لفهم المشاهد التي تحدث في مطار جدة، علينا العودة قليلاً للوراء.. فقد شهدت السنوات العشر الأخيرة تطوراً لافتاً في استيراد الهواتف المحمولة، وفي مقدمتها هاتف "الآيفون" بمسمياته المختلفة (11، 14، 15، برو، بروماكس، 16، 17). وتباينت فاتورة الاستيراد الرسمية؛ فعند النظر إلى بيانات واردات مصر من الهواتف المحمولة وفقاً للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، نجد أننا أمام قصة صعود وهبوط دراماتيكية تعكس التحولات في السياسة النقدية والتجارية للدولة، وهي أحد أسباب وصولنا إلى هذه القصة..
هذا الانهيار الحاد في المؤشرات الرسمية لم يقابله توقف المصريين عن استخدام الهواتف الذكية، بل انتقلت السوق من "الرسمي" إلى "الموازي" أو ما يسمي بـ"اقتصاد الظل".. حتى خرجت تصريحات إعلامية لمسؤولين رسميين لتؤكد ذلك، منها تصريح لنائب وزير المالية للسياسات الضريبية، شريف الكيلاني، في ديسمبر 2024، كشف فيه عن الحجم الكبير لظاهرة تهريب الهواتف المحمولة إلى مصر، حيث بلغت قيمتها خلال عام واحد 60 مليار جنيه، بواقع 5 مليارات جنيه شهرياً.. وأكد أن حوالي 95% من واردات الهواتف المحمولة إلى مصر تتم بشكل غير قانوني.
وتبعت ذلك إجراءات حكومية لمجابهة هذه السوق الموازية بقرارات جديدة في يناير 2025.. القرارات الاقتصادية الكبرى، والمليارات الضائعة، لم تكن مجرد أرقام في تقارير حكومية؛ بل هي التي مهدت الطريق لظهور "أحمد" وعشرات مثله في صالات الانتظار، محولين المعتمرين إلى تروس صغيرة في ماكينة تهريب ضخمة.
نعود لصالة المغادرة في مطار جدة، عينا "أحمد" لا تتوقفان عن المسح الدقيق للوجوه، أشبه برادار بشري يبحث عن "الضحية المثالية": ملامح البساطة الريفية، علامات الطيبة المفرطة، وربما قليل من السذاجة أو الحاجة المادية، هدفه -بالتأكيد- ليس التواصل الإنساني بل اصطياد "مهرب بريء" يقبل أن يسجل هاتفاً باهظ الثمن باسمه، ليعبر به عبر الخط الأخضر من البوابات الجمركية في القاهرة بوصفه "هاتفاً شخصياً"، مقابل حفنة من الجنيهات لا تتجاوز ثمن وجبة عشاء فاخرة في دبي حيث جاء أحمد، أو "جدة"، أو حتى القاهرة.
بخطوات محسوبة بدقة وتدريب، يقترب "أحمد" من مجموعة معتمرين مصريين، يبدأ بابتسامة ودودة، وسؤال عابر، قبل أن يلقي بصنّارته "المدربة" ببراعة، طارحاً عرضه الذي أتقن تغليفه بغلاف "تبادل المنفعة".
يقول بصوت خافت: "يا جماعة، أنا معايا تليفونات زيادة وخايف الجمارك تضايقني.. إيه رأيكم كل واحد ياخد تليفون يسجله باسمه وهو خارج، وهياخد 4000 جنيه كاش أول ما يوصل؟ ده تليفون واحد مسموح بيه قانوني.. يعني مفيش أي ضرر عليكم.. ويا بخت من نفع واستنفع".
كان "سامح" أول من وقع عليه الاختيار من المجموعة؛ معتمر بسيط، وأول من تلقى العرض، لكن الفطرة الريفية الحذرة جعلته يتردد وينسحب بهدوء.. على النقيض تماماً، كانت "الحاجة فاطمة" أكثر "واقعية" و"عملية" وسألت: "إنت متأكد إن ده قانوني يا ابني؟".
هنا، ألقى المهرب بورقته الرابحة بذكاء شيطاني، عازفاً ببراعة على الوتر الديني: "الضامن هو الله يا حاجة، أنتم ناس طيبين لسه راجعين من عمرة ومغسولين من ذنوبكم، أكيد مش هتقبلوا الحرام ولا هتاكلوا حقي".. كانت هذه الكلمات كفيلة بإذابة كل المخاوف، ردت الحاجة فاطمة بتلقائية: "حد الله بينا وبين الحرام يا حبيبي"، وافقت على الصفقة ولحقت خلفها "الحاجة نادية" بمنطق الحشد، قائلة لنفسها: "طالما الناس وافقت وشايفة الموضوع عادي، يبقى الموضوع أمان".
