سجناء الجسد

أطفال يصارعون للبقاء في حرب غزة

قصف إسرائيلي مكثف يستهدف مربعًا سكنيًا بحي الصبرة؛ دمرت قذائفه بنايات بالحي الواقع جنوب مدينة غزة، وسقط قاطنوها بين قتلى ومصابين، وفرّ من نجا بحثًا عن مأوى. باستثناء "أم بلال"، التي كانت بمنزل أهل زوجها أثناء القصف، تركض عكس اتجاه الفارين، عائدة إلى ركام بيتها المقصوف، باحثةً بين أنقاضه عن "أكياس الدقيق" المخصصة لنجلها "بلال"، المصاب بـ"حساسية الطعام".

لا تختلف معاناة بلال، البالغ من العمر تسع سنوات، عن حالة الشقيقين "فرح ومجاهد" اللذين لم يتجاوزا العقد الثاني من العمر، رغم إصابتهما بمرض مختلف من حيث التعريف والتصنيف الطبي، يُسمى (بيلة الفينيل كيتون "PKU")، إلا أن بروتوكول العلاج المعتمد لهما واحد؛ قائم على "نظام غذائي ودوائي خالٍ من الأطعمة المسببة للمرض".

"حساسية الطعام" تنتج عن رد فعل مناعي غير طبيعي بمجرد تناول أصناف معينة كالقمح والألبان، مسببةً مشاكل بالجهاز الهضمي أو التنفسي أو طفحًا جلديًا، وقد تسبب الوفاة، بينما يُعد "PKU" مرضًا وراثيًا ينتج عن عدم قدرة الجسم على تكسير بروتينات الأطعمة، التي يسبب تناولها تدمير خلايا المخ والإعاقة الذهنية.

يوثق التحقيق حجم المأساة التي يعيشها أطفال حساسية الطعام والـ"PKU" وأسرهم، في ظل النقص الحاد، وأحيانًا الانعدام التام، في الأغذية الأساسية التي يقوم عليها بروتوكول العلاج الغذائي، مسببةً مضاعفات صحية خطيرة، تبدأ بسوء التغذية الحاد والتراجع في القدرات العقلية، وقد تنتهي بفقدان الحياة، مع استمرار واحدة من أكثر الحروب تدميرًا في القطاع الفلسطيني.

رغم ظلمة الفجر الذي أمطر فيه الطيران الإسرائيلي حي الصبرة بالقذائف، وصوت المسيّرات التي تُحلّق على ارتفاع منخفض، عثرت "أم بلال" على 12 كيلوجرامًا من الدقيق الخالي من الجلوتين، الذي يعتمد عليه نجلها المصاب بحساسية الطعام، وهو ما اعتبرته الأسرة كنزًا نجت به من الجحيم: "بنحمل دقيق بلال معنا في كل مرة ننزح فيها... هذا الدقيق يعني حياة ابني".

كان بلال أوفر حظًا من الشقيقين "مجاهد وفرح"، حيث استطاعت والدتهما "ريم خليفة" العثور على علبتي "لبن-PKU"، بعد سيرها ساعتين من مخيم لاجئين في خانيونس نحو ركام منزلها بقرية "خزاعة"، الواقعة شرق محافظة خانيونس، التي استهدفها الطيران الإسرائيلي، في تكرار لمأساة حي الصبرة الذي كانت تقيم فيه أسرة بلال.

علبتا اللبن لم تكونا كافيتين لتلبية الاحتياجات الغذائية الأساسية للشقيقين، اللذين يحتاجان إلى 5 علب ألبان شهريًا، بالإضافة إلى الفاكهة والخضروات ونشويات خالية من البروتين للبقاء بصحة على قيد الحياة.

يعاني بلال ومجاهد وفرح، بخلاف أقرانهم المصابين بالمرض خارج قطاع غزة المحاصر، من أزمة صحية مزدوجة؛ فغياب بروتوكول العلاج الغذائي القائم على منع الأطعمة المسببة للمرض، الذي يُعد شريان الحياة لهم ويمنعهم من التعرض لمضاعفات قاتلة، لا يمثل الأزمة الوحيدة، بل تتفاقم المأساة في ظل الانهيار المتصاعد للأوضاع المعيشية والطبية منذ اندلاع الحرب في السابع من أكتوبر 2023، وبلغت المعاناة ذروتها مع نفاد مخازن برنامج الغذاء العالمي أواخر إبريل 2025.

