لا أحد يعرف سعد زغلول في مالطا!


على عكس ما افترض الزعيم سعد زغلول بأنه سيبقى في منفاه بمالطا إلى الأبد، لم يكن لدي وقت داخل الجزيرة الأوروبية حاليًا - متعددة التابعية سابقًا - سوى 5 أيام فقط للبحث عنه.

8 مارس سنة 1919..
قبل يومين من هذا التاريخ، دعا الجنرال واطسون قائد القوات البريطانية في مصر، سعد زغلول وأعضاء حزب الوفد إلى مقره بفندق "سافواي أوتيل"، دارت بينهم مناقشة قصيرة، لكنها كانت حادة، انتهت بتهديد الوفديين بالعقاب.. وقد كان.
في تمام الخامسة عصرًا من الثامن من مارس 1919، الموافق يوم جمعة، قُبض على سعد زغلول ومحمد محمود، وإسماعيل صدقي، "لم يخطر ببالي النفي، ولكن السجن إلى زمن ما.." يقول الزعيم، وفي اليوم التالي جاء أمر أحد الضباط "استعدوا للسفر..".
ومن الأوتومبيلات، إلى القطار إلى ميناء بورسعيد، وجد سعد زغلول نفسه على متن الباخرة "كاليدونيا" ولا يعرف إلى أين وجهته".

من مذكرات سعد زغلول

بعد مائة عام من هذه الأحداث، كنت أظن أن مهمتي سهلة، قبيل السفر إلى مالطا بدأت البحث عبر شبكة الإنترنت عن منفى الزعيم "أين نفي سعد زغلول في مالطا؟"، أدخلت كلمات البحث بجميع اللغات في مستطيل Google، العربية، الإنجليزية، وحتى الفرنسية.. لكنني لم أجد ثمة نتيجة واحدة تشير إلى موقع أو مسمى المكان الذي نُفي فيه سعد زغلول ورفاقه الوفديون في مالطا.

كان طرق أبواب حزب الوفد هو خياري الأول، هاتفت سكرتير الحزب طارق التهامي.. أبدى تعجبه من استفساري في البداية، ثم أجاب باختصار "لا أعرف".

كان لا مفر من العودة إذًا إلى الماضي وخبرائه، هاتفت أستاذ التاريخ بجامعة القاهرة محمد عفيفي، والذي عمل مستشارًا تاريخيًا لفيلم وثائقي أُعد مؤخرًا عن ثورة 1919، وكانت إجابته "لا ده موضوع محتاج بحث.. كلميني كمان كام يوم".. أما الدكتور إيمانويل بواتينج، كبير المحاضرين بقسم التاريخ بجامعة مالطا، كان رده عبر البريد الإلكتروني "لسوء الحظ، لا يمكنني مساعدتك، لكنني أعدتُ توجيه استفسارك إلى زملاء لي".

نصحني الدكتور محمد عفيفي ذات مساء بالعودة إلى مذكرات الزعيم في متحف سعد زغلول الذي يعرف بـ"بيت الأمة"، لم أنتظر الصباح، حصلت على نسخة إلكترونية من المذكرات، وبعد ساعات من القراءة، وصلت إلى المجلد التاسع.

13 مارس 1919
صباح الخميس الثالث عشر من مارس 1919، وقفت الباخرة "كاليدونيا" بعيدًا عن الشاطئ، لم تكن مالطا هي وجهتها الأخيرة، نزل الوفديون إلى زورق بخاري صغير، وواصلت طريقها، "كان الزورق صغيرًا جدًا، لا يسع سوى نفرين.. فنقلنا اثنين اثنين، وسار بنا نحو المرسى في حوالي نصف ساعة".. يحكي سعد.
كان المرسى خاليًا من أي شخص، تحدث الضابط المرافق لهم في الهاتف ذي القرص المعدني المعلق في المرسى، فحضرتْ العربات "أخذنا في عربات صغيرة جدًا عليها مظلات، حملتنا وصعدنا إلى قلعة بولفارستا".