لفهم ما يغري المهربين بدفع هذه المبالغ، علينا النظر إلى الأول من يناير 2025. في ذلك التاريخ، طبقت الدولة منظومة جمركية صارمة عبر تطبيق "تليفوني". تنص اللوائح على فرض رسوم جمركية وضرائب تبلغ 38.5% من قيمة أي هاتف مستورد، مع استثناء وحيد: "إعفاء هاتف واحد يدخل بصحبة المسافر للاستخدام الشخصي".
ولأن شركات مثل سامسونج وأوبو وإنفينيكس وفيفو و"إتش إم دي" وشاومي فتحت مصانع في مصر في بني سويف والعاشر من رمضان والعبور وأسيوط الجديدة وغيرها من المناطق الصناعية، بينما "أبل" لا تزال تعتمد على الاستيراد، أصبح "الآيفون" هو الهدف. فالسوق "متعطش" والاستيراد شبه مغلق، ونشط المهربون في استخدام جوازات سفر المعتمرين لتسجيل الهواتف عليها لتدخل البلاد بصفتها "أجهزة شخصية"، ليوفروا ما يقرب من 25 إلى 40 ألف جنيه قيمة الجمارك في الجهاز الواحد حسب نوع الجهاز.
لمعرفة المزيد من التفاصيل عن استخدام تطبيق تليفوني.. اضغط هنا
فالقانون يشترط لتفعيل هذا الإعفاء فقط أن يقوم المسافر بتسجيل بيانات الهاتف عبر تطبيق "تليفوني" خلال 90 يوماً من دخوله البلاد. المهربون، بذكاء تجاري، يلتفون على القانون مستغلين هذا الإعفاء، ليحققوا صافي ربح خيالي، ويضيعوا ملايين الجنيهات على خزينة الحكومة.
لم تتوقف القصة عند حدود اصطياد الأفراد واحداً تلو الآخر في صالات مطار جدة وفقاً لخطة المهرب المحترف، بل كشف التقصي الميداني أن ما رصدناه في جدة ليس إلا "نموذجاً" يتكرر بصورة كربونية في مطار الأمير محمد بن عبد العزيز بالمدينة المنورة، وبنسبة أقل في مطار الأمير عبد المحسن بن عبد العزيز في ينبع- وبالطبع السلطات السعودية ليست معنية بالأمر- وعلى الضفة الأخرى، لم يعد "مطار القاهرة" هو المنفذ الوحيد، بل امتدت خيوط الشبكة لتشمل مطارات إقليمية مثل "برج العرب" في الإسكندرية و"سفنكس" في غرب القاهرة.
ومع هذا التوسع الجغرافي، رصد تحقيقنا تحولاً خطيراً في إدارة الأمر نحو "التهريب الجماعي" أو "التهريب بالجملة" رصدنا نموذجاً مختلفاً: "الحاج سيد"، مشرف رحلة مسؤول عن فوج كامل من المعتمرين البسطاء.. هذا الرجل، الذي ائتمنه الناس على أداء مناسكهم من بداية الرحلة حتى نهايتها، تحول في الكواليس إلى "رأس حربة" في قصة الآيفون.
حين اقترب المهرب "أحمد" من الحاج سيد، لم تكن المفاوضات تدور حول هاتف أو اثنين، بل كانت "صفقة جملة" لـ 40 هاتفاً دفعة واحدة. جلس "المشرف" و"المهرب" جانباً، واتفقا على "رقم نهائي" يضمن للمشرف حصة الأسد. بهدوء وأريحية كاملة، تابعت المشرف وهو يقوم بنفسه بتوزيع الهواتف على أفراد الفوج المشرف عليه، مستغلاً سلطته المعنوية وثقتهم الكاملة فيه، مبرراً ذلك بأنها "مصلحة جماعية للرحلة" لتقليل نفقتها بعدة آلاف..وهكذا، تحول الفوج "الروحاني" بتوجيه من المشرف إلى "قافلة تهريب" تعبر الحدود، وربما لا يدرك معظمهم أنهم جزء من صفقة سريعة للغاية!
