قبل الرحلة بثلاث سنوات، أتت "مباحث" لمصر في ظروف مهيأة تمامًا لاستقبالها. فالملك فؤاد الأول الذي يحكمها مُحب للبحر؛ لدرجة إنه أمر بتأسيس معهد للأحياء المائية لدراسة الحيوانات والنباتات البحرية وبحث كيفية الاستفادة منها. وبعيدًا عن كل التوترات السياسية مع القوى الوطنية، فالناحية الاقتصادية والعلمية تطورت في عهده على نحو ملفت.

لذا لم يكن اهتمامه بالعلوم خفيًا على أحد، وبالطبع على بريطانيا المسيطرة على مصر. فشجع ذلك البروفيسور جي ستانلي غاردينر (أستاذ علم الحيوان بجامعة كامبريدج) على الذهاب لوزير مصر المفوض بإنجلترا وطلب إعارة سفينة ترسو بالإسكندرية، واسمها "مباحث"، لاستخدامها في رحلة علمية هامة.

ولكي يقتنص "غاردينر" الموافقة بأسرع وقت، ألقى عرضه على طاولة المفاوضات، وهو أن تحصل مصر على جميع الآلات والأجهزة التي ستشتريها البعثة الإنجليزية لتضعها على "مباحث".

البعثة الإنجليزية التي تحدث "غارينر" باسمها هي بعثة "جون موراي"، الرجل الأهم في علم البحار والمحيطات في أوائل القرن العشرين، والذي اشترك في رحلة كانت الأولى لاستكشاف البحر في أماكن قاصية، مستعينًا بسفينة "إتش إم إس تشالنجر" عام 1872 ولمدة 3 سنوات.

ولأن "موراي" كان ثريًا جدًا، فهو بالأساس رجل أعمال، ترك وصية لابنه "جاك" بأن يخصص من مال شركته جزءًا لعمل بحوث في هذا المجال.

شَرع الابن في تنفيذ وصية أبيه واتفق مع "غاردينر" أن يكون مسؤولًا عن تنظيم بعثة استكشافية سيخصص لها 20 ألف جنيه إسترليني وتسمى باسم والده.. قررا معًا أن يكون مقصدها هو المحيط الهندي، ثم وقع اختيارهما على "مباحث"، التي صنعتها الشركة الإنجليزية "سوان هنتر".

ولما سأل أحد المراسلين في مصر البروفيسور "غاردينر" فيما بعد: "كيف وقع اختياركم على مباحث؟"، قال: "سمعنا عنها ووجدناها تصلح لهذا الغرض.. كما أننا نعرف شهرة الملك فؤاد بعطفه على الأبحاث العلمية.. وكان لدينا ثقة بأنه إذا خاطبنا الحكومة المصرية سنجد القبول".

صَدق توقع "غاردينر" ووافقت مصر على إعارتهم "مباحث"، لكن بشروط: إخلاء مسؤوليتها من أي مشكلة سياسية تنشأ عن أعمال البعثة، رفع العلم المصري على السفينة بجانب "البريطاني"، تأمين سلامة السفينة وركابها، أن يتضمن الطاقم العلمي مصريين اثنين أحدهما من مصلحة خفر السواحل والآخر من كلية العلوم، إلى جانب الحصول على جزء مما ستجمعه البعثة من نماذج ونسخة من التقارير التي ستصدرها.

لبَت البعثة كل الشروط المصرية، وستقوم "مباحث" العاملة في حراسة الساحل، بدور جديد عليها كدراسة كيمياء مياه المحيط وقاع البحر وأحيائه.

كان ذلك في وقت لم تعرف فيه مصر سوى "بحوث مصايد الأسماك"، التي تولى الإنجليزي "ويمبيني" أمورها عام 1927، وهو من صاغ برنامجًا للبحوث بمجموعة علماء بريطانيين ومصريين، البرنامج الذي أتى بـ"مباحث".