من مذكرات سعد زغلول

قلعة بولفارستا..

وجدتها أخيرًا، عدت إلى مستطيل Google من جديد، بحثت بالعربية.. الإنجليزية، وكانت المفاجأة أنني لم أجد لها أثرًا.

قررت أن أبحث عن قلاع مالطا في العموم، وجدت ثلاث قلاع رئيسية، وعشرات الحصون والأبراج الأثرية، ليس من بينها اسم بولفارستا أو أي اسم مشابه له.. لكنه بالتأكيد سيتغير الأمر على الأرض.. هكذا فكرت.

13 مارس 1919
"صعدنا إلى قلعة تسمى بولفارستا، وأدخلنا الضابط إلى قسم منها مؤلف من "ثلاث طبقات" على هيئة قشلاق، وتخصص لنا فيه مسكنان، يتألف كل واحد منهما من ثلاث غرف مبلطة، ولا سجاد، ولا حصير فيها، ولا أمتعة سوى بعض كراسٍ وترابيزات!
وكان البرد قارسًا والهواء عاصفًا..
وقد رأينا - عند دخولنا - أحد المصريين، وعلى رأسه عمامة، يدعى محمد إبراهيم من موظفي معية الخديوي، فاستقبلنا بالبشاشة، كأنه كان يعرفنا من قبل!
وقد ارتبت في شأنه في أول الأمر، لأني تخيلت أنه جاسوس، ولكن لم يتأيد ذلك، وهو الآن في خدمتنا، ويسارع إلى قضاء لوازمنا"

من مذكرات سعد زغلول

بدت الجزيرة التي لا تتعدى مساحتها 316 كم مربع من نافذة الطائرة تمامًا مثلما تبدو في الخرائط، ثلاث جزر متجاورة، ترتفع عن سطح البحر، تعج بالمباني والأسوار، تبدو حدودها واضحة من جميع الجهات في هيئة هضاب عالية، يتخللها ألسنة مائية يفصلها خلجان رفيعة داخل البحر المتوسط، أصبحت موانئ طبيعية لليخوت الفارهة.. وقليل من المساحات الخضراء.

أما على الأرض، فالمنفى لم يعد منفى، الجزيرة السياحية التي تعج بالبشر، ترك كل من مر عليها أمارة تشهد أنه مر من هنا، حتى أنك أحيانا تضيع بين أوجه الشبه والاختلاف بينها وبين مختلف البلدان من جميع قارات الكرة الأرضية.

مطار لوقا الدولي

منذ اللحظة الأولى داخل مطار لوقا الدولي الذي يقع في منتصف مالطا، بدأت التعامل باللغة الإنجليزية، فالجزيرة الواقعة في منطقة شنجن، تتساوى فيها اللغتان الإنجليزية والمالطية، كلتاهما رسميتان، لكن أذني كانت تلتقط بين الحين والآخر كلمة باللغة العربية، لم أعر للأمر اهتمامًا في البداية، حتى سألت رجلًا من أمن المطار عن طريق الخروج، فوجدته يفسر لزميله ما قلته بكلمات عربية مفهومة.

تتشابه العربية والمالطية إلى حد كبير، خاصة اللكنة الليبية.. لكن المالطيين لا يحبون هذا التشبيه، ويتشبثون بكل ما يثبت أنهم أوروبيون.

فبالرغم من تشابه شوارعهم بشوارع بلاد الشام، مرتفعات ومنخفضات، وأسوار من أحجار عتيقة، إلا أن سياراتهم ذات طراز أوروبي، ومقاعد قيادة يمينية.

وبالرغم من أن أسماء المناطق عربية خالصة مثل "مدينة.. مرسى.. حمرون.. سليمة"، إلا أنها مكتوبة بحروف أجنبية على لافتات طرق ملونة أوروبية الشكل.

سليمة..

