(قبل شهرين) ــــــــــــــــــــــــ وراء السياج الحديدي لباب مقابر الروم الأرثوذوكس، يقف باب آخر معدني، برونزي اللون، ذو هيبة واضحة، ليغطي مقبرة عائلة أسعد باسيلي باشا، كما تُعرّفهم اللافتة المكتوبة بالعربية والفرنسية، بل ويميزها عن بقية مقابر العائلات المجاورة.. فلا يخطئ أبدًا في جذب أنظار المارين إليه بخمسة عشر شباكًا منحوتًا على وجهه، تطل من كل واحد منها شكل معجزة من معجزات السيد المسيح أو صور بعض تلاميذه الإثنى عشر..
يشد "هاني" (الحارس) كرسيّه ويجلس أمامه مع كوب الشاي. جلسته المعتادة منذ 15 عامًا، والتي تجبره أن يتأمل تفاصيله كثيرًا، وهي تُمزجه ويحب أن يشرحها دائمًا للأجانب والزائرين، كما يقول. لكن من يُفترض أن يزوروه فعلًا، وهم الأحفاد في عائلة باسيلي باشا، لم يأتوا إليه منذ عامين تقريبًاـ حسب كلامه.
بالقرب منه، عثر مينا زكي صدفة على لوحة معدنية صغيرة مثبتة أعلى باب خشبي لأحد البيوت، وكان مدونًا عليها ثلاثة أحرف مختلفة. خطفته، فهو لم يلتفت إليها من قبل، رغم أنه السكندري، الباحث في الآثار اليونانية الرومانية، ومنظم جولات لحكي سيرة المدينة. أراد معرفة معناها: "هل هو ترقيم؟ هل هو رمز؟ أم شيء آخر؟". ثم وجد غيرها وغيرها في شوارع متفرقة، ولم يدلّه شخص ولا بحث. فبات الأمر مثيرًا له أكثر.
صار يجوب يسأل الساكنين حول البيوت، فيبادلونه بسؤال أيضًا: "لماذا تهتم؟"، ليفسر لهم أن الأمر بالنسبة له "مثل أن يأتي أحد بعد 150 سنة يبحث عن لوحات السيارات الملاكي الحالية، فهي تؤرخ لفترة من حياتنا، بها حروف؛ يدل الأول منها على المحافظة، والثاني عشوائي.. وكل لون له دلالة، فالأزرق ملاكي، والأخضر دبلوماسي وهكذا.. فالمسألة عندي تشبه أنني وجدت مفتاح خريطة مليئة بالألغاز ويمكنك أن تقرأها".
وعلى بُعد نحو 10 آلاف كم من كل ذلك، حيث متجر Picker Joe's المزدحم بالأنتيكات والصور القديمة واللوحات.. يجلس جيمس بلاملي، الطيار المخضرم، ويقلب على هاتفه في صور لأبواب خشبية، مُرسلة له من رجل في مصر، كما يظهر من تسجيله لاسمه ثم رسائله المتتالية. فيخبره أسعار مجموعة أبواب وينتظر قراره.. ولم يفكر "جيمس" في الأمر طويلًا. كان متلهفًا أن تعبر شحنته الجديدة المحيط وتأتيه بسرعة. فوافقه على الفور.
وبين تلك الصور التي أرسلها، كان بابًا يحمل تلك اللافتة المعدنية ذات الأحرف الثلاثة، التي يدور "مينا" حول أمثالها بشوارع الإسكندرية، مهووسًا بها، رافعًا عينيه لأعلى من باب إلى باب، يوثقها ويحاول أن يجد أي نمط متشابه بينها. فيضع تخميناته في ورقة: "يمكن أن تكون ترقيمًا، لكن هناك باب عليه حرفان، وباب يجاوره عليه ثلاثة.. ربما اسم الصنايعي؟ لكن مستحيل يكون هناك 200 باب صنعها 200 صنايعي مختلف.. لابد أن نجد تكراراً!".
وفي صباح أحد الأيام، مشى باتجاه منطقة الشاطبي، حيث مدافن الروم، ربما ليفتش عن أحرف جديدة وتسلسلها. وما إن اقترب أكثر منها، حتى باغته شيء لم يتوقعه على الإطلاق.
باب مقبرة عائلة باسيلي باشا ليس مكانه لأول مرة في حياته !
