مثلث ماسبيرو

ذكريات تحت الهدم

Next

على وقع ارتطام المعول على جدار المنزل الأخير، كان قلب "أم حسن" يتفتت ألمًا؛ أصوات النحيب تغلف المكان، برج القاهرة ومبنى التليفزيون وفنادق العاصمة لم تعد تحجبها المنازل المتراصة جنبا إلى جنب، تلاشت أطباق الدش، وشرفات البيوت. خفتت أهازيج الصبية، وشجار النساء في الحواري، لم يُناد الباعة الجائلون على بضاعتهم يومها، ولم تستطع الجارة مناغشة طفلة صديقتها؛ تبدلت المعالم. بات زوال مثلث ماسبيرو أمرًا لا فكاك منه.

الغبار صار مهيمنا، ولم يبق من ذكريات الماضي سوى أطلال، المنازل سويت بالأرض وبقيت السماء مفتوحة لدعوات العجائز، يبكون بحرقة، انفطرت قلوبهم، وأنهكهم التفكير في واقع الحال، فيما لم يجدوا بُدًا من الوداع وهم يقولون: "يارب اكتب لنا نرجع لمثلث ماسبيرو.. مش طايقين نسيب روحنا هنا ونمشي".

وبينما تتقدم "أم حسن" الستينية بعينين أغرقتهما الدموع، دارت بها الدنيا، فيما كان أحد عمال الهدم يقيل عثرتها، شبكت يدها بيده وأخبرته بصوت واهن "كده.. قلبكوا طاوعكم تهدوا حياتنا بالساهل"، لم يجد العامل ردا لسؤالها، غير أنها أنهت العتاب وهي ترجوه "وديني يا ابني عند بيتي عايزة أمسك آخر طوبة فيه وأبوسها".

image-1
image-1
image-1
image-1

إعلان

إعلان

"لحظة ميلاد الفرح.. كان في حبيب رايح"

لم تكن "أم حسن" وحدها التي تتألم؛ شوارع المثلث تعج بالسكان الخارجين من أرض الذكريات. في ممر ضيق كان علم مصر يرفرف فوق منزل تهدم نصفه، بينما أهله يهبطون الدرج في عجالة وكل منهم يحمل ما بقي من أثاث "إحنا ع الحال ده من صباحية ربنا، صحونا من النوم وقالولنا شيلوا حاجاتكم عشان النهاردة ميعاد الهدد"، يقولها محمد علي وهو يتفق مع سائق السيارة ربع النقل كي تقله لمنزل خالته بمنطقة بولاق الدكرور.

على مدد البصر جلس أحمد حسن على عتبة منزله غير مصدق أنه مفارقه، حصل على بدل 40 ألف جنيه مقابل ما يُعرف بالبقاء أي العودة للمكان بعد 3 سنوات من التطوير، لكن قلبه لا يطاوعه على مغادرة الحي الذي ترعرع فيه ويحمل تجاهه الكثير من المحبة والعشرة.

خرجت السيارة من الحارة مسرعة وخلفت وراءها مزيدا من الغبار، واستعدت أسرة أخرى لاستقبال سيارة ثانية تساعدها في الخروج من المكان. تراصت النساء في مشهد جنائزي، يتحلقن حول "بؤج" الملابس، وأدوات كهربائية و"جهاز عرائس" لم يكتمل، سرير طفل صغير لم تُكمل عائلته الفرحة به حتى دخل الحزن من الباب. في نصف دائرة يتشحن بالسواد وتملأ الحسرة عيونهن "ناس ياما ماتت من الهم" تلفظها "أم حسام" وهي تناول زوجها عرقًا خشبيًا باليًا.

على بعد خطوات كان "حسين السيد" يقف بجانب منزله، يقلب كفيه في استغراب "هما خلاص قرروا إننا نمشي.. وناس كتير لسه مدبرتش حالها، وكأن العزال ده بيحصل في ربع ساعة"، يُعقب صديقه الذي حصل على أوراق تضمن حقه بالحصول على تعويض قائلًا: "الخوف من شغل الموظفين اللي هيدوخونا سبع دوخات عشان ناخد فلوسنا وفي الآخر ملناش متوة نكن فيها".

