اللقاء بين الراهبة المسؤولة عن دار الرعاية و"أمل" بدد كل آمالها وتفاؤلها، وأربك حساباتها. فتبدلت معالم وجهها وعقدت يداها وهي تستمع إلى كلمات الراهبة: "كل الأطفال الموجودين معلومو النسب، ولديهم أشخاص من عائلتهم تسأل عليهم أو تزورهم من آن إلى آخر، لا أحد مجهول لدينا.. للأسف لا يمكننا مساعدتك".
تلقت "أمل" ضربة غير متوقعة. حاولت أن تقاومها، حيث ظلت تتحدث إليهن مرة بعد أخرى، لإقناعهم بالتواصل مع أهل الطفلة. فثمة طريقة واحدة لكفالة طفل معلوم النسب وهي تنازل الأقارب عنه رسميًا. لكن جاءتها كل الردود – عن طريق راهبات الدار – بأنهم رافضون بشدة للفكرة.
"يعتبرون إعطاء ابنتهم لأسرة عاراً، لكن يتركونها في دار أفضل بالنسبة لهم"، تقول "أمل" بنبرة ساخرة،.
تراجعت خطوة إلى الوراء في مفاوضاتها، وعرضت على الراهبة أن يأتي أهل الطفلة ليزوروها في أي وقت. تقترح ذلك وهي تعرف في داخلها أنه سيسبب مشاكل لها، فيمكن أن يتدخلوا في قرارات حياتها كالتعليم والزواج إلى آخره، وفقا لحديثها.
رغم ذلك، رفضت المسؤولة إعطاءها وسيلة تواصل معهم.
كل الأفعال كانت تؤكد لها أن الراهبات لا يملكن أي دافع لمساعدتها، كما تقول، "فهن يسكن فيلا وتأتي لهن تبرعات كثيرة. ويرون أن بذلك يتوفر للأطفال أفضل رعاية وتعليم". ومن ناحيتها، لم تنكر ذلك، لكنها ترى أنهن يغفلن الجانب "النفسي"، فالطفلة التي تتحدث عن كفالتها صدر لها جواب فصل في الحضانة بسبب أفعالها الغريبة.
تحولت كل مشاعر "أمل" إلى خيبة أمل. فإن كان هذا الدار الذي تخدمه، فكيف سيكون الحال في الدور التي لا تعرفها؟. هكذا فكرت، ثم تواصلت مع آباء كهنة تعرفهم من محافظتها بالصعيد، وجاءها رد واحد تقريبًا باتت تتوقعه: "كل من في الدور المسيحية معلومو النسب، لأن مجهولي النسب يصبحون مسلمين. لكن إن وجدنا أحداً مناسباً سنتواصل معكِ".
مرت أشهر ولا جديد يحدث. كما أن الوقت ليس في صالح "جواب المشاهدة" المفترض انتهاؤه بعد سنة. في تلك اللحظة، أدركت "أمل" خطأها، عندما لم تستمع لنصيحة مارلين ناجح (مؤسسة مبادرة كفالة طفل مسيحي) بأن تجد طفلا أولا، ثم تسلك طريق الإجراءات.
مع الوقت، اتسعت مبادرة "مارلين" أكثر، تحديدًا بعد كفالة الطفل المسيحي الثاني في فبراير الماضي. فتجاوز عدد متابعي صفحتها على "فيسبوك" العشرة آلاف، واجتمعت خمسون سيدة في "جروب" المبادرة على "الواتس آب"، ما بين نساء يعتزمن البدء في الإجراءات أو حصلن بالفعل على "جواب مشاهدة" ويبحثن عن طفل مثل "أمل".
كان الملفت والغريب بالنسبة لـ"أمل" أن تجد بين هؤلاء؛ سيدات يعشن في أمريكا وبريطانيا. أول سؤال قفز إلى رأسها: "لماذا تحتاج هؤلاء للمساعدة، وهن يمكنهن التبني هناك؟". فاكتشفت أنه لابد الحصول على الجنسية أولا للتبني، وهو ما حذف فكرة السفر من قائمة الحلول المتاحة أمامها.
أولى سيدات هذا "الجروب" كانت كريستين صموئيل (36 سنة)، الحالة المختلفة عن الباقين. فهي لديها ابنة عمرها 5 سنوات، لكنها تريد أن تأتي لها بأخ أصغر عن طريق الكفالة. والسبب، كما تذكره، "في وقت كورونا، فكرت في كم المجهود الذي نبذله مع ابنتنا وهي واحدة، فما بالك بالمئات من أطفال الملاجئ.. فكرت في مشاعرهم ومستقبلهم".