وبعد شهر، صنّفت الأمم المتحدة ما يتعرض له سكان غزة، بما فيهم الأطفال من أصحاب الأمراض النادرة، على أنه إبادة جماعية، لتضع بذلك وصفًا رسميًا لحجم الكارثة الإنسانية التي يعيشها سكان القطاع.

رغم ما يمثله المرضان من خطورة وصعوبة في ظل الوضع المعقد بالقطاع، إلا أن التقارير الصحية الرسمية في غزة، وسجلات المنظمات الدولية العاملة داخل القطاع الفلسطيني، تخلو من إحصائيات دقيقة أو تقريبية عن مرضى (حساسية الأطفال) أو أقرانهم من مرضى (بيلة الفينيل كيتون "PKU")، باستثناء دراسة نُشرت عام 2020، بجامعة القدس، أكدت أن الأطفال يمثلون 60٪؜ من إجمالي مجتمع حساسية الطعام الفلسطيني.

وانعكس هذا الغياب في انعدام التوعية بهذه النوعية من الأمراض، وغياب الكشف المبكر عن الأطفال المصابين بها؛ كما حدث مع إيمان رشيد، التي تأخر تشخيصها في طفولتها بحساسية مزمنة تجاه القمح والشعير، حتى علمت به في 2019، وترتب عليه فهمها المبكر لحالة ابنتيها "مريم" و"ياسمين"، اللتين ورثتا المرض منها.


يرجع عدم الاهتمام بهذه الحالات إلى صعوبة إجراء دراسات متخصصة نتيجة الحصار الإسرائيلي المفروض على القطاع، بحسب كاظم أبو خلف، المتحدث الرسمي باسم "اليونيسف" في فلسطين.

وسط هذا الوضع المعقد والمتدهور، تحاول جمعية "أرض الإنسان"، المعنية برعاية الأطفال المصابين بسوء التغذية، من بينهم مرضى "حساسية الطعام" و"PKU" النادر، الاستمرار في تقديم خدماتها الطبية والغذائية، لكنها لم تنجُ من نيران الاحتلال؛ إذ دمرت مقراتها في رفح وخانيونس خلال عدوانه المستمر على قطاع غزة، في محاولة لمحو يد العون الأساسية التي تحنو على هؤلاء الأطفال.

ترتبط في ذهن إيمان رشيد –التي كانت طفلة عند انسحاب إسرائيل من قطاع غزة أواخر عام 2005 – ثلاثية قاسية: الاحتلال، والعزلة التي فرضتها إسرائيل منتصف عام 2007، ثم الحصار المستمر منذ 17 عامًا. لم تكن هذه بالنسبة لها مجرد أحداث سياسية، بل خلفية لألم جسدي ونفسي عاشته في طفولتها، حين ظلت تعاني لسنوات من أعراض مرض لم يُشخّص، وتُعالج دون أن تعرف السبب. لم تكتشف إصابتها بحساسية الطعام إلا بعد مشقة طويلة.

اليوم، أصبحت تلك الطفلة أمًا لخمسة أطفال، بينهم اثنتان مصابتان بالحساسية المزمنة، لكنها ترى أن ما عاشته في طفولتها لم يكن مأساة فردية، بل نتيجة مباشرة للواقع الذي فرضته إسرائيل على القطاع. تقول بمرارة: "الأحداث اللي عاشها القطاع وقتها زادت من تعبي وألمي.. والآن يتكرر نفس السيناريو مع بناتي بشكل أكثر قسوة وصعوبة"، خاصةً بعد إصابة "مريم" بصدمة تحسسية بعد تناولها "حلوى محرمة" مصنوعة من الجلوتين، "نفسها راحت للبسكويت زي بقية أطفال العالم.. رغم إنها ملتزمة بالحمية.. بس بالأخير هي طفلة"، لتحجز 4 أيام في المستشفى لإنقاذها، إلا أن ضعف مناعتها تسبب في إصابتها بالتهاب الكبد الوبائي، "بيكفي يا عالم.. اللي بيحصل لنا فاق كل الحروب.. إحنا مرضى وجوعانين.. إحنا بنُباد".

رغم أن إسرائيل مُلزمة، بصفتها قوة احتلال، بتوفير الرعاية الصحية والغذائية لسكان قطاع غزة بموجب القانون الدولي، فإنها تفرض قيودًا غير إنسانية على الأطفال، دون مراعاة لمرضهم. وفي مفارقة فاضحة، تحرص على توفير الرعاية الشاملة لأطفالها الذين يعانون من الحالات الصحية ذاتها، من خلال حملات توعية، وجلسات دعم نفسي، ومنتجات غذائية خالية من مسببات الحساسية، في إطار تنسيق منظم بين مؤسسات الدولة والمجتمع المدني لتيسير حياتهم اليومية.

