ما زال المهندس كمال عبد العاطي يتذكر حكايات أبيه عن السد العالي، كيف شارك هو والجد في بنائه، يغمره الحنين لتلك الذكريات، ثم يعتريه الفخر؛ إذ يستكمل هو مسيرتهما بشكلٍ مختلف.

قبل 3 أعوام، انضم كمال إلى مشروع الطاقة الشمسية في بنبان، بات مديرًا لمحولات محطات الطاقة هُناك، يقضي يومه مُشرفا على عُمال ومهندسين وفنيين. يستكشف الجديد في المجال يوميًا. يشعر كأن سنواتِ عمره الأربعين تجددت مرة أخرى.

لحظة بلحظة، عايش المهندس بدايات المشروع، حين كان يتم البحث عن مساحة تصلح لتوليد الطاقة الشمسية يتحدد ذلك طبقًا لعدة معايير، منها مدى سطوع الشمس، وسرعة الرياح والأتربة، ووجود طيور مهاجرة من عدمه.

وطبقًا لدراسات قامت بها وكالة الفضاء الأمريكية ناسا، فإن منطقة "بنبان" كانت الأنسب.

من محافظة قنا، نزح والد كمال في الأربعينيات، واستقر بأسوان ليعمل في السد العالي، وهُناك وُلد كمال، وتربّى. تعود على سماع سيرة السد في منزل الأسرة. كان الفضول يقوده دائما للمعرفة أكثر عنه، لكنه الآن، وعقب أكثر من 60 عامًا يشعر بالامتنان "مشروع بنبان هينتج 90% من كهرباء السد العالي.. يعني والدي بدأ وأنا من بعده".

بنبان وما قبلها

المساحة: 37.2كم مربع
التكلفة: 4ملايين دولار أمريكي
عدد الالواح: 7.200.000 لوح
القدرة: 1800 ميجاوات
تحويل الطاقة: 4محولات بقدرة 220 كيلو/فولت
عدد الشركات (المحطات): 41 بحق الانتفاع 25 عاما
عدد الالواح الشمسية: 200 ألف لوح شمسي/محطة
القدرة: 50:30 ميجاوات/محطة
بنبان
البداية: 2016
التشغيل: 2018


المصدر: الموقع الرسمي لهيئة الطاقة الجديدة والمتجددة.

الخطوة الأولى

كانت شركة إنفنتي أول مستثمر في أرض مشروع بنبان، برأس مال وصل منذ ٣ سنوات إلى ٨٠ مليون دولار، قبل أن تتسع رقعة مشروعهم داخل المحطة مع الوقت، ويصبح ممولًا من قبل البنكين الدولي والأوروبي.

"التحديات كانت كتيرة، أهمها طبيعة المكان والخوف من إن المشروع ما ينجحش".. يقول المهندس محمد عمارة، مدير مشروعات الشركة في محطة الطاقة الشمسية، مضيفا أن طبيعة ذلك المجال جديدة في مصر "فكان الحصول على ناس تشتغل بكفاءة صعب".

حين بدأ المشروع، وصلت العمالة المؤقتة في "إنفنتي" إلى ٦٥٠ عاملًا، حيث تنوعت وظائفهم بين تركيب ألواح الطاقة الشمسية والأعمال الفنية الأخرى، لكن بانتهاء التحضيرات وبدء الإنتاج، لم يعد هناك حاجة لذلك العدد، فانخفضت العمالة إلى خمسة عشر عاملًا بدوام كامل بجانب ٦٠ آخرين بين فنيين ومهندسين في تخصصات مختلفة.

بدأت شركة الاستثمارات عملها في مصر قبل خمس سنوات في مجال الطاقة النظيفة "مكان بنبان واعد جدا، وده اللي شجعنا نستثمر هنا"، يقول عمارة إن الموقع المختص بالشركة من المفترض أن ينتج ٥٠ ميجاوات من الكهرباء، حيث دخل جزء من الموقع حيز العمل "نبيع الكهرباء للشبكة الرئيسية لكهرباء أسوان حاليا الكيلو بـ٨ سنت".