ربما كان بديهيًا لزوجها "نادر" أن يقول: "إن أردنا أخاً لابنتنا ننجبه طبيعيًا"، وأن يحذرها أهلها وأصدقاؤها: "سيكون هناك تفرقة بينه وبين ابنتكم، لن تحبوه مثلها". لكن "كريستين" لم تتردد لحظة بل وأقنعت زوجها.
وبمجرد أن قدما أوراقهما بالشؤون الاجتماعية، صارت هناك بعض الهمهمة في الغرفة وبدا الكلام يدور عنهما. لم تخف الموظفة عنهم تعجبها من طلبهما، الذي قدماه في يونيو 2021: "لم أصادف مسيحيين حصلوا على أطفال!". كان ذلك إشارة لـ"كريستين" أن تبدأ البحث حتى قبل أن تنتهي الإجراءات.
وبعد ثمانية أشهر تقريبًا، حصلا على جواب المشاهدة الذي انتهت صلاحيته دون أن يجدا طفلا في عشرات الدور التي ذهبا إليها أو تواصلا معها. تقول "كريستين": "كنت مستعدة نفسيًا حين حصلنا على الجواب، لكنني الآن محبطة". في حين يعلق مشهد واحد في ذهن "زوجها": عندما كانا يقدمان أوراقهما، ووجدا سيدة مسلمة تحمل جواب مشاهدة مثلهما وتحتار في الاختيار. يتذكره قائلا: "شعرت أننا في منطقة مختلفة تمامًا. لا خيارات ولا أماكن".
الآن، امتد ذلك الإحباط إلى "أمل" أيضًا مع اقترابها من مصير "كريستين"، وقد تمكن اليأس من زوجها بعد أن ظل لأشهر يبحث معها. تقول: "لم يعد لدي شروط الآن.. ولد أو بنت، سن صغير أو كبير.. أي شيء سأرضى به".
لأيام، ترددنا على دور رعاية مسيحية بمناطق مختلفة، لطلب كفالة طفل. ولم يأتِ رد مغاير لما ذكروه "أمل" و"كريستين" و"مارلين".. فالوجوه تيبست وتفاجأت بالطلب حتى إن مدير الدار الأول قال دون تفكير للحظة واحدة: "ليس لدينا شيء اسمه كفالة!".
وحين فهم الأمر، أومأ برأسه، وأجاب "بأن كل طفل بالدار له أهل. أتوا به إلى هنا كأمانة لدينا، لا ليذهب إلى مكان آخر"، ثم اقترح "البحث عن سيدة تنجب كثيرًا ولا ترغب في الاحتفاظ بمولودها".
تصطدم "مارلين" كل يوم بهؤلاء المسؤولين التي تقول "إن أغلبهم معارض للفكرة من أساسها، لأسباب تخصهم". ورغم أن دورها التوعية، لا البحث عن طفل، لكن لم يعد في مقدورها أن تمنع نفسها من مواصلة الطريق مع الحالات، كذلك لا تمنع نفسها من الغضب. فتذكر على سبيل المثال تلك الأسرة التي تأتي من الصعيد كل فترة، حاملة جواب المشاهدة وتقابل "ردود فعل رافضة وأحيانا سيئة من مسؤولي الدار، ويغلق الباب في وجوههم".
تحكي بانزعاج شديد: "أنا من سوهاج، وأعرف ما معنى أن تتقبل أسرة صعيدية كفالة طفل وألا يكتب باسمها، هذا ليس سهلا أبدًا".. تصمت قليلا وتفحص الرسائل التي تأتي إليها، تشير إليها ثم تقول: "أشعر ناحيتهم بعجز رهيب، أحيانا يصل الأمر أنني لا أريد الاستمرار".
وعلى ناحية أخرى، حُسمت قضية الطفل "شنودة" بإصدار النيابة العامة قراراً بتسليمه للسيدة التي عثرت عليه بعد أن تستكمل إجراءات كفالته. كما قررت التوجيه بإعادة تسمية الطفل باسم مسيحي، بعد استطلاع رأي مفتي الجمهورية بشأن ديانة الطفل.
ربما أعاد هذا الخبر قدرًا من التفاؤل لـ"أمل" و"مارلين"، فتقول الثانية: "فكرة عدم وجود أطفال مجهولي النسب مسيحيين تصعب الموضوع جدًا. لابد من تصنيف ما يحدث".