لقد سُرق ليلًا، ومعه بعض الأدوات المعدنية وغطاء بئر، كما يروي هاني (الحارس) خلال سؤاله. ثم ينظر بعينيه إلى الأسفل ويكمل: "حسّينا بالإهانة!". وهو واحد من اثنين حراس بالمدافن، أنهيا مناوبتهما قبل أن يحل الليل. ويضيف ما هو أغرب: "لا كاميرات مراقبة على باب المدافن!".
ترك هذا الباب "مينا" غارقًا في التفكير، كما كان يفعل به دائمًا.. فحضوره، كان يجعل الرجل سارحًا فيه منذ أن يتخطى المقابر حتى يعبر شريط الترام: "من صنعه؟ هل هو مصري أم أحد الخواجات؟، وهل باسيلي باشا هو نفسه الذي اختار تصميمه؟ أو أشرف عليه؟"، وغيابه، عقّد الأسئلة في رأسه أكثر: "من سرقه؟ وكيف؟، معقول نقل بسرداب ممتد تحت الأرض كما تحكي قصص الإسكندرية المرعبة؟".
ألقى ببصره في البحر، وكأنه يشاركه أفكاره المشوشة. وعلى امتداده، أبحرت أبواب أخرى بعيدًا حتى وصلت إلى مدينة سافانا الأمريكية. استقبلها "جيمس" بحفاوة. وبخطوات بطيئة وحذرة، حملها برفق وأخذ يرتبها ويرقّمها.. فكشف عن وجوهها، ليبدو جزء منها سكندري، بوجوه متماثلة، وكأنها لشخصيات أسطورية رومانية، وآخر حاد، صلب، وذو نقوش بارزة، ما يرجح أنه صعيدي خالص.
وللحظات؛ وقف يحدق فيها، فهي تدهشه وتثير فضوله طوال نحو ثماني سنوات عمله معها. كان هذا واضحًا من كلامه عنها: "صمدت هذه الأبواب أمام اختبار الزمن.. تخيّل القصص التي ترويها، والتاريخ الذي شهدته، والأجيال التي تعاقبت عليها.. الآن، هي جاهزة لفصلها التالي في منزلك".
لكنه لم يرغب في الحديث عنها أبدًا عند التواصل معه بشأنها !.. فيبدو، أنه لم يسع في أي مرة لمعرفة فصلها الأول، الذي يتوق "مينا" لاكتشافه، كما كان حاله مع باب مقبرة باسيلي باشا.
(الإسكندرية -أوائل القرن العشرين) ــــــــــــــــــــــــ ينبعث من إحدى الشرفات، صوت "O Sole Mio"، الأغنية النابولية الأشهر، يتردد صداها بشارع فؤاد، حيث ثقافات المدينة المتنوعة التي تتحرك في ملابس المارة وأسماء المحال وروائح الطعام.. تمتزج بصوت "طقطقة" الحنطور الذي كان يستقله أسعد باسيلي باشا، الرجل الشامي الذي صار أحد أكبر تجار الخشب بالمدينة.
كان متجهًا لمساحة الأرض التي حصلت عليها السيدة الشامية هيلانة سياج كحق انتفاع لتكون مدافن للروم الأرثوذوكس العرب في منطقة الشاطبي، أراد تخصيص جزء منها ليكون مدفن عائلته بعمق ثلاثة أمتار تحت الأرض وله ثلاثة أدوار، ثم أوصى أحد المعماريين أو الحرفيين، بأن "يشرف على صنع باب يليق بهم"، وربما تدخل في اختيار شكله أيضًا.. تمامًا كما فعل بعمارته بشارع فؤاد التي أسندها للفرنسي هنري بيرنو. فـ"باسيلي" لم يكن تاجرًا للخشب فحسب، إنما يهوى الفن والأدب. فاشترك معه في تصميمها، كما قال "بيرنو" عنه: "لم يقتصر دوره على الدَّعم المالي بل كانت له آراء مهمة في حل بعض المشكلات المعمارية".
لكن "مينا" يمر الآن، ويجد مكانه فارغًا.
