في صباح غائم من أواخر يونيو 2018، اقتحم ثمانية مسلحين من أقارب " صبري ص." منزله بمحافظة قنا، انتزعوه من فراشه رغم مرضه، واقتادوه إلى أرضه الزراعية حيث كانت زوجته تيسير تعمل مع طفليها.

صرخت الزوجة فور رؤيتها "المسحول": "سيبوه.. دا تعبان" لكن توسلاتها لم تشفع. جروها من شعرها أمام عيني طفليها، وحين ركض " حمدي" خلفها، أمسكه عمه، قيده، وأجبره على المشاهدة، بينما انكمش شقيقه الأصغر - الذي يعاني من إعاقة حركية- وسط زراعات القصب، يتوارى خوفًا.

وساقوا الجميع إلى حافة مسقى الري وسط زراعات القصب؛ لتنهي طلقات الرصاص حياة الأب والأم، وتُطفئ صراخ تيسير، ومقاومة صبري، وركض حمدي، وتزيد من رعب وصدمة الطفل الأصغر.

جريمة قتل صبري وتيسير جاءت تنفيذًا لـ"حكم عرفي" بمعاقبة رب الأسرة على زواج ابنته الكبرى "رحمة" من خارج قبيلة هوارة، التي تعتبر عائلته رافدا من روافدها الممتدة إلى 14 عائلة.



لم يكن صبري وتيسير الضحيتين الوحيدين. تكرر المشهد بعد شهور في مركز البلينا بمحافظة سوهاج، عندما رفض أحمد، والد "فوزية"، الانصياع لضغوط أقاربه، وأصر على خطبة ابنته لشاب من خارج قبيلته.

لكن اقتحام منزله وإطلاق النار انتهى بمقتل أحد المهاجمين برصاصة طائشة. لتتبدل الأدوار، ويُتهم الأب بالقتل، ويُزج به في السجن.

منع باسم "الشرف" و"حماية الدم"

ما جرى مع أسرتي صبري وأحمد ليس سوى حلقتين في سلسلة جرائم تتكرر داخل مجتمعات قبلية في مصر، حيث تمنع الأعراف القبلية بعض العائلات من تزويج بناتها خارج العائلة أو القبيلة، تحت ذرائع "الشرف" و"نقاء الدم"، وهو ما يؤدي إلى اتساع دائرة العنف والثأر، وارتفاع معدلات الجرائم ضد النساء، وتقييد حريتهن في اختيار شريكهن، إلى جانب انتشار الطلاق والعنوسة، وزيادة الأمراض الوراثية المرتبطة بزواج الأقارب.



اعتبر شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب، هذه الظاهرة التي تفاقمت في محافظات الصعيد امتدادًا لممارسات "وأد البنات"، التي عرفها العرب في الجاهلية، لكنها عادت اليوم بأشكال أكثر هدوءًا.. وأشد فتكًا.

بينما يراها كبار العائلات والقبائل غير مخالفة للدين، بل هي وسيلة للحفاظ على النسل والنسب وحماية الفتيات من الزواج بأشخاص قد لا يكونون على قدر من المسؤولية والاحترام، كما يقول الصحفي أسامة الهواري، عضو مجلس الشيوخ السابق عن محافظة قنا في تصريحات إعلامية سابقة.




تعود جذور هذه الأعراف والعادات إلى هجرة القبائل العربية إلى مصر مع دخول الإسلام في القرن السابع الميلادي، وكان أبرزها عائلات من قبائل هوارة، والأشراف، والعرب، والعبابدة، والجعافرة. ورغم مرور قرون، ما زالت هذه التقاليد راسخة في أغلب المجتمعات القبلية، وتؤثر في قرارات أفرادها وعلاقاتهم الاجتماعية والأسرية.

وبسبب هذا الأثر، أعلن شيخ الأزهر استعداد المؤسسة الدينية الأكبر في مصر، لدعم أي تحرك مجتمعي يستهدف كسر هذه الدوائر المغلقة، والمشاركة في جهود التوعية التي تساهم في رفع القهر عن الفتيات، كما وصفه بيان الأزهر الشريف.