ولما انتهت القضية على هذا النحو؛ توالت المكالمات على نجيب جبرائيل (المحامي) من أسر ترغب في الكفالة، بحسب حديثه. فهو يرى "أن فتوى الأزهر أفسحت المجال لصدور تشريعات قانونية تنظم الأمر".
ويكمل حديثه: "المسار القانوني الحالي قائم على إن لم يثبت أن الطفل مسلم، فنقدم الإثباتات والقرائن التي تفيد باحتمالية أنه مسيحي كما حدث مع شنودة، حيث قدمنا شهادة من الكنيسة التي وجد بها إلى جانب شهادة الشهود.. لكن ما نحتاجه الآن هو تقنين المسألة وتحديد المطلوب لتصنيف ديانة الطفل، وخروج كل ذلك في صورة قانون واضح لا يحتمل التأويل".
كل ذلك يجري في ظل غياب القانون الذي يحتكم له المسيحيون لتنظيم أمور الزواج والطلاق والمواريث والتبني، رغم مناقشته لسنوات طويلة.
الحقيقة أن المسألة ليست قانوناً فقط، إنما للكنيسة دور كبير جدًا"، تقول "مارلين" بعدما التقت البابا تواضروس الذي أفسح لها المساحة للتحدث أمام اجتماع المجمع المقدس، حتى إن مبادرتها صارت تحت مظلة لجنة الملاجئ التابعة للكنيسة، اللجنة التي لم يصل لنا رد من مسؤوليها حتى اللحظة.
ما تتحدث عنه "مارلين" هو شكل يجعل الأمور غير متروكة في يد مسؤولي الدور. ذلك نفسه ما تريده "أمل"، فلا تفترض النوايا الطيبة على الدوام. تشعر بـ"أنانية شديدة"، بحسب وصفها، فتقول: "هن لا يرين أمثالي، فقط يهتممن بالمساعدات وأمور أخرى. وليس من المفترض أن تكون الراهبات هكذا".
وفي يوم غير معتاد، امتلأ بيت "أمل" بالأصوات واللعب وانكسر هدوؤه. إذ جاء لها ثلاث بنات من الدار لتعطيهن درس الإنجليزية. وكعادتهن؛ لم يتوقفن عن الحديث، حكين عن الدار، الراهبات، وعن يوم الزيارة العائلية الذي يتم كل فترة، فقالت إحداهما: "ماما مشت معي خمس دقائق وأعطتني هدية ثم تركتني".
الأمر كله أشبه بعذاب بطيء وغير مفهوم أسبابه لـ"أمل"، عندما ترى "أماً لا تريد ابنتها، وهي تتمنى بنتًا". وحين حان وقت المغادرة، ظللن يبكين حتى لا يذهبن. كن ينظرن إليها نظرة كأنها تتخلي عنهن، فتقول: "كنت ممزقة. لا أعرف ماذا أقول لهن؟".
عادت "أمل" إلى الصمت مجددًا، الصمت الذي يسمح لها بالتفكير مع نفسها: "لقد فعلت كل شيء. قد تكون رسالة ربنا أن اكون أم الكل رغم أن في ذلك ظلم لي"، لذا قررت إن لم تجد طفلا. لن تجدد جواب المشاهدة.
أما "كريستين" وزوجها "نادر" فلا يزالان يبحثان بجوابهما "منتهي الصلاحية" على أمل أن يجدا طفلا، وساعتها سيجدداه.
ووسط كم كبير من المشاعر السيئة والمشاهد المحبطة. لا زالت "مارلين" تحاول أن تجد لمبادرتها أرضًا وتخلق واقعًا آخر: "أنا لست متزوجة مثلهن. لكن أفكر في كفالة طفل ولن أستطيع ذلك إن لم تُحل مشكلة المسيحيين".. تهون قدر الإمكان على الحالات التي تأتي إليها، لكن يبدو وكأنها تهون على نفسها أيضًا: "أقول اصبروا عسى أن يحدث شيء. وأحيانا لا أجد ردًا".
- أخفينا هوية بطلة القصة وحذفنا صورتها بناءً علي طلبها.
قصة - صور: مارينا ميلاد
رسوم: سحر عيسى
إنفوجرافيك: مايكل عادل
تنفيذ: محمد عزت
إشراف عام: علاء الغطريفي