باستثناء هُدنة مؤقتة استمرت شهرين، لم يتوقف القصف الإسرائيلي شبه اليومي على قطاع غزة، في حرب تقترب من نهاية عامها الثاني. تسببت الغارات الإسرائيلية في تدمير أكثر من 88% من مباني القطاع، وقتل طفلة كل 40 دقيقة، وسيدة كل ساعة، وفقًا لمكتب الإعلام الحكومي في القطاع الفلسطيني، وتشير الإحصائيات إلى وفاة 95 طفلًا بسبب سوء التغذية.

"نُقبل على أرقام مخيفة من الوفيات بسبب التجويع"، يقول مدير مجمع الشفاء الطبي في غزة، الدكتور محمد أبو سلمية، في تصريحات إعلامية، موضحًا: "لدينا 900 ألف طفل في غزة يعانون من الجوع؛ 70 ألفًا منهم دخلوا مرحلة سوء التغذية".

كان الطفل معاذ أبو حجاج واحدًا من هؤلاء. لم يحتمل سياسة التجويع الإسرائيلية، وعانى من نقص حاد في الغذاء المناسب لحالته؛ إذ كان مصابًا بحساسية طعام حادة. لم يجد أمامه سوى الاعتماد على المحاليل الطبية، التي لم توفر له استقرارًا صحيًا، واستمر وزنه في التراجع من 30 إلى 15 كيلوجرامًا خلال 5 أشهر، حتى انهزم أمام المرض والجوع، ورحل ذو السبعة أعوام بعد معاناة ما زال آلاف الأطفال يعانونها.

في كل مرة تُصدر فيها إسرائيل أوامر إخلاء لسكان قطاع غزة، يتبعها قصف جوي مكثف لا يترك خلفه سوى أنقاض وذكريات تحت الركام، كما حدث في حي الصبرة الذي كانت تقيم فيه أسرة بلال، وقرية "خزاعة" التي تركها الشقيقان "مجاهد وفرح" بناء على أوامر الإخلاء الإسرائيلية، لتستقر أسرتهما في أحد مخيمات خانيونس.

بينما نزحت أسرة بلال "الوالدان وأربعة أبناء" بعد تدمير البيت إلى دار إيواء على أطراف حي الصبرة، حتى صدرت أوامر إخلاء إسرائيلية جديدة تجبرهم على النزوح خارج الحي، ورهنت خروجهم الآمن بترك جميع أغراضهم والتحرك بحقيبة واحدة.





بالنسبة لـ"أم بلال"، لم يكن هناك ما هو أثمن من أكياس الدقيق المخصص لنظام ابنها الغذائي، لكنها وقفت عاجزة أمام الواقع القاسي؛ إذ لم تسَع الحقيبة سوى 4 كيلوجرامات، مع الحد الأدنى من مستلزمات الأسرة الضرورية، واضطرت إلى ترك 8 كيلوجرامات من الدقيق الذي كانت قد جمعته من تحت الركام.

ومثل مئات العائلات، بدأت أسرة بلال رحلة النزوح سيرًا على الأقدام نحو مخيم النصيرات وسط غزة؛ قاطعين سبع ساعات متواصلة على طرق رسمت تلال الأنقاض حدودها.

أصبح 90% من سكان غزة، التي يقطنها نحو 2.2 مليون نسمة، نازحين داخليًا، وفقا لتقديرات الأمم المتحدة. وتشير الإحصائيات الأممية الصادرة في أبريل 2025، إلى أن 9 من كل 10 أشخاص اضطروا للنزوح مرة واحدة على الأقل، بينما بلغت حالات النزوح المتكرر لدى بعضهم عشر مرات. لكن ريم خليفة، والدة "مجاهد وفرح" التي قاربت الخمسين من عمرها، تجاوزت هذه الأرقام بعدما نزحت 15 مرة برفقة طفليها. في حين اضطرت أسرة بلال للنزوح 8 مرات. لم يكن القصف وحده ما دفع العائلتين إلى الفرار، بل كان البحث عن الغذاء العلاجي النادر لأطفالهما هو المحرك الأكبر في كل مرة.


