة كانوا داخل سجن في وقت متزامن قبل سنوات "ولم تهتز أو تنكسر.. هي شامخة كالسنديان وجبال فلسطين وصلبة كالصخر لن تلين، وما زالت تمدنا بجرعات من المعنويات ومنها نتسلح بالأمل".

احتلال وخراب ديار..


لا تترك الخالة لطيفة سبيلاً لدعم أبنائها إلا ولحقت به؛ قبل عامين وقت أن أعلن الأسرى إضرابهم عن الطعام، انضمت السيدة السبعينية للأمعاء الخاوية لـ42 يومًا، يهزها واجب من الوفاء ليس لأولادها فقط لكن لكل ابن تلمحه في زيارتها للسجون أو تحرر "لما أروح على السجن أو أرجع على البيت كل أسير يحكي لي يا أمي".

مع صباح كل يوم تأتي الخالة لطيفة بصور أبنائها. تلقي عليهم التحية، تحاكيهم كما لو كانوا حاضرين، تتأمل ملامحهم، كم كبروا خلف القضبان، لكن حتى التذكار لم تهنأ به "الاحتلال بيهدم بيتنا أكتر من مرة ما خلى إلهم ملابس ولا صور".

هدم الاحتلال منزل الست لطيفة 4 مرات خلال 25 عاما، فيما تتوسع المستوطنات الإسرائيلية على حساب أصحاب الأرض: دمر الاحتلال الإسرائيلي 471 مبني خلال 2018 وأصدر أوامر بهدم 546 مبنى في الضفة الغربية والقدس، وخلال العام نفسه تم ترخيص بناء 5820 وحدة استعمارية (هيئة مقاومة الجدار والاستيطان 2019)


يقول المؤرخ إيلان بابيه، أستاذ التاريخ، رئيس المركز الأوروبي للدراسات الفلسطينية بجامعة أكسيتر البريطانية، أحد أبرز المؤرخين الجدد لتاريخ إسرائيل -كما يُطلق عليهم- إن الدول التي تنتهج مثل هذه الأفعال؛ من سجن دون محاكمة وهدم للمنازل، فإن المجتمع الدولي يدينها وأحيانا يفرض عقوبات عليها "فيما تتمتع إسرائيل بالحصانة".

ويضيف -في تصريحات خاصة لمصراوي عبر الإيميل- أن سياسة هدم بيوت الأسر الذين من بينها أفراد متهمون بـ"الإرهاب" -حسب وصف الاحتلال، ومنع السجناء من التواصل مع أسرهم هي جريمة حرب في القانون الدولي، وتعتبر عقابا جماعيا غير مشروع.

ويرى بابيه أن ما يجري مع عائلة أبو حميد ومن شابهها هو جانب من "الإساءة اللانهائي".

ويؤكد أن سياسة التطهير العرقي التي تنتهجها إسرائيل منذ النكبة لا تزال مستمرة حتى اليوم. موضحا أن العمليات التي تمت عام 1948 كانت شاملة وسمحت للحركة الصهيونية بالسيطرة على 80% من الأراضي الفلسطينية، وطرد نصف سكان فلسطين؛ قائلا: "لدي إيمان تام بأن الصهيونية مشروع استعماري استيطاني لم ينتهِ بعد".

وأمام الممارسات الإسرائيلية يستخدم الفلسطينيون حيلا دفاعية؛ كي تبقى قضيتهم راسخة، يتوارثونها جيلا تلو آخر.

إعلان

إعلان

المقاومة عبر نطفة مهربة..


تستقبل الخالة لطيفة حفيدا جديدا خلال نحو شهر. قرر ابنها نصر -المحكوم عليه بـ5 مؤبدات- أن يعطي للعائلة "ضوءا جديدا للحياة" عبر النطف المهربة، فقبل تسعة أشهر اتفق وزوجته آلاء ناجي على إنجاب طفلهما الثالث، في وقت استمر فيه اقتحام الاحتلال لمنزل عائلته في مخيم الأمعري واعتقال ولديه رائد وعائد.