بعد نصف الساعة وصلت إلى "سليمة"، مدينة ساحلية تقع على أحد الألسنة المائية، ترسو على جانبيها السفن بجميع أشكالها، من القوارب الصغيرة إلى اليخوت الفارهة.

يطلقون عليها منطقة الأثرياء، لازدحامها بالسائحين من جميع الجنسيات، والمتاجر والملاهي الليلية المقابلة للبحر، لكن مبانيها العشوائية الحديثة لم تكن تتميز بأي شبه لجمال أو طراز.

بعد أن انتهت موظفة استقبال فندق سانت أزور من إجراءات تسكيننا، سألتها على الفور عن قلعة "بولفارستا"، بدا على وجهها الأبيض المستدير ذي الملامح الدقيقة علامات التعجب، قلت لها موضحة "قلعة قديمة.. كانت تستخدم كسجن سياسي"، أخرجت ورقة حمراء من أسفل منصة الاستقبال الرخامية، مرسوم عليها خريطة مالطا السياحية، ومسارات الحافلات التي تأخذ الطريق إليها، أخبرتني أن هناك قلعة تشبه تلك التي أقصدها في جزيرة "جوزو"، "يجب أن تركبوا الحافلة رقم 222.. وبعد نهاية الخط، تستقلون الباخرة.. تستغرق الرحلة حوالي الساعتين".. صمتت قليلا قبل أن تضيف "يفضل القيام بهذه الرحلة في النهار".

كان الذهاب إلى "جوزو" - إحدى الجزر المالطية الثلاث هو الخيار الوحيد، لا يوجد فرصة أخرى في الأيام الخمس للتحرك نهارًا، استغرقت الحافلة "222" ساعة ونصف الساعة مقابل تذكرة ثمنها "2 يورو" تصلح للعودة أيضًا، أما مرسى الباخرة فكان أشبه بمحطة قطار، مكتوب على شباك تذاكره باللغة الإنجليزية "اذهب مجانًا وادفع عند العودة".

وبعد 20 دقيقة من الإبحار داخل البحر المتوسط، وصلت الباخرة إلى "جوزو".

المساكن - على العموم - نظيفة، ويتعهد نظافتها فريق من الأسرى الأتراك.
ويوجد في هذا البناء مطابخ، لكل جماعة مطبخ على الحكومة نفقاته بقدر معين، من جميع اللوازم لكل أسير.
وفي هذا البناء محل تباع فيه أكثر لوازم المعيشة، يسمى "كانتين" وأثمان الأشياء فيه محددة، وله متعهد مخصوص من العساكر.
والمكان على مرتفع يشرف على البحر، والمنظر فيه حسن وجميل..

من مذكرات سعد زغلول

جوزو..

صعد بنا سائق التاكسي إلى مرتفع داخل "فيكتوريا"، عاصمة "جوزو" القديمة، "لا يوجد قلعة أخرى في جوزو سوى القلعة التي في فيكتوريا".. يقول السائق.

تجاوزنا شوارع فيكتوريا الضيقة، ذات المباني الأوروبية القديمة، وصعدنا إلى المرتفع الأخير نحو القلعة سيرًا على الأقدام.

نحت اسم القلعة باللغة المالطية داخل حائط رخامي كبير، يبدو أنه حديث"CITTADELAA .. CENTRU GHALL VIZITATURI VISITORS CENTRE"، يعني "القلعة الكبيرة.. ترحب بالزائرين في مركز الزوار".

بدأت بالأسئلة من عند رجل الأمن، "هل هذه القلعة كانت تسمى بولفارستا، هل هي الوحيدة في جوزو، هل كانت تستخدم سجنًا قديمًا، هل تعرف سياسيًا مصريًا قديمًا يدعى سعد زغلول نفي هنا؟".. كانت الإجابة عن جميع الأسئلة "لا أعلم".