لكن في ظل حرب الإبادة الجماعية التي تنفذها إسرائيل في غزة، وفقًا لتصنيف الأمم المتحدة، تعجز أسرتا بلال وفرح ومجاهد عن توفير الأغذية المتوافقة مع بروتوكول العلاج الغذائي؛ ما يضطرهم أحيانًا إلى مقاومة الجوع، وأحيانًا أخرى إلى كسر البروتوكول تحت وطأة الحاجة.

وكانت نتيجة مخالفة الحِمية الغذائية، وتناول الأطفال الثلاثة أطعمة تحتوي على القمح والبروتين الممنوعين، انتكاسات صحية حادة. نُقل بلال على إثرها إلى مستشفيي "شهداء الأقصى" بدير البلح و"الكويتي" برفح، فيما لم تتمكن ريم خليفة، والدة فرح ومجاهد، من علاج طفليها بعد تناولهما وجبات لا تخلو من البروتين، قُدمت لهما في تكية خيرية، بسبب الغارات الإسرائيلية المستمرة على المستشفيات، بالإضافة إلى الارتفاع الجنوني لأسعار المواصلات ونُدرتها.

تقول ريم: "الاحتلال هدم مجهودي لسنوات في الحفاظ على صحة أولادي... همّا حاليًا في أولى مراحل التأخر العقلي". وبدأت تظهر على طفليها أعراض، منها: التشنجات المتكررة، التبول اللاإرادي، وفقدان القدرة على فهم الحديث.

يُرجع الدكتور أحمد الفرا، رئيس أقسام الأطفال في مجمع ناصر الطبي، هذه الأعراض إلى كسر نظام العلاج الغذائي، مؤكدًا أنها نتيجة طبيعية في حال عدم الالتزام الصارم بالحمية، مشيرًا إلى أهمية الحصول على الأدوية المضادة للحساسية، مثل "الهيستامين"، وحقن "الأدرينالين".

تمكنت "ريم" من الوصول بطفليها "مجاهد وفرح" إلى المستشفى، لكنها صدمت بعدم وجود أطباء متخصصين في المرض الذي يعانيان منه : "حكيت كتير إنهم محتاجين أدوية خالية من الألبان والجلوتين وكل البروتينات... بس مش الكل بيعرف يساعدني".

وحتى في حال توفر الطبيب المختص، تبقى معضلة الدواء قائمة؛ فبسبب الحصار، يعاني القطاع من نقص حاد في العقاقير، كما يروي الدكتور نبيل النجار، العميد السابق لكلية فلسطين للتمريض وعضو هيئة الطوارئ بوزارة الصحة الفلسطينية؛ ما يدفع الأطباء إلى ترشيد استخدام أدوية الحساسية والأمراض النادرة إلى أقصى حد، خاصة أن الوضع يزداد تعقيدًا يومًا بعد يوم، بسبب منع دخول الأدوية والمستلزمات الصحية.

"ساعات بشرب ابني ميه كتير علشان أقلل من أعراض الحساسية".. تلك الحيلة تلجأ لها "أم بلال" وكثير من أسر مرضى الحساسية، لمساعدتهم على تهدئة الألم عند اضطرارهم لتناول الأطعمة الممنوعة، وفقًا للتعليمات الوقائية لجمعية "أرض الإنسان" وبعض الأطباء في القطاع.




أصبحت غزة "أكثر الأماكن جوعًا على وجه الأرض"، بحسب وصف مكتب الشؤون الإنسانية للأمم المتحدة في أواخر مايو 2025. ووسط هذا الحصار الغذائي، لم يكن مرضى "حساسية الطعام" و"بيلة الفينيل كيتون (PKU)"، ضمن أي أولوية إنسانية؛ فالمساعدات الغذائية التي دخلت على فترات متقطعة، لم تُلبّ الحد الأدنى من الاحتياجات، حتى تلك التي احتوت على منتجات خاصة لمرضى الحساسية، لم تصل للفئات المستهدفة، بسبب عدم تمييزها أو فرزها، فتم استهلاكها عشوائيًا من قبل السكان الجوعى، في ظل الفوضى والمجاعة المستشرية، وإغلاق المعابر لأشهر، وفقا لعبد العزيز أبو عيشة، مدير إدارة المخاطر بالهلال الأحمر الفلسطيني.