يلجأ الأسرى، أصحاب الأحكام طويلة الأمد، لتهريب نطفهم من السجن إلى زوجاتهم للإنجاب، يعتبرون ذلك جزءا أصيلا من المقاومة، يخبرون به المحتل أنهم ها هنا باقون رغم قيدهم، ومع خطورة الأمر "إذا الاحتلال عرف بيعاقب الأسير والشخص حامل النطف" كما تقول آلاء زوجة نصر، لكن قرابة 68 طفلاً قدموا إلى الحياة عبر النطف المهربة، منذ ولادة مهند عام 2012، أول طفل أنابيب للأسير عمار الزبن المعتقل من التسعينيات، حسبما ذكرت هيئة الأسرى والمحررين.

"طول ما إحنا عايشين على هاي الأرض راح نضل شوكة في حلق الاحتلال" كلمات تحفظها آلاء عن زوجها نصر طيلة 17 عامًا، وتعلم أن تنفيذها يتوارثه دار أبو حميد "من ساعة ما خلقوا"، وليس ثمة ما "ينكد" على المحتل أكثر من فرد جديد ينضم لمواصلة الحياة في أسرة يَوَدّ المحتل لو تخلص منها.

في نهاية عام 2018 بلغ عدد الفلسطينيين في العالم 13.1 مليون نسمة، أكثر من نصفهم (6.48) مليون نسمة على أراضي فلسطين التاريخية، وهو ما يشير إلى تضاعف عدد الفلسطينيين أكثر من 9 مرات منذ نكبة 1948.. رغم محاولات التشريد والشتات (الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني)


صمود بالوراثة..


أحيانا تتمنى الجدة لطيفة أن يسلك أحفادها دروبًا منتظمة لا يتخللها اعتقال "لما خدوا رائد حفيدي، وبقى هو وأبوه معتقلين، قلبي انفطر"، كانت دوما تحفزه بأن يراعي دروسه ويتفوق كي يرضي ذلك الأب، قبل أن تستطرد: "الطفل عندنا بيطلع يبطش على الصهاينة.. بنورث المقاومة جيل ورا جيل".

تقول المرأة السبعينية بعنفوان الواثق بقضيته إن أولادها وأحفادها لا يحتاجون حديثا كي يقاوموا، وإن الفلسطيني يعيش المقاومة كتفاصيل يومه، تشرح الأمر ببساطة شديدة: هُم في قلب الواقع، يطارد الجنود المدججون الشباب على الحواجز، ويكدرون صفو الصبية على أبواب المدرسة، يغلق الصهاينة المتاجر دون سبب، ويستوقفون السيدات على المعابر دون خجل، فيما ترد على السؤال بسؤال: "كيف بتستني من طفل يطلع متربي على هذه المشاهد وما يكون مدرك إنه صاحب حق وإن الإسرائيلي مغتصب، كلنا مهددين وما إلنا غير المقاومة".

ذات يوم أمسك ابن فلسطين بصورة خاله إسلام وهو يقبلها، أخبرته كما اعتادت "خالك أخدوه اليهود"، ببراءة أجابها "بس إحنا نكبر بدنا نطخهم"، تفاجأت الأم بقول صغيرها، فلم يحدث يومًا أن حدثته عن المقاومة، طالما فعلت مثل والدتها، تُعدد مآثر أبطالهم، دون أن يغادرها وجع والدتها لغياب أشقائها، تعيد التفكير فيما حكى به طفلها ثم تقول "إن شاء الله الاحتلال بيروح وينحل لكن أنا مقدرش أمنعهم من هذا الأشي -المقاومة- إذا بدهم".