بدت القلعة مبنى حجريًا عملاقًا مقسمًا إلى ثلاثة طوابق، تعلوه ساعة حائط، أمامه لافتة زجاجية تحتوي على بعض المعلومات عن التغيرات التي طالته على مر العصور باللغتين الإنجليزية والمالطية، مكتوب عليها "كان الوصول من المدينة إلى القلعة في الأصل عبر سلالم، أثناء الحكم العربي، استبدلت فيما بعد بجسر حجري كان يدعى الربط.. ما زال متبقيًا جزء منه في سطح القلعة، وفي نهاية المطاف أصبح هناك - رامب - يقود نحو الزاوية الصحيحة إلى المدخل المختتم برسم".

يقودنا "الرامب" إلى مدخل القلعة، يتصدره لوح زجاجي مقسوم إلى نصفين، تبدو من خلفهما اللوحة المرسومة للقلعة، نتجاوز الدهاليز المكشوفة، التي تقع على جوانبها بعض الغرف المغلقة، نواصل في الصعود فنجد مبنيين مكونين من طابقين، ذات شبابيك خشبية قديمة مغلقة، تتوسطها كنيسة جوزو الكاثوليكية، التي بنيت على أنقاض معبد يوناني في القرن الثالث عشر.

على أحد الجوانب ثمة مدخل، يقود إلى الجهة الأخرى من الغرف لأحد المبنيين، ممر حجري به غرف ذات شبابيك معدنية أصغر، تشبه شبابيك الزنانين، وأبواب معدنية مغلقة بأقفال على ما كان يدور بداخلها من حياة، وأخرى ذات أبواب معدنية تكشف عما بداخلها من أجراس كبرى تخص الكنيسة.

يقبع متحف القلعة في بداية الممر، يجيب الموظف الذي كان بالداخل على عجالة "نعم كانت تستخدم معتقلاً قديمًا منذ القرن السادس عشر وحتى عام 1962" لكنه، لا يعرف من هو سعد زغلول، وما إذا كان مر عليها معتقلون مصريون أم لا؟ّ!.. وأجاب بالنفي عما إذا كانت هناك سجلات أو شواهد تشير إلى شخصيات من اعتقلوا قديمًا داخل القلعة.

لم تختلف إجابات العشرات ممن كانوا يزورون القلعة أيضًا، أغلبهم كانوا يحملون الجنسيات الإيطالية والروسية، فما أدراهم بتاريخ مصر أو مالطا؟!

كشف سطح القلعة عن المزيد من الغرف، ذات الشبابيك والأبواب الموصدة، ومدفع وحيد يشبه مدفع قلعة صلاح الدين الأيوبي.

من أعلى تستطيع أن ترى الجزيرة بأكملها، والبحر من جميع الجهات.

كان من المسموح لكل من في المكان الذي أنزلت به، أن يزور - في أوقات معينة من الأسبوع - أسرى الأماكن الأخرى.
وقد بعث إلينا عند قدومنا الأمير ابن عم ملك رومانيا الأسير في كامب "فيرولا"، خطابا رقيق الحاشية، فرددنا عليه عملا بقواعد حسن المجاملة.. ولكنا لا نريد أن تتصل المعرفة بيننا.

من مذكرات سعد زغلول

فلوريانا..

كانت جريدة TIMES OF MALTA نشرت قصة قبل عام، تحكي عن حفيد رسام تركي، أعتقل جده في القرن التاسع عشر في فلوريانا، فقرر أن يقطع أميالًا بالقارب البخاري كل عام إلى مالطا، كي يقضي عطلة الصيف على هذه الأرض، بحثًا عن ذكراه.

عدت للسؤال من جديد عن فيرولا، صححها المالطيون لي حيث تدعى "فلوريانا".. تلك المدينة المحصنة منذ عام 1636، لا يوجد بداخلها أي قلاع، لكنها ممتلئة بالأبراج الأثرية المطلة على البحر التي لم تعد تحتفظ بأسمائها القديمة، تستخدم حاليًا لمختلف الأغراض، مطاعم، ومراكز تجارية.. أحدها كان مكتب الاتحاد الأوروبي.