كانت الشمس تعلن انتصاف اليوم، بينما لم يتخذ أي منهم ساترا يحميه، 5 عمال وقفوا كلاعبي الأكروبات على رأس المنزل ذي الأربعة طوابق، يضربون الحوائط أسفلهم بلا كلل، ويتلقون التعليمات من "حميدو" ومعاونيه، الذين ارتكزوا على ثلاثة كراسي خشبية في نهر الشارع، خلا المكان من السكان الأصليين وبقيت مجموعة من الكلاب والقطط وبعض البشر يترجلون.

35 عاما و"حميدو" يعمل ضمن موظفي الحي، أشرف على العديد من قرارات الإزالة، لكن في "مثلث ماسبيرو" اختلف الأمر "دي حتتي، اتولدت هنا، كل اللي حازز في نفسنا رجالة وستات إننا مش هنتونس ببعض تاني"، يغالب الرجل الستيني مشاعره وينفذ عمله بلا هوادة، يمر هدم المنزل بمراحل معروفة سلفا؛ تبدأ من إذن الحي برقم العقار، ثم إخبار أهل المكان بالإخلاء، ومن ثم توزيع عمال الهدم "البيت بياخد معانا من 3 أيام لأسبوع حسب قوته وعمره.. اللي يزعل إن في بيوت جديدة لانج بس حظها وقع في المنطقة اللي قرروا يطوروها".

image-1
image-1
image-1
image-1

"كيف تم الاتفاق مع الأهالي؟"

منذ مطلع فبراير الماضي وضعت الحكومة ثلاثة خيارات أمام سكان مثلث ماسبيرو: إما التعويض بمبلغ مالي؛ الغرفة الواحدة ما يوازي 100 ألف جنيه، على حسب مساحة كل شقة وعدد أفراد الأسرة، أو السكن بحي الأسمرات الجديد –تُعطى الشقة هناك مقابل 200 ألف جنيه مجهزة بالكامل، ولا يتم دفع الأقساط إلا بعد السنة الأولى من امتلاكها. واختارت بعض الأسر العودة للمنطقة بعد تطويرها، مقابل الحصول على متوسط للتأجير -40 ألف جنيه، ما يوازي 1200 جنيه شهريا- ثم العودة لماسبيرو بعد ثلاث سنوات حتى يتم تطوير المنطقة وهو ما يُعرف باختيار "البقاء".

إعلان

إعلان

"بكرة بتاعك"

الأطفال في المثلث منقسمون لفئات ثلاث؛ بين براءة لا تُبالي، يضحكون ويتخذون من زحام المُهجرين مرتعًا للعب، وآخرين سيطر الذهول على وجوههم جراء مشاهد الخروج وبكاء الأهالي على بقايا منازلهم المُهدمة، وقسم أخير قرر المشاركة مع ذويهم المسئولين عن الهدد، يساعدونهم بسواعد ضعيفة وهمة كبيرة تبتغي الوجود في المكان قدر المستطاع، فيما يحدثهم الآباء أن التطوير ربما كان شفيعا لعودتهم مرة أخرى وسط حياة أفضل، وأحلام لا يسعها البحر وغدٍ مُفصل بوسع خيال الأطفال.

image-1
image-1
image-1
image-1

"خطة تطوير المثلث"

لم تبدأ فكرة تطوير مثلث ماسبيرو منذ سنوات قريبة، حاولت أنظمة عدة العمل في المكان، فيما كان غضب الأهالي عائقا. منذ 40 عاما والفكرة لم تمت، فيما كان عام 2018 نهاية كل شيئ.

"زي السمك.. لو خرجنا نموت"

أسفل عبارة خطها أحدهم قبل الرحيل "مال الناس كناس"، جلست أم كريم وهي تضع يدها على خدها الأيسر، وضعت ما تبقى من أكواب الشاي الخاصة بمقهاها المهدوم على أنقاض منضدة صغيرة، وصارت تخدم عمال الهدد "قهوتي والأوضة اللي كنت فيها راحوا خلاص.. ولسه مخدتش تعويض"، تقولها وهي تقلب كوبا من الشاي لعامل غطته الأتربة من رأسه حتى أخمص قدمه.