أكثر من ٩٠٪؜ من عمالة الشركة حاليا من محافظة أسوان، وذلك لم يمنع وجود شكاوى من أبناء بنبان؛ حيث لا يتم قبول عدد منهم للعمل في الشركة "ده مش مقصود أكيد.. إحنا بنعين بالكفاءة، فممكن نطلب كهربائي وييجي عدد كبير معندوش حتى مبادئ الشغلانة" حسبما يحكي عمارة.

داخل حقول الشمس

خالد رجب

البحيرة

دقائق قليلة وتنتهي ساعة الراحة، التي بدأت في الثانية عشرة ظهرًا، وقف خلالها خالد رجب برفقة 3 عمال يشرف عليهم، يستظلون بأحد ألواح الطاقة الشمسية التي لم تعمل بعد، ويتفقون على خطة العمل خلال الساعات المتبقية من اليوم.

اعتاد خالد، 28 عامًا، العمل في مشروعات لها علاقة بالكهرباء. بدأ كعامل "برّاد"، ثم أصبح مشرفًا على العمال، في مختلف المحافظات المصرية "الإسكندرية ودمياط والسويس وأسيوط" حتى حضر ابن محافظة البحيرة إلى "بنبان" في شهر ديسمبر الماضي.

يتولى خالد الإشراف على 64 عامل تركيب، يقسمهم على "بلوكات الألواح"، يتسلم صباحًا تكليفًا بإنهاء التركيبات في بلوكات محددة، فيقوم بتوزيع عماله عليها.. يعرف جيدًا ما ينقص كل منطقة عمل، ويعيد توزيع العمال في منتصف اليوم، حتى يتمكن من إنهاء المطلوب.

إدارة 64 عاملًا في الصحراء تحت أكثر الأماكن سطوعًا بالشمس ليست هيّنة "شغل الطاقة الشمسية جديد على مصر والناس بتاخد وقت علشان تستوعب".. يتحدث خالد عن أبرز تحدياته.

وليد صالح

إدفو

"كنت بشتغل في الزراعة والأرض.. سيبتهم وجيت هنا قولت أجرب حاجة جديدة" وجد وليد نفسه يتعلم أشياء جديدة، منذ مجيئه في شهر ديسمبر، قرر الاستمرار في العمل بعد أن كان يعتبره مجرد تجربة جديدة، والآن أصبح يخطط إلى الانتقال إلى مشروعات أخرى بعد انتهاء مشروع بنبان، أو العمل خارج مصر في مجال الطاقة الشمسية.

ومثلما غير مشروع بنبان طريقة تفكيره، حسّن أيضًا وضعه المادي: "أنا متجوز وعندي بنت عمرها 3 سنين"، لم يشكُ خالد من شدة حرارة الجو في أسوان مثل بقية العمال: "إحنا في إدفو متعودين على كده". بل يحلم أن يستمر المشروع لأطول وقت ممكن.

ياسر إبراهيم

أسوان

تبدلت الظروف، وسدد ديونه، بعدما تراكمت عليه إثْر تردي أوضاع السياحة، مهنته الأولى، بدأ الأربعيني الأسمر- ياسر إبراهيم عهدًا جديدًا في حياته برفقة زوجته وأبنائه الأربعة، منذ أخبره أحد معارفه من بنبان عن المشروع. تنقل من شركة إلى أخرى داخل الموقع حتى استقر بشركة طاقة عربية: "اكتسبت خبرات جديدة، وتعلمت تركيب الشاشات- الألواح- وبقى معايا صنعة".

ولأن أسوان مسقط رأسه، فلا يضطر "ياسر" للاغتراب، يأتي، ويعود يوميًا إلى بيته، يترك منزله في الخامسة صباحًا، ويغادر في الثالثة عصرًا، عقب ذروة سطوع الشمس. يقول لأبنائه إنه يعمل في مشروع قومي "مصر كلها بتتكلم عنه"، يطلبون منه أن يصطحبهم إلى هناك ليشاهدوا ما يحكي عنه، لكن إجراءات السلامة تقف حائلًا دون رغبتهم، ويرد عليهم: "لما تكبروا.. أهم حاجة دلوقتي إني أرجعلكم سالم".