تحكي الشقيقة الصغرى والأم البديلة أحيانا على أبواب المعتقلات أن أخاها ناصر كان يهاديها بسلسلة أو برواز من الخرز مرصع باسمها وكأنه يقول إن فلسطين الوطن مثلك لا نفرط فيه.

توقن الست لطيفة وكذلك أسرتها أن الاحتلال رغم سجنه لأبنائها يبحث عن أي فرصة للتنفيس عما يضمره من الغل، فلم يكتف بهدم سكن إسلام رغم أنه بالطابق الرابع والأخير للمنزل بل يُفجره كاملاً كما فعل في المرات الثلاث السابقة، فلم يزل ذلك المشهد عالقا في أذهانهم، حينما صرخ ضابط إسرائيلي وهو يبحث عن أبناء الخالة ومن تربطهم بهم صلة، قائلا في غيظ "دار أبو حميد مش لازم تضلوا.. لازم ننفيكم من هون".

فلسطين لنا


"لا يخلو بيت فلسطيني من شهيد أو مصاب أو أسير" المقولة الشهيرة تنطبق على زوجة نصر التي استشهد شقيقها في الانتفاضة الثانية 2002 وآخر ظل مطاردًا لفترة. تبتسم وهي تقول "ما دخلت السجون إلا على إيد نصر"، ومع ذلك ترى في دار أبو حميد اختلافًا "عائلة فلسطينية مناضلة ما بتلاقي لهم منافس.. كلياتهم بيناضلوا وأسروا من الأب للابن" ومن ورائهم سيدة لها من وصف موطنها نصيب؛ كالجبال لا يهزها ريح "ما شوفت متلها.. أتمنى أكون عندي هاي الشخصية".

رُزقت "لطيفة" من القوة والصبر ما تُحسد عليه. في 10 يناير الماضي بينما يتكالب جنود الاحتلال على أصغر الأبناء، يطرحونه أرضا تمهيدًا لاعتقاله، ظلت تنادي "جهاد ارفع راسك أنت ابن أبو حميد" حتى غاب عن أنظارها، وأمام كل موقف عصيب تردد عبارتها الشهيرة "أنا وضعتهم عند ربنا وهو كفيل فيهم وأرحم بهم منا".

المقاومة خلق أصيل في دار أبو حميد.. "أبوك ضحى بحريته عشان لما تكبر ما تشوف جيش إسرائيلي في فلسطين. فلسطين تستاهل" كان الرد الدائم على تساؤلات أبناء الأسير نصر الذي تركهم صغارا، وحين بلغوا أشدهم، حل اليقين مكان التساؤل، وباتت زوجته آلاء تخبره في كل زيارة عن أبنائه "تارك نسخ صغيرة محلك".

قبل عامين، استوقف أحد الضباط الإسرائيليين رائد نصر أبو حميد، أثناء عودته ووالدته من الأردن -يعرف جنود الاحتلال آل أبو حميد- وفي عراك بالألسن شهدته الأم في انبهار وفخر، أنهاه الضابط بقول: "أنا حاطك في راسي بس تكبر راح أخدك أوديك عند أبوك"، فرد الصبي بكبرياء: "أبوي علمني ما أخاف منكم.. أبوي أسد وأنا متله".

تنقضي الأيام باهتة. 17 عامًا منذ احتجاز أبناء الخالة لطيفة "كنت أتمنى يكونوا موجودين وإحنا بنعمل طبخة في رمضان. ما اتلميت مع أولادي لسنوات. ما بشعر بأي مناسبة لا في رمضان أو عيد". لا تحضر سيرتهم في مجلس ما تبقى من الأسرة إلا وغمره البكاء: "الناس تحكي اتعودنا لكن لا ما اتعودناش إنما الحياة بدها تمشي لغاية ما ترجع الأرض إلنا".

ملف: أحمد الليثي وإشراق أحمد

إنفوجراف: مايكل عادل

فيديوجراف: أحمد عبد الغنى

تنفيذ: محمد عزت

إشراف عام: علاء الغطريفي