غياب التوزيع العادل لـ"الأطعمة الخاصة"، دفع أسر المرضى إلى خيارات أخرى رغم تكلفتها وخطورتها. كان أقلها ضررا أكثرها عبئًا ماديًا؛ ما لجأت إليه أسرة "بلال"، للبحث عن الدقيق أو منتجات غذائية لا تلحق الضرر بصحته من السوق السوداء، بأسعار تزيد على السعر العادي بنسبة 900%، على حساب قوت باقي الأسرة، من أجل الحفاظ على حياته.

المال الذي استطاعت أسرة بلال تدبيره، لا يقدر آخرون على توفيره؛ ما دفعهم إلى اللجوء إلى خيارات أكثر خطورة، كما فعلت منى جمال والدة أنس- الطفل المصاب بحساسية الطعام- الذي فقد القدرة على المشي نتيجة تناوله أطعمة مخالفة لبروتوكول علاجه، ليكون هزاله دافعا لها لمواجهة رصاص الطائرات، خلال بحثها عن "دقيق الحساسية" أثناء "فترات الإخلاء" التي يعلنها الاحتلال، فتلك المدة فرصة ذهبية للتسوق. لاضطرار التجار لتخفيض الأسعار للتخلص من البضائع، وهو ما كان سيكلفها حياتها أثناء شرائها "ذرة وتمر" من أحد التجار ليُباغتها القصف الإسرائيلي، "رميت الأكل وركضت، قلت مو مهم الأغراض.. المهم أرجع لابني سالمة" تحكي ما حدث معها، وتكرر مع آخرين غيرها.

لا تقوى الأم الثلاثينية "ميسرة نعيم" على تحدي رصاص الاحتلال كـ"منى"، لتستسلم للجوع خمسة أيام متواصلة، ما أثر سلبا على إدرار اللبن لرضيعتها "سوار" التي شُخصت بحساسية الألبان والقمح خلال الشهر العاشر من الحرب، عند إتمامها العام ونصف عام، انخفض وزنها إلى خمسة كيلوجرامات، وكأنها رضيع بعمر 30 يوما، بينما يزن أقرانها الأصحاء حوالي 12 كيلوجرامًا، بحسب معايير نمو الطفل لمنظمة الصحة العالمية. ما دفع الأم لعرض ابنتها للكفالة بحثا عن أشخاص أو مؤسسات توفر لها أطعمة مناسبة لحالتها الصحية دون جدوى.

إحصائية انعدام الأمن الغذائي

تتشكل تفاصيل الحياة في غزة من النزوح والفوضى والحصار. وسط هذا المشهد المعقد، ظهرت مبادرات فردية متفرقة أبرزها ما أطلقه بديع إبراهيم وهدنة أبو زرار اللذان لم يكونا غريبين عن الألم، فقد عرفاه عن قرب، إمّا بأجسادهما أو من خلال أطفالهما الذين وُلدوا وهم يحملون عبء "حساسية الطعام" أو "PKU"، بجانب مجهودات جمعية "أرض الإنسان".

رحلة البحث عن حلول، تتخطى حدود العجز داخل غزة، بدأت بمد اليد نحو الخارج. تواصلا مع رجال أعمال، طرقا أبواب جمعيات حقوقية وإنسانية، وتمكّنا –رغم كل القيود– من تأمين مساعدات جزئية ومؤقتة، لكنها في نظر المرضى وأسرهم كانت بمثابة حياة تُستعاد على دفعات.


"معاناتي مع ابنتي المصابة بحساسية الطعام، دفعتني لتحويل خيمتي لطهي أطعمة خالية من الجلوتين، وتقديم معجنات مجانية للمرضى، اعتمادًا على تبرعات أصدقائي من خارج غزة. لكن مع نفاد التبرعات، اضطرت إلى بيع المنتجات بأسعار رمزية لتغطية نفقات المواد الخام، وبسبب نفاد الوقود توقفت الخيمة عن العمل".

بديع إبراهيم، والد طفلة مصابة بحساسية الطعام

تواصلت مع مؤسسات ورجال أعمال داخل وخارج غزة، في محاولة لتوفير مساعدات طبية وغذائية للمرضى. ونجحنا في جمع بيانات نحو 700 حالة، ومساعدتهم بمواد التنظيف والفاكهة والخضروات، لكن سرعان ما نفدت الكميات، لتعود الأزمة من جديد دون حلول بديلة.

هدنة أبو زرار، ناشطة تعاني من حساسية الطعام

"استطعنا في ديسمبر الماضي، إدخال وتوزيع 13 ألف كيلوجرام من الدقيق الخالي من الجلوتين، وتمكنا من توزيع طحين الحساسية على العديد من الحالات بالتعاون مع مؤسسة العون الطبي للفلسطينيين، لكن الإمدادات توقفت في مارس الماضي".