سألت إحدى الموظفات العربيات داخل الاتحاد الأوروبي، عن كل ما سبق، "قلعة بولفارستا - السجن القديم - سعد زغلول"، نصحتني بأن أسأل أحد زملائها مالطي الجنسية، "ألكسايس ماكلين" شاب ثلاثيني ذا ملامح أوروبية يرتدي ملابس رسمية.. قال لي إنه لا أحد في مالطا يستطيع أن يجيب عن أسئلتي، الشعب المالطي لا يهتم بالتاريخ، كما أنه توافد عليه جميع أنواع الاحتلال، ومختلف المعتقلين من شتى دول العالم، فبالتأكيد لا يعنيهم اسم سياسي مصري أعتقل هنا قبل مائة عام.

صمت قليلًا، ثم قال وكأنه يحاول مساعدتي "في مالطا القليل من المصريين، والكثير من العرب.. ربما يعرفون"، ثم نصحني بإرسال E - MAIL للسفارة المصرية في مالطا.

7 إبريل 1919
منذ يومين أخلى لنا مسكن ثالث فأخذه محمد باشا محمود، وأصبح لكل منا مسكن قائم بذاته مؤلف من ثلاث غرف.
وقد خفف عنا هذا ما كنا نجده من المضايقة أول الأمر، فأصبح لنا غرفة للأكل، وصالون نجتمع فيه أغلب اليوم وبعض الليل، ونلعب الورق ونستقبل الزائرين، ولكل منا غرفة للنوم وأخرى للعمل، ولكن لا يزال المتاع دون الكفاية.
ونحن على مائدة اللعب في الساعة الثامنة تقريبًا، حضر فيظي بك حسني متهللًا وهو يقول: "الضابط اليوم كان ينتظر قدوم مصريين مبعدين من مصر".
فاعترتنا الدهشة من تهلله لهذا الخبر، ومن مسارعته لإبلاغنا إياه..

من مذكرات سعد زغلول

لم أتردد قبل أن أنفذ نصيحة "ألكسايس"، أرسلت رسالة إلكترونية إلى السفارة المصرية في مالطا على الفور، كان هذا في يوم الثلاثاء، 2 يوليو 2019، على أمل أن أحصل على أي إجابة، قبل أن أغادر في اليوم الخامس من الشهر، لكنني لم أحصل عليها حتى الآن.

على إحدى محطات الحافلات، التقيت بأحد المصريين النادري الظهور في مالطا، يدعى "هاني" - عامل في أحد المطاعم - والذي كان أيضًا لا يعرف شيئًا عن منفى سعد زغلول في مالطا.. وبالطبع لم يكن هذا كافيًا.


حمرون..

حاولت التواصل مع الجالية المصرية في مالطا، لكن أحدًا لم يعر اهتمامًا، فطرقت أبواب الجالية العربية، دعاني سكرتير الجالية سعيد زينو، مساء اليوم الثالث، إلى مطعمه السوري "دمشق"، الواقع بحي حمرون - حي متواضع بالقرب من العاصمة يسكن به أغلب السوريين في مالطا.

وهناك التقيت بنائب رئيس الجالية العربية، مازن دعدوش، مهندس كمبيوتر جاء إلى مالطا قبل 30 عامًا، "مالطا هي الدولة الوحيدة ياللي عطيتنا فيزا، جيت لهون بالصدفة، وبلشت من الصفر، اشتغلت بالبناء والمطاعم والفنادق".

لم يكن يعلم كغيره تحديدًا موقع منفى سعد زغلول، ثم لوح لي باحتمال محبط، قائلا: "في أماكن كتير اتهدت واتعمرت.. يمكن ما بتلاقيه، مثل سجن الباستيل في فرنسا.. هده الفرنسيون لأنه رمز للظلم والقمع"، لكنه قال لي إن هناك قلعة أخرى في "بيرجو"، يفوتني الكثير إن لم أزرها.