يخرج من هذا الفراغ، "هاني" (الحارس). كان داخل المقبرة يتمّم على مقابضها النحاسية التي فلتت من السرقة، كما يقول. نفض يده من الأتربة وترك مفاتيحه ليحكي عن واقعة سرقة مقابر الكومنولث القريبة منهم قبل أيام، ويعتقد "أن السيناريو نفسه ما جرى هنا ومن الأشخاص نفسها":
"جاء رجل على تروسيكل، ودفع به باب المقابر لينكسر قفله، ولما وجد المكان خاليًا من الحراس، نادى على باقي مجموعته، وفك ورفع ما يريده"، هذا ما وثقته الكاميرات المواجهة لمقابر الكومنولث، فتم القبض على اللصوص وعادت المسروقات، كما يذكر.
لكن باب "باسيلي" لم تأتِ سيرته وسط كل ذلك، ومازال مفقودًا. كما لم تتحدث الأخبار أو البيانات الرسمية أو الكنيسة المسؤولة عن تلك الليلة أبدًا. إلا أن توفيق منصور (المسؤول بإدارة المجلس الطائفي للروم الأرثوذوكس التابع له المقابر)، قال عند سؤاله: "حررنا محضرًا ولم يحدث شيئا.. فسُرق منا ثلاثة أبواب، منها باب باسيلي الذي لا يُقدر بثمن. وأعتقد أن من أخذه لم يتصرف فيه حتى الآن!".
واصل "مينا" جولته حول معنى الأحرف الثلاثة المثبتة في الزاوية العليا للأبواب. قصد الحي وشركات المياه والكهرباء والبريد. لكنه لم يصل إلى شيء، الرد الوحيد الذي يأتيه: "لا بيانات عنها في الأرشيف.. لا نعرف". وحتى في الخطابات القديمة التي وصلت عند عتبات هذه الأبواب، لا وجود لأثر لهذه الأحرف بالعناوين المدونة عليها، على الأقل في ما تم جمعه عشوائيًا لفترات زمنية مختلفة.
ربما أصابه اليأس قليلًا، وكان أمله الأخير عند هشام محمود "بندق"، أشهر تجار سوق الأبواب بالعطارين، وهو واحد من أربع أسواق تبيع الأبواب القديمة، الأول بمنطقة الشرابية والثاني بالسبتية بالقاهرة والثالث بأسيوط.
ولما وصل زقاقه الضيق، كان باب ضخم، يرتفع لقرابة ثلاثة أمتار، وعليه زخارف نباتية متداخلة، يدل "مينا" على مكانه. فهو دائمًا يجلس جواره لأنه من صنع والده، الذي كان يعمل مع الإيطاليين واليونانيين، وربما عمل مع "باسيلي باشا" نفسه ذات يوم. فلم يفرط فيه مثل بقية الأبواب.
تسند أبواب أخرى شبيهة للموجودة عند "بندق" على حائط متجر "جيمس"، بعدما انتهى من تحديد أسعارها التي تراوحت بين 690 وحتى 1800 دولار بحسب شكلها، وإن كانت درفة واحدة أم زوجًا. فتشتت الأبواب بين متجره ومتاجر ومنصات بيع أخرى مثل "،”Ecorelics"،"Antiquities ware house"،"1stdibs ونحو 10 أماكن أخرى بأسعار تبدأ من 1500 دولار وتصل إلى 20 ألف دولار. وقد بدت غريبة في أماكنها الجديدة؛ فأحدها برسمة كف اليد (خمسة أصابع) لاعتقاد أصحابه أنها تحمي البيت من الحسد، وآخر عليه لافتة اسم صاحب البيت: "إبراهيم حسين بشير". ومع ذلك، يتفاخر عارضوها بأنها تأتيهم من كل مدن مصر وبأن أعمارها تتجاوز 100 عام.
فهناك زوج من الأبواب من أوائل القرن العشرين، يقول عنه عارضه بمنصة 1stdibs: "صُنع في فترةٍ كان للعمارة والأسلوب الفرنسي تأثيرٌ على الثقافة المصرية، خاصةً في القاهرة. كلا البابين في حالةٍ جيدة، كلاهما متينٌ جدًا".. وثمة آخر يرافقه يعود إلى عام 1880 وتبرُز في الأعمدة أزهارٌ مُنمّقة ذات سيقان طويلة، تشير إلى الماء وأزهار اللوتس، أحد أهم الرموز في الحضارة المصرية القديمة، وثالث ريفي مصنوع من خشب الصنوبر الأوروبي الشرقي، ذو قفل إنجليزي.