خَلف "ويمبيني" في المنصب حسين فوزي عام 1931، وهو في الأصل طبيب عيون، وصار بدوره عضوًا بالطاقم العلمي في رحلة "مباحث". وقبل المغادرة، التقى "فوزي" وأفراد من الطاقم بالملك شخصيًا، وأقام لهم مدير عام مصلحة خفر السواحل ومصائد الأسماك حفلة شاي على ظهر الطوافة "الأميرة فوزية"، دعا إليها الوزراء ومحافظ الإسكندرية وكبار الموظفين.

وبعد انتهاء هذا الحفل تفقد محمد شفيق باشا (نائب رئيس الوزراء) السفينة وأجهزتها، ليجد أن "مباحث" باتت جاهزة لرحلتها الطويلة التي لم تخض مثلها من قبل، فهي لم تنشأ إلا لقضاء 15 يومًا فقط في البحر.

فور تحرك السفينة، تفرق الجميع يمينًا ويسارًا وتداخلت أصواتهم المصرية والإنجليزية مع صوت "طقطقة" الأخشاب. وضعوا حقائبهم في الكبائن الضيقة، ورتبوا الأدوات والمعدات في المنتصف.

بَعدها، اجتمع "فوزي"، الإسكندراني ذو الـ33 عامًا، مع سيمور سويل (رئيس البعثة ومدير متحف التاريخ الطبيعي بالهند) والذي يكبره بعشرين عامًا، و"طومسون" و"ماكان" و"جيلسون" (الأساتذة في جامعة كامبريدج)، وعبد الفتاح محمد (المعيد بكلية العلوم بالجامعة المصرية)، والكابتن ماكنزي (القومندان) لمراجعة محطات الرحلة والمواقع بأرقامها.

أربعون شخصًا على متن "مباحث" الصغيرة، يختلفون في كل شيء، حتى إن ذلك يبدو واضحًا من وجوههم وكلامهم، لكن ربما ما يجمعهم غير السفينة هو أن لا أحد منهم يدرك بالضبط شعوره في هذه اللحظةّ. فهم خائفون ومتحمسون في آن واحد.

في البداية، مروا سريعًا على بورسعيد ثم السويس ثم الغردقة، ونزلوا بالأخيرة لزيارة محطة الأحياء المائية في ضيافة "كروسلاند" (مدير المحطة).

ستترك "مباحث" أثرها في نفس هذا الرجل، وربما تمنى أن يكون ضمن طاقمها، ذلك ما سيظهر لاحقًا.


عدن – باب المندب – 22 سبتمبر

في المساء، اتجهت "مباحث" نحو عدن، ومنها إلى منطقة بحثها الأولى "باب المندب" في البحر الأحمر.

دائمًا ما تكون أولى المحطات هي أصعبها. التوتر ظاهر على الكل سواء الأساتذة المرتدين القمصان المهندمة، أو البحارة عراة الصدر الواضعين "الطاقية" فوق رؤوسهم.. فهي لحظة، يتعرف فيها كل منهم على عمل الآخر. ولا بديل غير أن يمتزج ويتعاون هؤلاء الواقفون على الرافعات ممسكين بالحبال، والآخرون حاملين الأدوات والأجهزة العلمية.

ولم تكن الأجواء حولهم مريحة على الإطلاق، فسطح "مباحث" مزدحم بالمعدات، فامتلأت بأكثر من طاقتها بثلاثة أضعاف، وحملت فحمًا إضافيًا؛ لذا كانوا يتناولون طعامهم على دفعتين لصغر مساحة غرفة الطعام. كما أن تنقّلهم كان صعبًا وخطيرًا في كثير من الأحيان.

وحده حسين فوزي كان يشغله شيء آخر. فيقول في إحدى مذكراته للإدارة بمصر: "كنت أخشى سلوك الموجودين على السفينة.. فقد تجمع أشخاص لا يجمعهم جنسية أو ثقافة أو لغة".