500
عدد العمال بكل موقع

(عمالة مؤقتة)

18000
عدد العمال بالمشروع كاملًا

(عمالة مؤقتة)




تستمر لمدة 3 أشهر

بعدها يضم كل موقع 10 أفراد على الأكثر (مهندسين- عمال- عمال نظافة)

المصدر: هيئة الطاقة الجديدة والمتجددة واشتراطات البنك الدولي.

صالح

بنبان

Person

كأغلب رجال قرية بنبان، كان يعمل "صالح" بالخارج، أمضى سنواتٍ عامل استقبال في أحد الفنادق بالسعودية، كان راضيًا سعيدًا، لكنه اضطر للعودة منذ عام 2011، بعد أن رفض الكفيل تجديد عقده. ظل ثماني سنوات يتنقل بين عمل وآخر، حتى علم أن المشروع الذي تردد الحديث عنه منذ سنوات دخل حيز التنفيذ "إحنا مكناش أول ناس بدأت، فيه ناس كتير بدأت قبلنا، لكن حسيت إنها فرصة، والفرصة بتيجي في العمر مرة واحدة".

هكذا برر الرجل الأربعيني سبب اختياره مهنة "مقاول أنفار" التي تضعه أمام محراث المشكلات، لكنه قال لنفسه: "أحسن حاجة ممكن أوصلها أبقى موظف بمرتب 3000 جنيه في الشهر"، مبلغ لم يكن مرضيًا بالنسبة لصالح الذي قارنه بمتوسط دخل مقاولي الأنفار، فوجده بين 10 و15 ألف جنيه شهريًا.

لا يرى صالح الذي اختار أن يعمل مقاولًا أنه المستفيد الوحيد في القرية من المشروع، "المشروع عمل حركة في البلد.. اللي عنده عربية شغلها اللي عنده جرار شغله، واللي اشتغل أمن واللي اشتغل عامل واللي رجع من بره على حس المشروع".

أما عن تفاصيل عمله، فهو يعرف نفسه بـ"مقاول من الباطن"، فأغلب الشركات في الحقل الشمسي تكون أجنبية، وأحد شروط البنك الدولي للاستثمار في المشروع هو استعانة الشركات الأجنبية بأخرى مصرية في جلب العمالة، فتعتمد الشركات المصرية على مقاولين من الباطن، ليحضروا العمالة، ويتولوا مسؤولية تأمينهم الصحي، ووجباتهم ويومياتهم، ومعداتهم، وغيرها.

يعترف أن نظام العمل ذلك يؤثر في يومية العمال التي قدرها البنك الدولي بحوالي 1200 جنيه، بينما تتراوح بعد كل هذه الوساطات بين 120 و200 جنيه، بسبب العمولات التي تحصل عليها كل شركة، ثم هو. لكنه يواجه مشكلات من نوع آخر "أكبر مشاكل بتقابلنا إنه شركة توقف الشغل وتؤخر مستحقاتنا وتجيب مقاول تاني أرخص"، فيقف هو في مهب الريح بين معركة الحفاظ على مكانه، والحصول على حق عماله، لكنه دائمًا لا يضيع هذه الفرصة، ويستمر.

سماهر

أسوان

فتاة عشرينية، سمراء البشرة، تستوقف أحد العمال في موقع المحطة بالصحراء؛ تسأله عن بطاقة بياناته: فين الـIDبتاعك؟

فلا يجيب، يكاد يتركها ويغادر، تستوقفه مرة أخرى، تصر على أن تخرج منه بإجابة، ليس عن سؤالها الأول، ولكن عن سبب عدم رده عليها: "إزاي واحدة ست تسألني؟ هاتولي مهندس وأنا أجاوبه".

كان في وسعها أن تنهي مقابلتها معه في التو واللحظة، وتتحدث مع عامل آخر، لكن وظيفتها كممثل لـ"المقاول العام" بالمشروع تحتم عليها الاحتكاك بجميع العمال "جزء من شغلي إن أنا أنزل أعمل مقابلات مع العمال عشان أتاكد إنهم بياخدوا المرتبات بتاعتهم في المعاد، وإنهم ماعندهمش مشاكل في المواصلات، أو الإقامة، أو الوجبات".