أصبحنا والشمس زاهية، والسماء صافية، والجو هادئ..
وقد نمت الليلة أحسن من كل ليلة سابقة، والأفكار المحزنة أخذت تزول وتتبدل بالأفكار المسلية.
والسبب في ذلك - على ما أشعر - أن المظاهرات البريئة التي حدثت عقب قيامنا غضبًا لإبعادنا، وطلبًا لإرجاعنا، قد وجدنا فيها شيئًا كبيرًا من المكافأة والترضية.

من مذكرات سعد زغلول

8 إبريل 1919
تم اليوم الشهر من تاريخ القبض علينا، وقد حضر بناء على إلحاحنا أمس "المزين" يصحبه أحد العساكر؛ ليحضر أثناء الحلاقة، ويمنع الكلام بيننا.
والمزين أسير ألماني، أتي به من كامب آخر، فقص لي شعري الذي كان طويلًا، ويؤلمني طوله، ثم قص شعر إسماعيل صدقي.

من مذكرات سعد زغلول

بيرجو..

وصلنا أخيرًا إلى بيرجو، تلك العاصمة القديمة لمالطا التي تقع على ساحلها الجنوبي شهدت العديد من المعارك الضارية على مر التاريخ.. "هاي فسحتي المفضلة أنا وأولادي"، يقول مازن، على اليمين كان ثمة ميناء طبيعي ترسو عليه يخوت فارهة، وعلى اليسار ممشى طويل من البيوت القديمة والمطاعم السياحية، أما نهاية الطريق كانت عبارة عن سلسلة من المدافع القديمة، وقلعة "سانت أنجيلو".

صعدنا إلى القلعة عبر ممرات وأدراج دقيقة ومظلمة، حتى وصلنا إلى القمة، كانت تكشف البحر كله، ومرسى اليخوت من جميع ممراتها المكشوفة، تجاورها أيضًا كنيسة كبيرة، لكن لم تبد أي غرف مغلقة توحي بوجود سجن قديم بداخلها.

نتجاوز القلعة من مخرج خلفي، ثم نمر بممرات ضيقة للغاية حتى نصل إلى حارات "بيرجو".. هناك أطلق "مازن" زفرة حنين وقال: "هون عم حس إني بدمشق القديمة".

11 إبريل 1919
أمس بعد العشاء، في نحو الساعة الثامنة، ونحن حول مائدة اللعب، إذا بمحمد إبراهيم دخل علينا، وفي يده تلغراف من روتر، يقول فيه إن الجنرال اللنبي أعلن بأن السفر إلى خارج القطر صار مباحًا لكل المصريين!
كدنا نطير من الفرح لهذا النبأ السار.
جاءت الساعة العاشرة - موعد نومنا - فذهبت لقضاء الحاجة، وسمعت صوت محمد محمود باشا عاليًا جدًا، تغلبه رنة الباكي فرحًا، وقال: "إنا لم نقرأ بقية التلغراف! إنه يشمل على خبر أهم، وهو الإذن بسفرنا أيضًا! فتعانقنا، وقبل بعضنا بعضًا أمام بيت الأدب!

من مذكرات سعد زغلول

فاليتا..

استند عازف خمسيني على أحد الحوائط، يدوزن "أي يضبط" أوتار جيتاره الكهربائي، يطلب منه المارة التصوير، فيشير إلى ثيابه القديمة والأنيقة في الوقت ذاته، وشعره الأملس غير المهندم، ويعتذر: "لست فوتوجونيك اليوم"، ويعود بنظره إلى أوتار جيتاره من جديد.

شوارع فاليتا لا تنام، تمتلئ بالملاهي الليلية المفتوحة ونوادي الورق، يتراقص سائحوها على أنوار النافورة الكبيرة في مدخلها، ونغمات الكلارينيت والجيتار على جوانبها، يلتقطون الصور الفوتوغرافية مع 320 نصبًا تذكاريًا مشيدًا بها، وعشرات الكنائس والقصور التي تعود إلى عصر الباروك، والبيوت الأوروبية ذات الشرفات الخشبية القديمة، التي تكافئ الحكومة المالطية من يحتفظ بها، وفقًا لمازن.