رغم كل ذلك، مرت المحطة الأولى بنجاح، وجُمعت العينات المطلوبة في الوقت المحدد لها. لكن صَادفت السفينة أولى مشاكلها بعد مغادرتها؛ حيث تعطل جهاز التبريد بها وفسدت الأسماك واللحوم وألقوها في البحر. فاعتمد طعامهم لفترة على الخضروات فقط.

وعندما حاول المهندس جرجس (مهندس السفينة) إصلاحه، تنشق غاز "كلورور الميتيل"، وظل نائمًا في حالة تخدير؛ ما اضطر "فوزي" إلى تغيير جدولهم والعودة إلى عدن مرة أخرى، حيث بقى "جرجس" في مستشفاها ثلاثة أيام.


خليج عدن - 2 أكتوبر

أبحرت "مباحث" مجددًا متجهة إلى عدة نقاط في خليج عدن قرب الشاطئ الإفريقي، ومنه خرجت إلى عرض المحيط الهندي، ثم عادت إلى الخليج مرة أخرى قرب شاطئ جزيرة العرب. ولطالما احتاجت السفينة الصغيرة إلى رعاية، فعادوا بها إلى عدن، ليستغل نجارها الوقوف ويصلح بدنها قدر الإمكان، ويأتي مهندس ليفحص "طبلة الونش" التي تلفت نتيجة سرعة لم تتحملها.

صحيح أن الجو كان لطيفًا في هذه الرحلة خاصة في المحيط، إلا أنهم وجدوا مشاق أخرى لقلة الغذاء ورداءته، فكان قوامه لحوم بضعة رؤوس هزيلة من الغنم، أخذوها حية على ظهر السفينة، ليذبحوا منها رأسًا كل يومين.


كراتشي - 10 نوفمبر

تَحمل الطاقم كل هذا. قضوا ليالي صعبة. وبوصولهم ميناء كراتشي (أكبر مدن باكستان)، باتت وجوه العمال المصريين كلها مغبرة بالفحم، لكنهم ظلوا مبتسمين. وقتها تبدد خوف "فوزي" كله تجاه سلوكهم. فيقول إنهم "تحلوا بالصبر وكانوا مطيعين للأوامر ومنظمين وتحملوا سوء الغذاء والمشقة".

كما تناوب الضباط والمهندسون على ورديات كل أربع ساعات بلا كلل. وازداد نشاط المعامل مع جلب المزيد من العينات، حتى إن "فوزي" عمل كثيرًا بيديه؛ لذا اعتبر أن "رحلة عدن – كراتشي هي أكثر الرحلات توفيقًا لهم حتى الآن".

ويقول في مذكرته من هناك: "إذا سارت الرحلات القادمة بهذا الشكل، سيقال إن بعثة جون موراي كانت من أعظم الرحلات وأكثرها نشاطًا وإنتاجًا".

تسارعت وتيرة العمل في "مباحث" عند خليج عدن والبحر العربي، وربما غطى ذلك على مشاعر ساكنيها وتأثرهم بالغربة وفراق أهلهم لشهرين. فالجميع كان ينتظر لحظة الذهاب إلى فراشه ليقتنص بعض ساعات النوم ويستعيد قوته في اليوم التالي.


خليج عمان - 8 ديسمبر

في نهار يوم 8 ديسمبر، أبلغهم الكابتن ماكنزي، القومندان الثلاثيني، أنهم وصلوا خليج عمان، حيث منطقة بحثهم الجديدة حتى مدخل الخليج الفارسي. رست "مباحث" ليلة في مسقط (عاصمة عمان). وكلما وصلت إلى ميناء، جرى عمالها إلى أقرب سوق لينفقوا ما لديهم من مال لشراء طعام إضافي.

لم تستغرق تلك المنطقة منهم سوى يومين، لتقطع "مباحث" عرض المحيط الهندي من الهند إلى إفريقيا، وتعبر خط الاستواء، في منطقة بحث هي الأكبر حتى الآن.. تجاوز عدد محطاتهم بعدها المائة.


