أخضر لن يعود

منذ أكثر من 7 آلاف عام، التف المصريون القدماء حول شريط مائي عذب، صبغوا الأراضي من حوله باللون الأخضر، عاشوا، وأكلوا، وتناسلوا، وأسسوا حضارة النهر.. ومع توالي الحقب التاريخية والحضارات، تشابكت الذاكرة البصرية، بين هويات فرعونية، وقبطية، وإسلامية، شرقية وغربية.

ومع بداية العهد الحديث، تآكل هذا التشابك الحميد؛ فلم يتبقَّ منه سوى أطلال متفرقة، نطلق عليها آثارًا، وبدت حضارة أخرى خرسانية؛ سرطان قبيح له أسبابه، تمكن من مصر بأكملها، في أشكال متعددة، جعلت من الفلاح تاجرًا، وأقصى طموحات المواطن الحصول على شقة بـ"الطوب الأحمر".

ومنذ عقود قريبة- وتحديدا في ثمانينيات القرن الماضي- لم تَعُد في حاجة لأن تجوب المحافظات المصرية كي تشاهد ما آل إليه العمران والزراعة ونهر النيل في عشوائية انعكست على نفوس البشر، بعد أن التفت جميعها حول نهر منسدل من الأسفلت.. يُدعى الطريق الدائري.

إعلان

إعلان

لم تتبدل ملامح الحياة لدى رامي - سائق الميكروباص العشريني - منذ خمس سنوات، يستيقظ في الثامنة صباحًا، يطل من شرفته على الطريق الدائري السائر جيئة وذهابًا، هنا محل سكنه وعمله، وهنا تدور الحياة من حوله.

الحكاية لم تبدأ حينما انتقل رامي وعائلته للسكن قرب محور المريوطية منذ 5 سنوات فحسب.. قبل عشرات السنين، تحديدًا عام 1986، وجدت الحكومة المصرية في طريق يلتف حول القاهرة الكبرى حلَا للأزمة المرورية، والسكنية.

إعلان

إعلان

كان الأربعيني رمضان الشيمي، الذي يعيش أمام كوبري الدائري بمنطقة المنيب، شاهدًا على الحكاية منذ بدايتها، شيدت أسرته هذا البيت قبل 50 عامًا، وقتها كان لا يزال صبيًا يهوى تربية الحمام، كانت المنطقة دائمًا خالية، يحيطها الأخضر من كل اتجاه.

مكنش فيه دائري
كنا بنشوف العمرانية والمريوطية والهرم من هنا
بعد المغرب، مكنش بيبقى فيها صريخ ابن يومين
كنا بنخاف..

كان الوضع رتيبا هادئا، حتى طرق الأبواب الجار الجديد "الدائري"، جاء رجال المساحة ليفرغوا له متسعًا من الأرض، أزالوا بعض البيوت وعوضوا أهلها، وردموا الأراضي الزراعية بالرمال وبدؤا في التشييد.

بعد الدائري بطلت تربية حمام
الحياة بقت مزعجة شوية
في الأول مكناش نستحمل وش العربيات ربع ساعة
بس بعدين اتعودنا..

إعلان

إعلان

حرم "رمضان" نفسه وعائلته من تربية الحمام، على مدار 10 سنوات، تزوج فيها، وأخذ قرار الإقلاع، لكنه لم يقو على الابتعاد أكثر من ذلك، اضطر لتشييد برج حمام شاهق الارتفاع أعلى المنزل الذي أصبح ارتفاعه 5 طوابق، تحاصرها جدران البيوت الأخرى من كل اتجاه، عدا الواجهة التي تشاهد الدائري.

رغم كل شيء، يرى الرجل أن الحياة بعد الدائري أفضل. الآن، مزيدًا من العمار، كل شيء متوفر من حوله، إذا مرض أحد أبنائه ليلًا، يستطيع أن يذهب به إلى الطبيب.

بنيت برج حمام كبير
علشان الحمام يبقى حطيته عالي
خوفت ليخبط في العماير والعربيات

833.000

مبنى للعمل

13.466.000

مبنى للسكن

16.185.000

مبنى في مصر

8.996.000

وحدة سكنية فارغة

على عكس رمضان الذي جاور الدائري منذ عشرات السنين، لم يعد العم عيد الستيني النحيل يرتضي الحياة إلى جوار الدائري، منذ أن كان صبيًا في السادسة عشر من عمره، عرف طريقه جيدًا، فلاحًا ابن فلاح، في شبابه جاءه خطاب القوى العاملة بوظيفة بشركة الشوربجي للألبسة، لكن الفلاحة ظلت تجري في عروقه، تُرى ما الذي جعل العم عيد يفكر في بيع أرضه والمغادرة؟ ما الذي يجعله يفكر في الزراعة في أرض أخرى أو العزوف عن الزراعة من الأساس؟!