وفي مسار موازٍ، برزت فئة قررت الاستغناء عن الوسطاء تماماً، أطلقنا عليهم "التجار المسافرين".. هنا يظهر "محمد طالية"، تاجر هواتف من محافظة الغربية، الذي حول رحلات العمرة إلى "دورة رأسمال".. يسافر "طالية" لأداء العمرة ظاهرياً، لكن حقيبته في العودة لا تحمل هدايا، بل تكون "محشوة" بـ 20 هاتفاً من الفئات الأعلى طلباً.. لا يعتمد "طالية" على الغرباء، بل يوزع هذه الأجهزة بخطة محكمة على شبكة من أقاربه ومعارفه المرافقين له في الرحلة، ليحمل كل منهم جهازاً بين أمتعته الشخصية.. يؤكد "طالية" في حديثه لنا أن أرباحه في بداية الأزمة كانت خيالية، تصل إلى 30 ألف جنيه في الجهاز الواحد، ورغم تراجعها الآن بسبب زيادة المنافسة، إلا أنها استقرت عند 9 آلاف جنيه للجهاز، وهو ما يراه "مكسباً يستحق الجهد". والمثير للدهشة هو قناعته الراسخة بأنه لا يرتكب أي مخالفة، بل يمارس "ذكاءً تجارياً" وشطارة تستغل ما يسمح به القانون، قائلاً: "أنا بشتغل لحسابي، ومحدش له عندي حاجة"!
كان لا بد من قطع الشك باليقين..قررت أن أخلع عباءة المعتمر وأرتدي قبعة الصحفي في مطار جدة، اقتربت من أحد السماسرة -كنت أرقبه بدقة وكل المشهد من البداية- وسألته: "إنت عايز تشحن تليفونات.. صح؟".. لم يرتبك، بل وافق فوراً وطلب مني: "ابعتلي صورة جواز السفر دلوقتي حالا على الواتس عشان شريكي في القاهرة يجهز الورق".
كان يتحدث بأريحية مذهلة -أريحية الصياد الذي اعتاد أن يلقي شباكه كل يوم ليخرج بالحصيلة- يشرح آلية التهريب خطوة بخطوة، ظناً منه أنه يتحدث إلى "ضحية سهلة"، بينما كنت ألتقط الحقيقة الكاملة.
توثيق مع مهرب التليفونات
امتدت أذرع الأخطبوط إلى العالم الافتراضي. في مجموعات "فيسبوك" الخاصة بالسيدات، رصدنا إعلانات مبطنة: "توصيل موبايل آيفون مع معتمرات عائدات للقاهرة بمقابل مادي مجزٍ" -فمجموعات السيدات سوق رائجة-. تواصلت مع إحدى "السمسارات" مدعياً أنني سيدة، فردت برسالة صوتية تكشف عن احترافية عالية وشبكة لوجستية متكاملة تعمل عبر الحدود تستهدف السيدات في الأساس.
للاطلاع على مزيد من التفاصيل عن جروبات الفيس بوك التي تستقطب المعتمرين.. اضغط هنا لمشاهدة الفيديو
لإدراك حجم الكارثة، توجهنا إلى لغة الأرقام، وبعملية حسابية بسيطة تستند إلى متوسطات السوق الحالية، يتكشف حجم الفجوة الهائلة في جدار الخزانة العامة. فإذا افترضنا -وفقاً للرصد الميداني- دخول ما يقرب من 100 ألف هاتف سنوياً عبر هذه "الثغرة الإجرائية"، بمتوسط سعر 100 ألف جنيه للهاتف الواحد (وهو السعر السائد لموديلات الآيفون الحديثة)، فإننا نتحدث عن بضائع بقيمة إجمالية تلامس الـ 10 مليارات جنيه، هذا الرقم يعني ببساطة أن الدولة تخسر سنوياً ما يقارب 3 مليارات و850 مليون جنيه، هي قيمة الرسوم الجمركية والضرائب (38.5%) التي تتبخر في الهواء.. هذه المليارات الضائعة، التي كان من المفترض أن تضخ في شرايين الاقتصاد الرسمي، تذهب بدلاً من ذلك لجيوب سماسرة المطارات وتجار السوق السوداء، تحت غطاء قانوني محكم يسمى "الاستخدام الشخصي".
ورغم هذه الأرقام، تظل "العقدة" في "المنطقة الرمادية"، يؤكد موظفو خدمة العملاء بتتطبيق تليفوني ورئيس شعبة الاتصالات باتحاد الغرف التجارية محمد طلعت أن "البيع قانوني"..
تصريحات رئيس شعبة الاتصالات
اتصال بخدمة عملاء تطبيق تليفوني
لكن الدكتور علاء عبد المجيد، الخبير القانوني، يفجر مفاجأة تنسف هذا الاعتقاد.. يؤكد "عبد المجيد": "إن قيام المسافر ببيع الهاتف فور خروجه من الدائرة الجمركية يشكل قرينة قوية ومباشرة على أن الغرض من إدخال الهاتف لم يكن الاستخدام الشخصي إطلاقاً، وإنما الاتجار" في حال توافر الشروط، ويحذر من أن ذلك يؤدي إلى "سقوط الإعفاء الجمركي بأثر رجعي، ويتحول الفعل إلى تهرب جمركي مكتمل" كما يوضح أن المعتمرين المشاركين يضعون أنفسهم تحت طائلة القانون كشركاء في مخالفة القانون، ويرى الخبير القانوني أن الحل الناجز يكمن في تعديل تشريعي واضح يفرض "حظر بيع لمدة 6 أشهر وأيضاً حظر الهبة " على الأجهزة المعفاة، وهو ما يسد هذه الثغرة تماماً.