إذن، عليها أن تنتظر، وتنجح في إقناعه أن يتحدث إليها. كيف استطاعت "سماهر"، المهندسة الزراعية سابقًا، أن تتعامل مع هذا الموقف وغيره من المصاعب التي تواجهها كمقاول؟

أدوار المقاولين

دور شركات المقاولات حسب اشتراطات البنك الدولي:

توفير الإمدادات الغذائية والطعام والتنظيف

توفير خدمات النقل والشحن والتخزين في المشروع

توفير الوقود والمعدات وأفراد الأمن والأجهزة الإلكترونية وملابس العمل والإقامة.

توفير مواد البناء وملحقاتها وأدوات الصيانة الهندسية.

رفيدة

النوبة

العمل على الأرض ليس سهلًا، عرفت رفيدة عبد المنعم ذلك منذ انضمامها لمشروع بنبان يونيو الماضي، حين سمعت المهندسة المقيمة في النوبة بالمشروع لم تتردد "أهلي دعموني من أول يوم.. مظنش كنت هحتاج حاجة تاني".

تعمل رفيدة مهندسة كهرباء داخل الموقع، توجه العُمال، وتساعدهم أحيانًا "بس ده مش سهل.. مش كل الناس متقبلة إن بنت تشتغل على الأرض"، تتعامل الشابة بشخصيات مختلفة، تبعًا لظروف العمل التي لا تخلو من طقس مُرهق وضغوطات أخرى بمواعيد تسليم الموقع.

رغم كل شيء، جعلت التجربة من رفيدة شخصًا أفضل "اتعلمت حاجات كتيرة في الشغل.. كفاية إني بشتغل في مشروع ضخم للطاقة"، فيما باتت الشابة "أكثر صلابة" على حد قولها "وبعد كده هقدر أشتغل في أي حاجة بدون قلق".

خوذة وقفاز

نوفمبر الماضي، بدأ أحمد شفيق عمله في المشروع، مدير السلامة والصحة المهنية في شركة سكاتيك سولار. مشوار طويل امتد لعشر سنوات، تعامل فيه مع عدد كبير من العُمال، محاولا تقليل الإصابات قدر المستطاع من خلال التوجيه والتدريب.

داخل مشروع بنبان ثمة شروط واضحة يعرفها العمال؛ تبدأ بارتداء الخوذة والقفازات، وتنتهي بسلوكيات لا يحيدون عنها "يعني مثلا مينفعش العامل يسيب سلك في الأرض أو يشرب سيجارة جنب الشاشات"، لذا يوجد مناطق استراحة كثيرة "بالإضافة لمهندسي السلامة الموزعين في الموقع وممكن العمال يسألوهم".

تدريب العمال على إجراءات السلامة ليس بسيطًا "بعضهم للأسف بيبقى شايف إنه طالما محصلوش مشكلة قبل كده يبقى ماشي صح"، يحاول شفيق ومن معه تغيير تلك النظرة "ساعات بنضطر نحكيلهم أو نوريهم صور حوادث موت أسبابها بسيطة".

التحفيز أيضا وسيلة شفيق للسلامة "أما بندي شهادات للعمال إنهم خدوا تدريب ده بيفيد بعد كده"، حيث تتم الاستعانة بهم في مشاريع أخرى تخص الشركة أو غيرها، أما هو فأكثر ما يُسعده "إن ميحصلش إصابات في موقع شركتنا"، يتحدث بفخر عن إنجاز الشركة أكثر من مليون و300 ألف ساعة عمل داخل بنبان إلى الآن، دون إصابة واحدة.

في موقع العمل، ثمة أساسيات ينصاع لها العاملون والزائرون، يسردها المهندس أحمد حسن "منها أن العربية لازم تمشي ببطء شديد.. ممنوع التدخين تماما.. ممنوع سماعات الودان"، بالإضافة لذلك، يقوم حسن بتدريب العمال على التعامل أُثناء الحرائق والإصابات "فيه مسعفين متوزعين على الموقع"، حيث يتعين على العامل الإبلاغ عن مكانه، وحالة المُصاب "ولو فيه حريق بنتجمع عند نقطة معينة ومش بنسيبها إلا لما مسئولي السلامة يطلبوا ده".