تسأل صاحبة الخمسة والأربعين ربيعا نفسها هل كان مهندس الحي على حق وهو يطلب رخصة المقهى؟ كيف لمنزل يعود عمره لأكثر من قرن ونيف أن يحتفظ بأوراق ثبوتية؟ هل أنهت الحكومة أزمات المباني المخالفة التي تشاهدها حين تخرج من المثلث كي تطالبها بإثبات ملكية سكنها الذي لا يتعدى الخمسين مترا. تصمت "أم كريم" للحظة وهي تعد على أصابعها مصاريفها الشهرية وكيف تدبرها من 400 جنيه معاش زوجها السبعيني الذي تضيف عليه 100 جنيها كي يغطي الإيجار الجديد، تتذكر لحظة مجيئها للزواج في العاصمة قادمة من القصير بالبحر الأحمر، المعيشة على "أد الأيد"، التسعة جنيهات ثمن إيجارها الذي ولى، وابنها "كريم" الذي قرر أن يشارك في أعمال التطوير حتى يضمن وفاء الحكومة بعهدها في عودتهم ثانية للمثلث "إحنا زي السمك.. هنموت لما نمشي من هنا، في حتتنا اللي كان معاه 5 جنيه بيعيش والناس برة بتاكل بعض، هنا كنا غلابة محاوطين بعض، برة نور ومياه وغلا وكله ملهي في حاله".

لم تزل صورة الحاج خليفة بكري مستقرة على حائط محله منذ عام 1942، يقف ولده "محمد" أمامها ويحدثه "شفت يا أبا هيهدوا المحل خلاص.. صحيح اسمي لسه منزلش في الكشوف بس أكيد الدور جاي، كان نفسي أفضل هنا ومحلك يفضل عايش طول العمر بس ما باليد حيلة"، تم إخلاء المنزل الكائن به محل الخردوات قبل أيام إلا من ساكن وحيد رفض الخروج دون الحصول على مقابل مادي فوري دون تأجيل، لذا أوصد الباب بالجنزير، يحكي عم "محمد خليفة" وعينه تودع أركان المكان "ده باب رزقنا من زمن الزمن.. المحل ده من أيام ما السفارة دي كانت معتقل للطاليان وقت الحرب العالمية الثانية"، كان شقيق عم "محمد" يشاركه العمل في المكان لكنه لم يحتمل لحظة رؤيته هدم لقمة عيشه ومعها ذكريات لن تُمحى "سابني ومشي، كل حاجة حلوة بتروح، راح وسابني للتراب والتكسير والهم مش راضي يروح".

على أعتاب شارع 26 يوليو لم يكن الشارع مكتظا بالمارة كعادته، أغلقته تطويرات الخط الثالث لمترو الأنفاق، وصنعت البيوت المهدمة من حدودها مأتما رمزيا، في ركن منزو يمارس المقهى الصغير أعماله منتظرا قرار الإزالة، فيما يجلس عم حسن عدلي ممسكا بالشيشة لا يفارقها، أسند عكازه البلاستيكي الأزرق على السور الحديدي لهيئة المترو، وراح يحدث الزبائن عن معيشته الجديدة بعد التهجير "خدت 40 ألف جنيه وراجع بعد 3 سنين.. بس مكنتش أعرف إن الغلا هيسوحنا كدة"، يوميا يأتي عم حسن من ضواحي الجيزة لأرض منبته "روحي في الحتة.. صحيح أنا خاتم وباصم ع العقد بس الخوف لا الحكومة تأكلنا الأونطة، ده أنا أروح فيها لو منفذوش عهدهم معانا".

image-1
image-1
image-1
image-1

"أزمات تبحث عن حلول"

رغم أن إخلاء المنطقة قارب على الانتهاء، إلا أن مصير بعض الأسر لم يُحسم بعد، داخل مُصلى صغير كست أرضيته حصير متآكل، جلس أحمد عادل يندب حظه؛ فقد تم تقييم دكانه الخاص على أنه مخزن، فقدر بسعر أقل من المفروض، وكذلك قدم جمال عبد الحكيم تظلما للحصول على مقابل مادي لحجرته الصغيرة، فيما لم يُنه جمال محمد عثمان أزمة الميراث بينه وبين شقيقاته وإلى من تؤول أموال التعويض، لذا لم يغادر منزله بعد.. حكايات عدة لأناس لم يجدوا برا يرسون عليه، بينما أعمال الهدم لا ترحم.