في محاولة لوضع النقاط على الحروف، تواصلت مع كافة الأطراف المعنية (الجهاز القومي لتنظيم الاتصالات، مصلحة الجمارك، وزارة المالية) للحصول على توضيحات، إلا أننا واجهنا حالة من المماطلة والبيروقراطية، ورفضاً للتعليق رغم مرور ثلاثة أسابيع على إرسال الأسئلة مكتوبة بناء على طلب مدير إدارة الإعلام بوزارة المالية وقبله المستشارة الإعلامية لوزير المالية، بعد دورة طويلة مع جميع الأطراف ذات الصلة (أحتفظ بأسماء المسؤولين وتواريخ التواصل معهم وبيانات وتفاصيل المراسلات المتبادلة).
تاجر تليفونات يشرح طريقة دخول الايفون بالتحايل
ومع الإصرار على عدم الرد المباشر، تكشف الوثائق الرسمية وتصريحات سابقة لنائب وزير المالية للسياسات الضريبية -وإن كان ذلك في مرحلة سابقة على إقرار اللائحة التنفيذية الجديدة في بداية 2025 التي ما زالت سارية حتى الآن- عن الموقف الرسمي والذي شمل:
الاعتراف بالكارثة: الوزارة تقر بأن 95% من واردات الهواتف كانت تتم عبر التهريب، وأيضاً الردع التقني: تعتمد الدولة حالياً على إيقاف الشبكة عن الهواتف غير المسجلة بعد 90 يوماً.
وفي السياق ذاته، كشفت تصريحات لمسؤولين أن المنظومة الجديدة تهدف لإغلاق الثغرات التي كانت تسمح بتداول أجهزة غير مسجلة، مع السماح بإدخال "جهاز واحد لكل مواطن" لضمان التنظيم، وهي الثغرة التي أكدنا في هذا التحقيق أنها تستغل لإضاعة المليارات على خزينة الدولة.
لمزيد من المشاهد المصورة لتسجيل هواتف آيفون بمطار القاهرة.. اضغط هنا
في صالة الوصول بمطار القاهرة، تنتهي فصول القصة التي نتتبعها من بدايتها أمام مكتب "الجهاز القومي لتنظيم الاتصالات"، يصطف طابور طويل من العائدين؛ وجوه تكسوها نورانية العمرة وآثار السفر، يحملون هواتف لا يملكونها كـ "أمانة ثقيلة".
رأت زميلاتها وهن يقبضن المال، وأنا واحد منهم، فقد سلمته "الهاتف" وتسلمت المبلغ، لأوثق نهاية القصة كما وثقت بدايتها، وسلمته لصحيفتي للتبرع به لجمعية خيرية.
غادرت المطار، وصوت داليا لا يزال يرن في أذني، وأنا أعيد ترتيب مشاهد الرحلة، في هذا السوق الكبير، الجميع خاسرون.. الدولة تفقد موارد بالمليارات، والقانون يفقد هيبته، والبسطاء يفقدون براءتهم الروحانية مقابل حفنة جنيهات، في رحلة بدأت بـ"لبيك اللهم لبيك"، وانتهت بختم تطبيق "تليفوني" على علب "الآيفون" المهربة.رغم شبهة الحرام التي تطال المعتمر الذي ساعد التاجر في التهرب من دفع الضرائب إذا كان يعلم ماهية ما فعله، وفقا عضو مركز الأزهر العالمي للفتوي الإليكترونية الدكتور أحمد المشد.
فتوي مركز الأزهر العالمي للفتوي الإليكترونية
ويبقى السؤال الأهم الذي يتردد صداه مع عجلات الحقائب المغادرة: إلى متى ستظل خزانة الدولة تنزف على الأقل 3.85 مليار جنيه سنوياً عبر "ثغرة" تركها المشرّع بحُسن نية، فحولها المهربون إلى "حق مكتسب"؟ وهل ننتظر ضياع مليارات أخرى قبل أن يتدخل المشرع ليغلق باباً أصبح يدخل منه البعض "بملابس الإحرام" ويخرج منه بمال الشعب.
تحقيق: محمد سامي
جرافيك: مايكل عادل
تصميم وتنفيذ: محمد عزت