نيروبي - 1 يناير

دامت تلك الرحلة 19 يومًا حتى وصلوا إلى "نيروبي" (عاصمة كينيا)، أُجهد البحارة في محاولة رفع البخار للدرجة المطلوبة؛ لأن الفحم الذي زودوا به في توقفهم الأخير كان رديئًا، كما حلت عليهم رأس السنة، ولم يكن مألوفًا لأحد من المصريين قضاء مثل هذه الأوقات بعيدًا عن أهله بل وفي عرض البحر.

شعروا بالغربة بحق كلما مرت عليهم مناسبة، لكن الملفت هو انسجامهم مع الفريق الإنجليزي؛ إذ ذكر "فوزي" أنه سمع ذات يوم من أحدهم عبارة: (متكسوفناش قصادهم) مخاطبًا زملاءه. لكن في الوقت نفسه، وصل إليه تفكيرهم في أمر ترقيتهم الذي وعدتهم به المصلحة قبل سفرهم؛ لذا أبلغ الإدارة بأهميته في كل مراسلاته معهم.

في تلك الأيام، كان "فوزي" مبتهجًا بشدة لحصول البعثة على نتائج علمية مهمة جدًا كدراسة طبقات البحر حتى عمق خمسة آلاف متر، كذلك أحياء الأعماق البعيدة.

لكن سعادتهم لم تدم طويلًا، وانقلب الوضع في ليلة واحدة، إنها ليلة 16 يناير.

في تلك الليلة المشؤومة، ضَرب المرض "مباحث" وأصيب طاقمها واحد تلو الآخر. بدأ الأمر بحالات حمى مختلفة العوارض، وبما أن "فوزي" هو طبيب البعثة، فشخص حالة أحدهم بأنها ملاريا، واشتبه في أخرى، وفعل ما في وسعه لعلاجهما. فيما اشتدت الحالة على اثنين آخرين، ليطلب "فوزي" من الكابتن الذهاب سريعا إلى زنجبار (جزر بالمحيط الهندي تابعة لتنزانيا) ليدخلا المستشفى هناك.


زنجبار - 18 يناير

وفي بحر بارد ومتقلب، كُسر السير الهادئ للسفينة أثناء ذهابها إلى "زنجبار"، فالتيارات اشتدت على "مباحث". استدعى الكابتن ماكنزي خبرته، فتعامل مع الأمر وقلل سرعتها. وعند وصولهم، كان المرض امتد لآخرين.

هناك، استغل "سيويل" (رئيس البعثة) التوقف، وألقى محاضرة أمام جمهور غفير تحدث فيها عن البعثة، وبالطبع عن "مباحث". وقتها، تمنى "فوزي" لو أن البعثة مصرية فقط، ونظموا محاضرات وصورًا سينمائية عن مصر، كما فعلت البعثة الدنماركية على ظهر السفينة "دانا"، والتي زارها في تونس وسمع منها محاضرة عن الدنمارك، لا عن البعثة.

وبعدما انتهت هذه المحاضرة، استكملوا عملهم حول بحر هذا البلد.

فاجأهم مرة أخرى بعد التحرك، مَرض أحد البحارة وأنه يعانى من آلام حادة في البطن. وحين عادوا بعد 6 أيام إلى زنجبار دخل وثلاثة آخرون المستشفى. لم يكن أمر هذا الرجل هينًا، فرأى "فوزي" أنه حتى لو تحسنت حالته، فيمكن أن يتعرض لوعكة أخرى لا حل لها في البحر، لأنها قد تحتاج إلى عملية جراحية، لذا قرر إبقاءه ليعيده أحد متعهدي البعثة إلى الإسكندرية بعد استقرار وضعه، وأبلغ الكابتن ماكنزي أن يختار بديلًا له من زنجبار.

ليس هذا البَحار الوحيد الذي فقدته "مباحث" حين غادرت زنجبار، إنما بقى واحد أخر بالمستشفى، لكنه سيلحق بهم في محطتهم التالية "كولومبو" (عاصمة سريلانكا).