اليوم الخامس..

لم تكن العودة إلى مصر هي المحطة الأخيرة، كان الجيولوجي الألماني جوهان فريدريش برايتهاوبت، رسم خريطة لمالطا عام 1632، ظهر فيها اسم "بولفارستا".. فبمزيد من البحث حصلت على نسخة واضحة منها.

وبمقارنة موقع "بولفارستا" بالخرائط الحديثة، نجدها قريبة جدًا من مطار لوقا الدولي، إلا أنها ما زال لا يوجد لها أي أثر.

حصلت أيضًا على صور قديمة توضح الدمار الذي حل بمالطا بعد الحرب العالمية الثانية.

تقول أستاذة التاريخ الحديث، لطيفة سالم، " ربما كانت قلعة قديمة وانهارت، وربما انهارت بفعل الحرب، مالطا كانت دائمًا في مرمى الحروب.. لعل ليس لها أي وجود الآن.. إذًا ليس أمامنا سوى أن نقول ربما ولعل.."

تستأنف الدكتورة آمال حامد زيان، المتخصصة في تاريخ أوروبا في العصور الوسطى "القلاع ليست إلا وسيلة للدفاع وصد الهجوم، وارد أن تكون هذه القلعة قد دكت في أي هجوم.. وارد جدًا أن تكون هذه القلعة والمدينة بأكملها قد انتهت".

بيت الأمة..

كل شيء بقي على حاله، حتى أوراق التقويم على الحائط توقفت عند الثالث والعشرين من أغسطس، يوم وفاة سعد زغلول، بوصية من سيدة القصر.. هناك كانت المحطة الأخيرة.

ذهبت لأقتفي أثر المنفى في متحف سعد زغلول - بيت الأمة.

"إحنا منعرفش حاجة عن المنفى غير مالطا وسيشل"، يتفق حامد السيد وسوزان فاروق، أمينا المتحف.. ثم تستأنف سوزان: "مفيش عندنا غير صورتين يقال إنهما من أيام المنفى.. لكن منعرفش ده صح ولا لأ، ومنعرفش إذا كانوا في مالطا ولا سيشل؟".

تسمرت أمام الصورتين، الأكيد أن من كان مع سعد زغلول في مالطا من الوفد هم محمد محمود باشا وإسماعيل صدقي باشا، لكن تلك الصورتين جمعته بأعضاء آخرين.

لم يكن لسعد زغلول أبناء أو أحفاد، لنمد إليهم فصول الرحلة، "اتبنوا رتيبة بنت أخت سعد، وخلفت مصطفى وعلي أمين عاشوا مع سعد 13 سنة في نفس البيت".. يقول حامد، أمين المتحف.

لم تترك صفية زغلول مذكرات، بينما تركت بيتًا ومتحفًا وضريحًا، يوثق السيرة.

لم يكن لدى مصطفى أمين تفاصيل أكثر مما رواه سعد في مذكراته عن "قلعة بولفارستا"، لكن كان لديه رسائل سعد السرية مع الجناح الميداني للثورة عبدالرحمن فهمي، وثقها في كتاب تحت عنوان "الكتاب الممنوع.. أسرار ثورة 1919".

ولم يكن لدينا أي شواهد أخرى حول موقع قلعة بولفارستا سوى احتمالات، ربما دكتها الحرب، وربما تغير اسمها، وربما تبدلت ملامحها كما تبدلت ملامح مالطا على مر العصور..

إلى أن وصلتني رسالة!



إلى الجزء الثاني

رحلة

مها صلاح الدين

رسوم: سحر عيسى

جرافيك: مصطفى عثمان وأحمد ياسين

ترجمة الفيديو: محمد الصباغ

مونتاج: معتز عزام

تنفيذ: مصطفى عثمان ومحمد عزت

إشراف عام: علاء الغطريفي