وجهًا لوجه مع الموت

انقبض قلب منجة أحمد حين دخلت الغرفة المخصصة في الدور الأول؛ حالة من الاضطراب شعرت بها الممرضة الثلاثينية: "أنا جيت هنا عشان أساعد المرضى يفوقوا، مش عشان أغسّلهم". على الترولي تجسد أمامها الجثمان، سيدة ستينية غطت في سُباتٍ دائمٍ بينما يغطيها من كل جانب أقمشة: "الرعب تملكني، مبقيتش عارفة أتصرف إزاي، كل حاجة اتعلمتها نسيتها؟".

في المشرحة ثمة شعور مهيب لم تنسه منجة: "اتعاملت مع موت عيانين قبل كده بس هنا الوضع مختلف"، استغرقت وقتًا حتى تستوعب ما يجري حولها، كانت أدوات المهمة الجديدة موجودة، الكفن وكيس أسود لتغليف الجثمان بعد الانتهاء من الغسل: "بدأت في الإجراءات الشرعية بس كنت على أعصابي، الموضوع نفسيًا صعب".

انتاب الخوف نفس الممرضة الشابة: "كنت خايفة أأذِي الأمانة اللي قدامي أو ما كُنش حنينة عليها في الإجراءات"، فيما كانت المهمة أكثر صعوبة؛ لأنها في أي لحظة قد تلتقط العدوى: "اللبس بقى أتقل والتعليمات أكتر، ممكن المياه تطير وتوصل لجلدي؛ لأن المياه غصب عني بتبخط في البدلة".



كان الموقف مُربكًا على كافة المستويات، كان عليها إتمام المهمة الأولى لها بنجاح وتنتظر حتى تسليم الجثمان إلى سيارة الإسعاف. غُصّة شعرت بها منجة: "كل ما كنت أبص عليها أفتكر أمي، ده خلاني أتعامل بحساسية أكبر مع الست، وأدعو ربنا إنها متتخبطش مني ولا تتأذي وتوصله سليمة"، لكن ذلك زاد من غُمتها منذ انتشر الوباء: "مكنتش عايزة أتحط قدام الحقيقة دي، إننا ممكن نفقد شخص ومنقدرش ننتصر على الفيروس".

6 ساعات استغرقتها الممرضة الشابة حتى انتهت من كافة الإجراءات وتسلمت عربة الإسعاف السيدة: "جالي إحساس إني عايزة أمشي من هنا"، تتذكر حين عُرض عليها الأمر: "في مهمة صعبة بس عارفين إنك قدها ومحدش راضي.. تتطوعي وتشتغلي في المشرحة؟"، بدون تردد وافقت منجة، تعلمت على يد المسؤول عن الغُسل للرجال فيما أُسند لاثنين من الممرضات مسؤولية مساعدتها: "وفي نفس الوقت كنت باخد شيفت التمريض كامل".

إنهاك شديد مرّت به لكن كان يهوّن عليها ابتسامة، دعوة من مريض، ضحكة تخرج من طفلة: "الموضوع اختلف لما بقيت بتعامل مع جثث"، صار الصباح عالمها المفضل، تحاول بكافة السُبل أن تدفع المصير الليلي عن أولئك المرضى.

استمرت منجة في عملها بالمشرحة، لم تعد تستغرق كل ذلك الوقت لإنجاز الأمر: "وشعوري مبقاش زي أول مرة، جاتلي جرأة أكبر وبقى ده العادي، الصبح أتعامل مع الأحياء وبالليل الموتى".

لم تتعامل منجه مع المُصابين كأعداد داخل المستشفى، بل ارتبطت بهم وبحكاياتهم، كانت ترى فيهم والديها وأخوتها البعيدين عنها "ولما كان حد يموت كنت بحاول أتماسك عشان أقدر أكمّل وأخدم الباقيين". لكن مرة أفلتت البراح لمشاعرها، حين علمت عن نزول أحد مرضاها لغرفة العناية المُركزة، إذ كانت ترى فيه مشاعر الأبوّه، انتظرت بفارغ الصبر لحظة خروجه لعائلته مرة أخرى: "وأنا داخلة الأوضة ورغم إن لبسنا مش باين منه غير عنينا لكن لقيته بينادي لي باسمي وبيسألني اتأخرتي عليا ليه؟ أنا مستنيكي من بدري".

لم تكن تعلم كيف عرفها العجوز قبل حتى أن تتحدث، اطمئنت عليه وقبل أن تغادر سألته: "قالي أنا أعرفك من حنيتك وخطوتك وكنت مستنيكي تيجي أسلم عليكي"، في اليوم التالي تلّقت الخبر، صعدت روح الرجل إلى بارئها، ظلت كلماته عالقة بنفس منجه "كنت متخيلة إني لما أتعود على الوفيات إني مش هتأثر، لكن في اللحظة دي أنا انهرت".