تلمع عينا "جيمس" عليها، لكنها وقعت في أيدي آخرين مثل "دينيس" من كولورادو الأمريكية، و"جو" من المملكة المتحدة، و"آندي"، من مدينة ستامفورد الأمريكية، وهو مالك شركة "”United Home and Patio لبيع أثاث المنازل و"للعثور على كل ما هو فريد وغير مألوف واقتنائه"، وفقًا للتعريف الذي وضعه لنفسه.
جميعهم تعاملوا مثل "جيمس" تمامًا فيما يخص الأبواب، فلا يريدون التحدث كثيرًا عنها، ومسألة البيع والشراء يسلمونها لشركة 1stdibs لتدير عملية الشحن وتجهيز الأوراق، لكن ليس من بينها، وثائق ملكية، كما يذكر "دينيس" عند مراسلته: "عذرًا، ليس لدينا معلومات حولها. الرجل الذي اشترينا منه الأبواب مصري، ولم يحدد لنا مكان المنشأ، ولا توجد إثباتات ملكيتها، كما هو الحال غالبًا مع القطع من هذه الحقبة".
ولم يظهر باب مقبرة باسيلي باشا بينهم!، ما يرجح -حتى الآن- احتمالية وجوده في الإسكندرية.. ربما! هكذا يتمنى "مينا"، الذي انصرف للتو من عند "بندق" (التاجر). وجواره، كانت تمر أبواب خشبية قديمة، مُمددة في ظهر شاحنة. تُرافِق هذه الأبواب؛ "حسنين" (التاجر)، المرتدي جلبابًا ووشاحًا حول رقبته.. لقد انطلقت معه من قريته "نزة قرار" بأسيوط، حيث أكبر سوق لبيع الأبواب القديمة بالصعيد، إلى مخزنه بالإسكندرية. وهو يعاملها طوال 12 عامًا على أنها "خشب لا نجد مثله الآن"، ولا يشغله ما تخبئه وراءها.. فلا يعرف عنها غير أنها "كانت لبيوت خواجات أو عائلات قبطية معروفة" أو "بيوت عِز"، حسب وصفه. ويجهل أنها قد تكون الشاهد الأخير على حياة هذه العائلات كعائلة أخنوخ فانوس.
(أسيوط – أوائل القرن العشرين) ــــــــــــــــــــــــ طيلة النهار، يظل باب بيت عائلة "فانوس" مفتوحًا أمام الناس، فهو "بيت لم تغلق أبوابه أبدًا" كما يصفه حنا فهمي ويصا (حفيد أخنوخ). كان بابًا خشبيًا من درفتين، أسفلهما نقوش متشابكة، وأعلاهما شراعات طويلة طلبتها العائلة "لتكون وسيلة أمان للتواصل مع زائرهم وللتهوية أيضًا".
فترك بابهم انطباعًا أنه مختلف عن أبواب أخرى في المدينة مختلطة المعمار ما بين الكلاسيكي والأوروبي.. فاهتم أصحاب أبواب أخرى تجاوره بنقشها بآية قرأنية أو صليب أو نقوش مستلهمة من الفرعونية، وهو الجانب الذي ظهر جليًا بأبواب الصعيد. في حين أن غيرهم بالقرى لم يهتموا بمنازلهم الطينية سوى أن تكون فتحة بابها واسعة لدخول الماشية وتركيب "المزلاج"، وهو قفل خشبي كبير.
وفي يوم، اتجهت أعين كل الناس بالمدينة نحو باب عائلة "فانوس"، حين انتظروا خروج العروس "إستر" منه، وهي الابنة السابعة لـ"أخنوخ" ولها دور بارز في قضية تحرر المرأة والمطالبة بالاستقلال. وقتها، ظل مفتوحًا لثلاثة أيام من احتفالات زفاف لم تشهد أسيوط مثله. والتفوا حوله مرة أخرى حين توفى صاحبه "أخنوخ" وشيّعوه في جنازة مهيبة.. فلم يغفل الباب عن أي لحظة في حياة هذه العائلة الممتدة، كل ما حدث خلفه وكل ما خرج منه، حمل كل ذلك بين خشبه المحشو الثقيل.