أريج الشوا، مسؤولة الإعلام في جمعية "أرض الإنسان"



لم تكن معاناة أطفال غزة المصابين بحساسية الطعام و"PKU" كافية لتغيير واقعهم الصعب، ولا شهادات ذويهم، ولا رصد النشطاء والحقوقيين، ولا حتى تقارير الدولية؛ لذلك، لم تكتف "معدة التحقيق" بدور التوثيق، للمشكلات والأزمات التي رصدتها محاولة البحث عن حلول عملية.

عُقدت لقاءات ومنافشات بتنسيق من "معدة التحقيق"، بين مؤسستين مصريتين ، إلى جانب سيدة أعمال وصاحبة متجر متخصص لبيع منتجات الحساسية في مصر، وممثل عن جمعية "أرض الإنسان" الفلسطينية الذي تواصل مع إحدى الجمعيتين.





خلاصة مناقشات الحقوقيين انتهت إلى:

تخصيص حافلات لمنتجات الحساسية لمنع خلطها بالبضائع الأخرى

وضع علامات مميزة على المنتجات الخاصة بالحساسية و"PKU" مع التنسيق المسبق لتفادي توزيعها على حالات غير معنية.

تخصيص "أيقونة تبرع" لمرضى الحساسية و"PKU" لضمان الشفافية.

تولي جمعية "أرض الإنسان" مهمة استلام وتوزيع جزء من منتجات الحساسية و"PKU" داخل غزة.

تدشين حملات إلكترونية مع مؤثرين للتعريف بمعاناة المرضى وتشجيع التبرع والدعم.

شركاء التنسيق في دعم الأطفال المرضى

أسماء ستت، صاحبة متجر متخصص بمنتجات الحساسية في مصر
(صاحبة المبادرة لإرسال مساعدات غذائية آمنة لمرضى الحساسية)

عبدالعزيز أبو عيشة، ممثل الهلال الأحمر الفلسطيني في غزة
(تلقى المبادرة من معدة التحقيق واقترح آليات تنفيذها)

د. عدنان الوحيدي، المدير التنفيذي لجمعية "أرض الإنسان" في غزة
(مؤسسة مختصة بمتابعة مرضى الحساسية والـPKU )

أحمد جبريل، مسؤول القوافل الإغاثية في مؤسسة "مرسال" المصرية
(شارك في مناقشة آليات تجهيز شاحنات الغذائية)

عبدالرحمن حبت، مسؤول "قوافل غزة" بـ "صناع الحياة" المصرية
(أبدى استعداد لتخصيص تبرعات تمهيدًا لتجهيز شاحنة غذائية)




وسط غموضٍ يكتنف مصير وقف إطلاق النار في غزة، تواصل إسرائيل ارتكاب جرائمها بحق سكان القطاع، في ما وصفته ثلاث منظمات دولية — العفو الدولية، والأمم المتحدة، واليونيسف — بأنه "تدمير ممنهج" و"إبادة جماعية"، عقب قيام الجيش الإسرائيلي بتسوية بلدة خزاعة بالأرض خلال أسبوعين، هي البلدة التي كانت تأوي عائلة مجاهد وفرح قبل أن يجبرهم القصف على النزوح. وفي الوقت ذاته، أصبح حي الصبرة، الذي نزحت منه أسرة بلال، هدفًا متكررًا للغارات الإسرائيلية، بعد أن تحول إلى منطقة اشتباكات بين جيش الاحتلال الإسرائيلي وحركتي حماس والجهاد الإسلامي.

في ظلّ حربٍ لا تلوح نهايتها في الأفق، يبقى بلال ومجاهد وفرح، وغيرهم من أطفال غزة، أسرى لأمراض نادرة وجوعٍ لا يرحم. يخشون مصير "معاذ"، ويترقّبون دخول المساعدات الغذائية والدوائية التي تشكل طوق نجاة، لكن وصولها لا يزال مرهونًا بهدنةٍ طال انتظارها.

"العفو الدولية "توثق تسوية الجيش الإسرائيلي بلدة خزاعة بالأرض


تحقيق: يسرا الصحفي

موشن جرافيك: مينا ماجد

إنفوجراف: مايكل عادل

تصميم وتنفيذ: محمد عزت

المواد البصرية من الأمم المتحدة واليونيسف والأونروا