بقلب شُجاع تتخذ منجة قرارتها، لا تزال تتذكر حين قدّمت أوراقها للانضمام لصفوف مستشفى عزل ملوي بالمنيا، ثورة اشتعلت داخل منزلها: "أبويا كان خايف عليا ورافض، صحابي جم يقنعوني أتراجع لكن أنا صممت.. قلت له يا أبويا لو فضلت وسطكم ومكتوب لي حاجة هشوفها، ولو اتقدر أفضل عايشة هتتشرف بيا"، في أبريل رحلت الشابة عن منزلها فيما الحزن يدّب داخل البيت: "إخوتي دخلوا أوضهم ومحدش رضي يودعني، وأبويا فضل يبكي على الباب"، بس أنا كنت واخدة قراري.

لم يكن للخوف في تلك اللحظة مكان في نفسها، تحركت بالعربة سريعًا إلى العالم الجديد، وصلت على أعتاب المستشفى، جرّت حقيبتها، دفعت ثمن الأجرة، شعرت بهواء السيارة مبتعدة عنها بينما صارت أمام مصيرها الجديد: "في اللحظة دي حسيت بخوف عمري ما اتخيلته"، ذابت كل القوة التي استمسكت بها للمجئ لهنا: "مكنتش عارفة إيه اللي مستنيني جوه؟، أخدت وقت على ما دخلت للمستشفى عشان أعيش تجارب مختلفة من الخوف".

الخوف من المجهول، الفقد، العدوى، وقول الحقيقة. سلسلة متتالية من المشاعر مرت بها منجة، يؤلمها حين يأتيها سؤال مباشر من المرضى وهم معلقون بكلمة منها: "أول مرة نازلة بفتح الباب للإسعاف عشان أستقبل الحالات، واحدة أول ما شافتني سألتني: "هو أنا هموت؟". نزل السؤال كالصاعقة على الممرضة الشابة، لم تكن تعلم كيفية الإجابة: "مكنتش متوقعاه، فضلت أطمنها؛ لأنه أي مريض بنتعامل معاه إنه هيتعافى ويخرج من هنا على رجليه، بس كنت خايفة يجرى لها حاجة".

لكن تلك القوى خارت حينما عرف الوباء طريقه إلى الممرضة الشابة في أغسطس من العام الماضي؛ ظلت في مرحلة العلاج لمدة شهر بالكامل، حين تقترب من التعافي تنتكس حالتها "واتعزلت في نفس المكان مع المرضى اللي كنت بخدمهم.. كانوا زعلانين عليا وبيهونوا فترة التعب". لم تُخبر منجه أسرتها حتى الآن بما مرّت به، أخفت عنهم الأمر حتى لا يشتد خوفهم عليها وهي بعيد عنهم "في كل مرة تليفوني كان يرّن كنت بترعب ممكن يحسوا، وفي أوقات مكنتش بقدر أرد من التعب".

بعد موجة من التأقلم عاود الخوف نفس منجه مُجددًا خلال الموجة الأولى من الوباء "وقت الألم هو وقت الخوف. وقت ضيقة النفس وقت الخوف.. لما كنت بحس بقبضة النفس بشوف النهاية قدامي فأحّس بخوف".

بعد ثلاثين يومًا، تعافت الممرضة الشابة وأخيرًا جاءت نتيجة تحليلها سلبية، عادت مُجددًا إلى العمل، أحيانًا تُحدثها نفسها بضرورة الرحيل وترك مستشفى العزل "أقول لنفسي إنفدي بجلدك بعد اللي شوفتيه، بس لما تعبت أدركت أهميتي أكثر، وعدت ربنا لما أكون كويسة مش هستخسر صحتي ثانية واحدة، واللي نجاني من الموت مرة، هينجيني تاني وتالت".

حين صارت في أتّم صحتها، قررت منجه اتخاذ وقت مستقطع لتطمئن على أسرتها، لكن الخوف تجسّد لها بشكل مختلف "أهل القرية كانوا خايفين مني إني أجيب لهم الوباء، كنت كل يوم أدعي إن محدش يصيبه كورونا عشان ميتقالش إنه بسببي"، ظلت حبيسة منزلها فترة قضاء الإجازة فيما حاول أهلها تخفيف عليها كل ما مرت به خلال تلك المدة.

قرابة العام قضته منجة داخل مستشفى العزل، وحين عاودت الموجة الثانية بشراسة في أكتوبر العام الحالي قررت العودة، تتفاوت مشاعرها خلال تلك الأيام، ما زال الخوف يسكنها على أسرتها البعيدة عنها، على كل مريض جديد تستقبله المستشفى، لكنها تنتظر اللحظة التي تخرج فيها من المكان: "نفسي الفترة تخلص بكل ما فيها، محدش يتعب تاني والوباء ينتهي، وأقفل باب مستشفى العزل بإيدي ومعاه كل المرحلة دي".