وبعد أن شاخ، باعه الورثة لجمعية الزراعيين بأسيوط. ولا يملك ميريت فانوس (أحد الأحفاد)، تفسيرًا لبيعه عدا أن "الباقين من العائلة اتفقوا على ذلك مثل كل شيء يباع، بعض القصور والأملاك تم تأميمها، وبعض المباني الأخرى تم بيعها.. فلا شيء يظل للأبد".
وفي لمح البصر، هدمته جمعية الزراعيين لتصعد ببرجها السكني الكبير. تلك الأبراج التي ظهر بها شروخ وهبوط لأساساتها، حسب ما كشفت لجنة وزارة الإسكان عام 1998. ووقتها رجّح محمد عبدالمحسن (أمين الحزب الوطني بأسيوط) "أن هذا حدث لسرعة التنفيذ بسبب المنافسة بين اتحادات الملاك والمستثمرين وجمعية الزراعيين التي قامت خلال السنوات الأخيرة بالاستحواذ على الأبنية والقصور القديمة وهدمها وإقامة 21 برجًا".
وبالطبع، كان بيت "أخنوخ" ضمن تلك الأبنية، فتقاسمت العائلة مقتنياته الداخلية، كما يقول "ميريت"، لكن تركوا بابه خلفهم، "ربما راح مع البيت"، هكذا يظن.
بطريقة أو بأخرى، فلم يُعرف مصيره بعد !
الآن، يتراصّ أمثال هذا الباب بشاحنة "حسنين" بعدما خلعها من بيوتها قبل هدمها بناء على طلب أصحابها، الذي دفع لأحدهم 600 ألف جنيه مقابل أن يأخذ الأبواب والحديد. ما يصفه المعماري محمد عادل دسوقي، في حديث له، بـ"التجارة في أشلاء التراث، التي تفقد مصر الثروة المعمارية والفنية والعمرانية شديدة الأهمية".
وما كان لهؤلاء الملاك -قانونًا- حق هدم بيوتهم والتصرف بأبوابها إن كانت مُدرجة فيما يسمى بـ"قوائم المباني ذات الطراز المعماري المميز"، وهي قوائم يعدها جهاز التنسيق الحضاري منذ عام 2006 وفقًا لقانون 144 للحفاظ على المباني التراثية (غير الأثرية). لكن إن خرج المبنى من القائمة بسبب تقديم صاحبه تظلمًا أو لم يضف إليها من الأساس؛ فهنا يعامل معاملة المباني العادية التي يمكن هدمها إن حصلت على رخصة بذلك.
اقرأ عن ذلك أكثر في قصة (تراث محذوف.. مباني تراثية خارج قوائم الحماية)
أنزلها "حسنين" من الشاحنة بابًا تلو الآخر، ثم دقّ هاتفه؛ فوجد على الناحية الأخرى، المشتري أو "الوسيط"، كما يُطلق عليه في دوائرهم، فهو سيشتريها لإرسالها لأحد التجار بأمريكا. كان يبلغه بأنه سيأخذها على حالتها، بمعنى أنه لا يرغب في غسلها بمادة "البُطاس"، وهي الطريقة التي يتبعها "حسنين" كون البعض يريدها خشبًا فقط دون ألوان. وهنا، تختفي ملامحها أثناء شحنها للخارج.
تجاوب "حسنين" معه. رغم أن الأمر يبدو ثقيلًا عليه، فشيء في داخله، لا يريد أن تذهب الأبواب إلى الخارج. لكن "هذا مصدر رزقه الوحيد"، كما يقول. فواصل اتفاقه مع الوسيط على أن سعر المجموعة الموجودة معه ما بين 15 لـ30 ألف جنيه بحسب حجم كل باب (بالمتر)، مضيفًا عليه عرضًا آخر "وهو أن يوفر له شركة لشحنها بحرًا، فهو يتعامل مع شركتين بالإسكندرية، تنهي مسألة الأوراق. وحينها سيتضاعف سعر كل باب مرة ونصف!، وإن وافق الطرف الآخر على ذلك، عليه إرسال الأوراق اللازمة كهويته وهوية المستلم بالخارج وعنوانه".
تنسدل الشمس ببطء حتى تكاد تلامس البحر، وتسافر الأبواب ومعها أسرارها، فهي كما تقول سهير حواس (أستاذ العمارة): "قطع صغيرة الحجم، لكنها تعكس أشياء كثيرة وتؤدي إلى عوالم مجهولة".