عندما حان وقت الرحلة القادمة، دَب القلق والارتباك في "مباحث"، وكأن حالة طوارئ مفاجئة أعلنت عليها، فاتجهت إلى جزيرة سيشل لشحن فحم إضافي، وتلقى طاقمها "أملاح الكينا" كعلاج وقائي من الملاريا.

كل تلك الاستعدادات لأن بانتظارهم رحلة طويلة أخرى في عرض المحيط، لا بر قريبًا لها، كما أن الرياح لن تكون معهم. وقد أصبحت "مباحث" منهكة بعد عمل خمسة أشهر بلا انقطاع تقريبًا.


كولومبو - 22 فبراير

للمرة الثانية، تعبر "مباحث" المحيط الهندي، وعلى عكس توقعاتهم، مرت بسلام ولم تعقهم الرياح إلا في الأيام الأخيرة، لكنها لم تمنع سيرهم والوصول إلى كولومبو. والأهم أنهم اكتشفوا في طريقهم سلسلة جبلية في قاع البحر، وهي المرة الثالثة التي تكتشف فيها البعثة حواجز جبلية بواسطة جهاز قياس الأعماق الذي يديره "فاركسون" (ضابط الملاحة).

وبينما تحسنت صحة المرضى واستعاد الآخرون صحتهم بعد راحة لأسابيع في المدينة، كانت الحالة النفسية سيئة.

في يوم، مَشى حسين فوزي باتجاه غرف مبيت رجال البحرية كعادته ليتفقد أحوالهم. تحدث معهم، ولم ينجحوا في إخفاء إحساسهم بالضيق تجاه الإمكانيات الضعيفة المتوفرة لهم وسوء التغذية.. صمت "فوزي" أمام أحاديثهم المتناثرة، وبدا أن كل ما يقولوه ليس مفاجئًا له، بل تذكر السفينة الحربية الفرنسية التي رآها في ميناء كولومبو عندما وصلوا، وانتبه إلى صالونها المتسع المزود بالمراوح الكهربائية والموائد.

وجد نفسه يقارن بينها وبين "برطوز" البحرية على ظهر "مباحث" وهو مكان أكلهم ونومهم وجلستهم.. وتساءل في داخله ثم في مذكرته: "هل كان سيكلفنا كثيرًا أن نمدهم ببعض المراوح الكهربائية؟".

لم يسترح هؤلاء الرجال، لكن في المقابل استراحت "مباحث"؛ إذ بدأ فحصها وعلاجها ودهانها. وبعد نحو شهر، غادرت كولومبو قاصدة جزر منها "المالديف"، بهدف دراسة الشعاب المرجانية.

كانت مدة الرحلة هي الأطول في البحر، حيث بقوا 28 يومًا بزيادة ثلاثة أيام عن وقتها المحدد في جدولهم، التقوا بسلطان "المالديف"، الذي أعارهم سفينة شراعية. وكما هو الحال في الزيارات الرسمية بالدول التي تمر عليها "مباحث"، يكون "فوزي" ممثلا لمصر، و"سيويل" للبعثة، و"فاركسون" للبحرية البريطانية.

وخلال تلك الأيام أيضًا؛ استغل الملازم أحمد بدر، وهو من الإدارة البحرية بمصلحة خفر السواحل، غياب ضابط الملاحة "فاركسون" ليتسلم أعماله ويستخدم جهاز قياس العمق. ولم يؤد مهمته على أكمل وجه فحسب، إنما كشف بجهاز قياس الأعماق عن هضبة مغمورة، فأطلق عليها "سيويل" (رئيس البعثة) اسم الملك فؤاد، وأرسل فعلا للسراي يستأذنها في التسمية.

مرة ثانية، عادوا إلى كولومبو. وفي محاضرة لكولونيل "سيويل" هناك، دار حديثه عن البحارة المصريين: "مع أنهم لا يعرفون الإنجليزية ولا العلماء الإنجليز يعرفون العربية فقد عمل الجميع سويًا لا بحماس فقط لكن بروح المرح أيضًا".