إعلان

إعلان

"صورة ودمعة.. وكام ذكرى"

على أطلال منزلها القديم وقفت "ملك محمد" ترسم المكان في مخيلتها، أخرجت هاتفها وصورت المشهد، تقسم أنها ستحفظ العهد، وأنها ستعود لا محالة "مفيش غير طوب وتراب في الأرض بس أنا راسمة البيت في خيالي وعمري ما هنسى"، تحكي عن تفاصيل منزلها، وكيف كان مميزا، له ناصيتان، يعرفه الجميع في الحي. البلدوزر حكم المشهد والأهالي غارقون وسط الحطام، غير أنهم دخلوا دون اتفاق في التنقيب عما تبقى أسفل البيوت، أمسك أحدهم بإيصال إيجار يعود لعام 1980 قيمته 60 مليما، وقف أحدهم ليودع الجملة التي خطها لمحبوبته في ركن الشرفة "قلبي وروحي وعمري لك" فيما لم يتمكن الهدم بعد من طمسها، أوراق مذكرات وبقايا أوراق حفظت حكايات لم ترو. من أعلى الونش كان عبد الله السني ينصح الأهالي بالابتعاد قبل أن يقول "أنا حاسس إني بتقطع عمال أهد بيوت أهالينا بس أنا عبد المأمور"، يعمل السني في أعمال التطوير منذ 3 شهور، يتقاضى 150 جنيهًا يوميا "أنا اصلا فني تكييف وتبريد بس يوم شغل و10 لأ"، يحكي الشاب الثلاثيني عن ذلك اليوم الذي شارك في هدم منزله بيده "ساعتها مامسكتش نفسي من العياط.. أصل هنا مش مجرد سكن والسلام، ده صحبة وجدعنة وناس 100/100".

على الجانب الآخر من المشهد كان عمال "الروبابيكيا" يتحصلون على ما استطاعوا من البقايا، ينقب أحمد عبده عن الألومنيوم والحدايد لسرعة بيعها وربحها الوفير. منذ 10 أيام والشاب العشريني يأتي للمكان -رفقة صديقه كريم- من عزبة أبو قرن بمصر القديمة، يقولون إن الدور قادم عليهم لا محالة "الحكومة شغالة في عزبة خير الله اللي جنبنا برضه، صحيح الناس بتمشي زعلانة بس اللي مصبرهم إنهم هينضفوها، وأدينا بيطلعلنا لقمة عيش حلوة".

image-1
image-1
image-1
image-1

إعلان

إعلان

"البكاء على أطلال مثلث ماسبيرو"

يوميا يأتي عدد غير قليل من أهالي مثلث ماسبيرو ليودعوا بقايا منازلهم، يبكون على أطلالها، رحلوا قبل أيام لكن قلوبهم لم تزل مُعلقة بالمكان، اضطروا آسفين لترك ميراث الأجداد، رغم ضيق المثلث وحياته البسيطة يحلمون بالعودة ما استطاعوا سبيلا.

"راجعين.. راجعين"

3 سنوات هي المدة التي قررتها الحكومة للانتهاء من عملية التطوير، فيما يقول الأهالي إنها ستمر عليهم كالدهر؛ تنتظر "أم حسن" العودة بفارغ الصبر، وتحلم "أم كريم" بغدٍ لا تضطر فيه لبسط اليد، يدعو "محمد خليفة" أن يسامحه والده بعدما ترك المحل، وتكتب "ملك" في مفكرتها ذكريات المنزل الذي كان، يتمنى الأطفال أن يعاودوا منازل الأجداد ثانية، حتى عُمال الهدد يرجون أن يكونوا سببا في تلك الصورة المتخيلة للمثلث بعد التطوير، وأن يعلنوها جلية من فوق الأنقاض: "راجعين.. راجعين".

ملف: احمد الليثي

فوتوغرافيا: احمد جمعة

فيديو: محمود حمدلله

فيديوجرافيك: أحمد عبدالغني

إنفوجرافيك: مايكل عادل

تنفيذ: مصطفى عثمان

إشراف عام: علاء الغطريفي