إعلان

إعلان

1.851.674

حالة تعدي على الأراضي الزراعية منذ 2011

10.000.000

فدان في مصر

لا يهتم رامي، سائق الميكروباص، الذي يعيش على الدائري منذ عشرات السنين، بكل ما سبق. شيدت عائلته منزلا يحاوطه الأخضر من ثلاث جهات،بعد اندلاع الثورة عام 2011، لم يبالوا كغيرهم باستخراج التراخيص، لم يكن هناك حاجة إلى ذلك وقتها.

اتصالحنا بعد كدة مع الحي ودفعنا غرامة
الكهرباء واخدينها ممارسة
وبنملى مية من عند الجامع، وهنا فيه صرف صحي

633406

قرارات تم تنفيذها

1.923.766

قرارا لم ينفذ بعد

2.644.222

قرار إزالة

2.878.808

مباني مخالفة في مصر

كل شيء هنا على ما يرام، هكذا يشعر رامي، يعيش إلى جوار جميع المواصلات، يصُف حافلته أعلى الكوبري في منتصف اليوم، ويهبط إلى المنزل ليتناول الغذاء ثم يستأنف، لا يوجد جار يؤرق عيشته، لكن هناك ثمة مشكلة وحيدة.

بعد الساعة 1 بالليل بنلاقي حرامية وبلطجية
سرقوا مننا توكتوكين وموتوسيكل
وكل شهر بنلاقي واحد مقتول عند الرشاح

إعلان

إعلان

يعرف رامي أن سكون المنطقة لن يدوم، يدرك أنه بعد بضعة سنوات لن يستطع رؤية طيف الهرم الأكبر الرمادي وقت الظهيرة من شرفة المنزل.

بعد 10 سنين هتيجي هنا مش هتلاقي خضرة خالص
المباني هتاكل كل حاجة، الخضرة والأهرامات
حتى الحرامية هتقل
مافيش حاجة هتفضل إلا الدائري

10.000.000

مبنى في مصر طوب أحمر بدون طلاء في مصر

المادة 104 من قانون البناء الموحد رقم 119 لسنة 2008

إقامة أعمال دون الأصول الفنية المقررة قانونيًا

الحبس مدة لا تقل عن 6 أشهر وغرامة 50 ألف جنيه كحد أدنى

شطب المهندس أو المقاول من نقابة المهندسين واتحاد المقاولين عامين على الأقل

أما اللائحة التنفيذية فتلزم بـ:

الإلزام في التراخيص باستكمال واجهات المباني

عدم إصدار ترخيص بناء لأي قطعة أرض غير مطابقة للاشتراطات التخطيطية.

في مشهد أشبه بما يتنبأ به رامي، وجد "ألفونس" نفسه يجلس وسط تحفة معمارية تحاصرها بنايات من الطوب الأحمر بغير طلاء. يجلس الرجل داخل مدرسة المعماري "رمسيس ويصا واصف" بالحرانية، التي اختار صاحبها أن يشيدها بعيدًا عن العمران ليعلم الأهالي أن خيالهم يستطيع أن يغزل سجادًا يدويًا مصريًا خالصًا. بالطبع، لم يتخيل صاحب المدرسة ذات المباني المقببة المشيدة منذ خمسينيات القرن الماضي، يومًا ما أن الواقع سيصبح بهذا الشكل، لكن تلميذه "ألفونس" شاهد ذلك بعد رحيله.

إعلان

إعلان

أطلقت محافظة القاهرة حملة لإزالة التعديات، بدأت موجتها الأولى في 9 ديسمبر 2018، بمناطق المرج والسلام وحلوان.

أخضر لن يعود
مقطع من محور المريوطية (الطريق الدائري)

الآن وبعد قرابة الثلاثين عامًا من إنشائه، أصبح السكن إلى جوار الدائري ليس قاصرًا على المباني العشوائية فقط، أصبحت التجمعات السكنية الراقية "الكومباوندات" تتفاخر في إعلاناتها بالقرب من الطريق الدائري، لتكمل الصورة الحالية للمعمار في مصر، على امتداد طريق دائري سريع.

إعلان

إعلان

وبعد أن قرر الفلاح التخلي عن أرضه، وأصبح البناء المخالف مباحًا مقابل رزمة من المال، وبعد أن أصبح الاختناق الخرساني حميمية وأمانًا، والانفجار السكاني أمرًا واقعًا، والقوانين مجرد نصوص لا تطبق، وجدنا أنفسنا أمام مبنى خرساني من العثرات، لا تقوى عليه قرارات، ولا تُجدي معه إزالات، بعد أن جُرّفت الأراضي بالفعل.

الإحصائيات والأرقام من الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء - تعداد 2017.

ملف مصور

تصوير: روچيه أنيس

كتابة: مها صلاح الدين

مونتاج: منعم سامي

تنفيذ: محمد عزت

إشراف عام: علاء الغطريفي

تم إنجاز هذا المشروع بدعم من جائزة نوبل البديلة