فبالتأكيد لاحظ "سيويل" توطد العلاقة بين الفريقين الإنجليزي والمصري، بعكس العلاقة السياسية خارج البحر؛ حيث كثرت أحاديثهم عن كل شيء، ومنها على سبيل المثال فكرة رفض البحارة المسلمين شرب الخمر. كما التقط البريطانيون كثيرًا من الألفاظ المصرية خاصة ذات العلاقة بالبحرية. فذات يوم، فاجأ أحدهم الجميع وأعطى أوامره بلغة مصرية، وهو ما أغرقهم في الضحك لركاكة نطقه.

وفي وصف "فوزي" للحياة التي نشأت على ظهر "مباحث" قال باختصار: "الجميع صاروا أسرة واحدة".


عدن - 8 مايو

باقتراب رحلة "مباحث" من نهايتها، هدأت الحركة عليها في طريق عودتها إلى نقطة البداية "عدن". إنها فرصة لالتقاط الأنفاس، حيث جلس أفرادها بأجسادهم المتعبة ليحدقوا في البحر ويستمتعوا به قليلا. وفجأة وقع حادثان من شأنهما أن يحولا الأجواء والرحلة كلها إلى كارثة.

قطيع من القروش في خليج عدن جاء ليُفسد المنظر عليهم ويحيط بالسفينة من كل ناحية.. تأهب العمال في لحظة بلغ خوفهم أقصاه، فأغلبهم لم ير قرشًا واحدًا من قبل. لكن ضباطها تعاملوا معهم وأطلقوا أكثر من أربعين رصاصة، قتلوا بها 18 قرشًا، وتمكنت "مباحث" من الإفلات منها.

بعد مرور بضعة كيلو مترات، هدأ ساكنوها وعاود بعضهم العمل كعبد الفتاح محمد (المعيد بكلية العلوم)، الذي مال بجسده بشدة ليأخذ نماذج من الماء، ثم سقط فيها.

صَرخ الشاب طالبًا النجدة. هرع الجميع ناحيته، لأنه لا يجيد السباحة، وزاد أمره مأساوية، أن عمق البحر حينها بلغ 1000 متر، ومازالوا في المساحة المزدحمة بالقروش.

لكن لحُسن حظه، كان القارب الملحق بالسفينة في الماء وقتها، وعليه البحريان الماهران محمد السلامي وأحمد يوسف ينظفان جوانبها.. فألقيا بنفسيهما لإنقاذه، والتقطه الآخرون.. وحين صعد على ظهر السفينة، قال له الكابتن "ماكنزي" بالإنجليزية: "أنت مدين للبحرية المصرية بحياتك".

استقرت "مباحث" لأيام قليلة في ميناء عدن. وثمة تقليد متبع للسفن الراسية في الموانئ، جعل "مباحث" تتزاور مع طواقم السفن الفرنسية، البريطانية، والإيرانية.

وقد حظيت السفينة المتواضعة والتي كانت "عادية" في السابق بسمعة طيبة وشهرة واسعة. فما إن تحل في ميناء أي بلد، إلا ويفد عليها مراسلو الجرائد المحلية والزائرون العاديون أيضًا لمشاهدة معملها ونماذج الحيوانات والنباتات في أوانيها. وأبدى جميعهم تعجبهم من قدرة طاقمها على البقاء واجتياز مخاطر عبور المحيط.

وبينما، لم يجد حدث "مباحث" موقعًا في الصحف المصرية إلا قليلًا، كانت الصحف البريطانية والأوروبية مهتمة بنشر أخبار البعثة. عَرف "فوزي" ذلك من كم الرسائل التي وصلت إليهم من زملائهم في دول أوروبية.

وأخيرًا، وصلت "مباحث" مصر. نزل طاقمها في السويس قليلا، ثم قضوا مساءهم في الإسماعيلية، وتوجهوا إلى بورسعيد في الليلة التالية، وبها، أقام لهم مدير إدارة السواحل الشرقية في بورسعيد حفلة شاي في منزله. وعقب الحفلة مباشرة، أخذت "مباحث" طريقها إلى الإسكندرية، وحين اقتربت منها صادفها لنش بشكل مفاجئ.