وليس هناك ما يمنع خروجها قانونًا إن لم تكن مسجلة أثرًا. لكن لا تعرف شعبة المصدرين بالغرفة التجارية، بياناتها، كما يذكر سامح زكي (رئيس الشعبة). فهم يركزون على قطاعات التصدير الأساسية كالغذاء والكيماويات والملابس والحديد. لكن فيما يخص الأبواب، "فيبدو أنها تصدر بأعداد محدودة أقل مما يمكن رصده"، هكذا يقول الرجل.. ثم يصمت قليلاً ليفكر في الأمر، ويكمل: "إن كانت أعمالًا فنية كديكور مثل الأرابيسك يمكن تصديرها، لكن أعتقد إن كانت قديمة جدًا وتعتبر أنتيك، فمن المفترض ألا تُصدّر.. الحقيقة لا أعرف!".. في وقت "لا يملك أيضًا الجهاز القومي للتنسيق الحضاري الميزانية الكافية لشرائها والحفاظ عليها"، كما تذكر سهير حواس، وهي أحد أعضائه.
وعلى هذا النحو، غادرت الأبواب إلى "جيمس" داخل حاوية جافة مربعة تحمل اسم شركة “Triton”، وهي شركة شراء وتأجير الحاويات، تتعامل مع عدة شركات للشحن البحري والخدمات اللوجيستية. استقرت في متجره، الذي زارته ذات يوم، جوردان سميث (مؤسسة شركة متخصصة في كتابة السير الذاتية للناس)، لتختار إحداها ذا اللون الأحمر الداكن وتشتريه ليكون باب بيتها! وتكتب له سيرة أخرى.
فتحكي "أن منزلها القديم بحاجة إلى أبواب أمامية جديدة، ولا تؤمن باستبدال القديم بالجديد لأنه يُفسد طابعه وجماله"، تنظر حولها مبتسمة ثم تكمل: "حتى عثرت هنا على هذه الأبواب العتيقة!"، لكنها قررت أن تطلي الباب بالأسود وأضافت له مقبضًا زجاجيًا وجرسًا قديمًا.
بعد أيام، وقفت أمامه مندهشة بما أنجزته، فتقول: "أصبح رائع.. يا له من فصل ممتع في حياتي!". لكن الباب قد تبددت ملامحه وروحه، وبات أمريكيًا أكثر منه مصريًا.
وفي حارة الفهد بمنطقة كرموز، وجد "مينا" أخيرًا حل لغزه الأول، حين لمح بيتين عليهما قطع معدنية: (ا ك ق، ج ك ق)، وهما بيتان متتاليان في التعداد: (17 و19). وقد وصل في هذا الوقت إلى 209 قطعة معدنية وثقها بأبواب المدينة. واهتدى إلى أن الأحرف تدل على "ترقيم"، صنفها في هذا الجدول دون رد رسمي أو أي وثيقة تؤكد له نتائجه.
لكن باب مقبرة باسيلي باشا الذي تبخّر بين يوم وليلة، ترك أمامه سرًا أكبر والكثير من الاحتمالات: كيف سُرق وأين ذهب؟، هل وقع في يد تاجر لا يشبه "باسيلي باشا" وتم تقطيعه وبيعه في السوق كخردة؟ أم سار في تلك الرحلة الدراماتيكية، واستقر في بيت أو متجر خارج مصر!..
راح إلى مكانه مرة أخرى وهذه المرة ليس وحده، إنما التف حوله عشرات الناس ليشرح لهم معلومات تاريخية في جولاته الأسبوعية المسماه بـ"سيرة الإسكندرية".. وقف عند باب المدافن الخارجي، ثم استدار ليشير لهم على ذلك الفراغ داخلها، وقال: "هنا كان أحد أجمل أبواب المدينة، سُرق قبل عام ونصف، ولا أعتقد أنه سيظهر مرة أخرى!".
- حدوتة عائلة مصرية من أسيوط- حنا فهمي ويصا
- متحف الإسكندرية القومي
- الأنبا نيقولا أنطونيو، مطران طنطا والغربية للروم الأرثوذكس - دراسة
- مجلة العمارة 1939
قصة – صور: مارينا ميلاد
جرافيك: مايكل عادل
تصميم وتنفيذ: محمد عزت