هذا اللنش يعد أحد لنشات مصلحة خفر السواحل، وعليه مهندسون، انتقل أحدهم إليها ليفحص آلاتها.

الإسكندرية - 25 مايو

عند الساعة الثانية إلا ربعًا بعد الظهر، كان 300 شخص تقريبًا يحتشدون على رصيف الميناء في انتظار "مباحث" بينهم نجل جون موراي بنفسه، الذي يمكنه أن يقول الآن إنه نفذ وصية أبيه.. بجانبه زوجة القومندان "ماكنزي" التي جاءت من إنجلترا للتو، والأميرلاي فؤاد بك، مدير مصلحة خفر السواحل، وغيرهما من المسؤولين. في هذا الوقت، كان مندوب المصلحة يجري بـ"مباحث" رحلة تجريبية في العجمي لاختبارها، ووجد أن حالتها جيدة إلى حد كبير؛ باستثناء أشياء تلفت مثل الونش وقطع أسلاك.

وبحلول الرابعة ظهرًا، جاءت "مباحث" للمكان نفسه الذي غادرته قبل 9 أشهر، وسط تهليل الواقفين على الرصيف.. هَبط كل من عليها في حالة سعادة ممتزجة بذهول، وفي داخلهم الكثير من الحكايات: "لقد عبرنا المحيط مرتين وعدنا مرة أخرى!". وإن كانت "مباحث" تستطيع الحديث لقالت مثلهم، فالسفينة التي لم يتنبأ لها أحد أن يتخطى دورها حراسة الساحل المصري، جابت المحيط والبحار شرقا وغربا.

الحفلات كانت في انتظار القادمين. أما "مباحث" فدخلت "الحوض الجاف" للسفن لفحص الجزء الغاطس بها. وبينما يحدث ذلك بدأ تفكير مسؤولي البعثة في نتائجها المقرر إعداد تقارير بها، والتي يقول عنها حسين فوزي "إنها ستحتاج إلى أعوام طويلة وتوزيع النتائج على أخصائيين كثر".

بعد العودة بـخمسة أشهر، تواصل نجل موراي مع أمناء متحف التاريخ الطبيعي في لندن لنشر تقارير ونتائج البعثة. وبالفعل، اتفقوا وتولى مسؤولوه نشرها لسنوات، وكانت الأوراق بين يدي شخصين أساسيين هما "سيويل"، ودكتور "كالمان" (المتخصص في علم الحيوان)، حسب تصريحات "جاردينير" لاحقًا.

" سيويل"، الذي انتخب عضوًا في المجمع العلمي البريطاني بعد عودته، ظل لنحو 26 عامًا ينشر أكثر من 7000 صفحة بلا كلل ولا ملل حتى تقاعد، وفقا لما يذكره سليم مرقص (أستاذ علوم المحيطات بجامعة الإسكندرية) في مقال له.

بالتأكيد الأمر يستحق. لقد خرجت "مباحث" بعدد كبير من الاكتشافات الهامة مثل نظام تبادل كتل المياه والتيارات البحرية، منطقة خالية من الحياة في بحر العرب، وبضعة مناجم. وقد ظلت هذه الاكتشافات وغيرها ولفترة طويلة، هي كل المعلومات المتاحة عن المنطقة.

أما العينات التي التقطتها، فبحسب مقال سليم مرقص ومنشورات علمية أخرى، محفوظة في متحف التاريخ الطبيعي. لكن الشيء الغريب هو أن بتواصلنا مع متحف التاريخ الطبيعي في لندن قبل أيام، ذكرت مسؤولة أرشيفه أنه "لم يعد يحتوي على أي عينات خاصة بالسفينة مباحث"، ولم يُعلن أن مصر حصلت على جزء منها كما كان متفقًا عليه وقت إعارتها.

لم تنته قصة "مباحث" عند هذا الحد، بل أنها ازدادت إثارة ودراما حتى حل جانبها المظلم.