لكن على أرض الواقع كان تطبيق ذلك مرهونا بموافقة كبار العائلات والقبائل الذين يعتبرون أنفسهم حراسا لتلك العادات والتقاليد، هو ما لم يتحقق، كما يروي أحد كبار قبيلة هوارة، الذي يعتبر أحد الأصوات القليلة المطالبة بإلغاء تلك العادات التي تُجبر المرأة على الارتباط بشخص لم تختاره ليكون شريكا.

ويختلف التمسك بهذه العادات والتقاليد من عائلة أو قبيلة إلى أخرى، وفق تأكيد أسامة الهواري، عضو مجلس الشيوخ السابق، خلال لقاء إعلامي سابق، أن بعض العائلات المنتمية لقبيلة الهوارة تعتبر زواج الفتيات من خارج العائلة من "المحرّمات"، مشيرًا إلى أن مخالفة هذه العادات قد تصل عقوبتها إلى القتل، وأن هناك وقائع بالفعل شهدت جرائم قتل لفتيات بسبب ذلك.

قبل ثمانية أشهر من مقتل صبري وزوجته تيسير، طرق بابهم شاب من خارج القبيلة طالبًا يد ابنتهما الكبرى "رحمة". رآه الأب مناسبًا وارتاحت له الأم، لكن كليهما أدرك أن القرار ليس بأيديهما؛ فالقبيلة تعتبر زواج الفتيات من الغرباء خطيئة لا تُغتفر.

صبري وزوجته ينتميان لكبرى عائلات هوارة، ويعلمان تمامًا أن القواعد غير المكتوبة للقبيلة ترفض تزويج بناتها من خارج النسب؛ لذلك ترددا في إبداء رأيهما في العريس.



لكن أمام محاولات العريس المتكررة، وإيماءات ابنتهما "رحمة" التي تبدي رغبتها في هذا الزواج، بدأ جدار العادات الصلب يتصدّع لدى الوالدين. وبعد نقاشات وتفاهمات، وافق صبري بشرط أن يتم كل شيء في سرية، دون علم الأقارب وبعيدا عن أعين أهل البلدة.

وهو ما تقبلته أسرة العريس وحرصت عليه، وبناء على ذلك تعامل الطرفان بحذر، حتى تم عقد القران، وانتقلت "رحمة" إلى منزل زوجها في محافظة أخرى من محافظات الصعيد.



لكن الغياب المفاجئ لـ"رحمة" لم يمر مرور الكرام.. بدأت التساؤلات، وزادت الشكوك حول زواجها، وتوالت استفسارات الأقارب والأهل على صبري وزوجته تيسير: "أين رحمة؟ لا يراها أحد؛ هي تزوجت؟".

في البداية، حاول الوالدان التهرب من الإجابات، لكن الضغط عليها، كان يزداد يومًا بعد آخر، حتى شعر الأب أنه لا مفر من قول الحقيقة. ليقرر الأب مواجهة ضغوط كبار العائلة: "أيوه.. جوزتها على سنة الله ورسوله".

بينما أحمد والد "فوزية" كان أكثر جرأة من صبري والد "رحمة"، فرغم هواجس الأب من المواجهة مع العائلة، قرر منح ابنته حقها في الزواج ممن يَراه وتَراه هي مُناسبا لها. عندما تقدم لها شاب ذو خلق وحسن السمعة من قرية مجاورة، وافق على ارتباطه بها. ودفع الأب الذي يعول أسرة تتكون من 6 أبناء (3 أولاد و3 بنات)، لاتخاذ قراره غير المعتاد، الهاجس الذي كان يعيشه بأن قطار الزواج قد يفوت بناته، دون أن يطرق بابهن أحد من شباب العائلة، كحال أخريات غيرهن من بنات العائلة.

عنوسة بأمر القبيلة

ياسمين ذات الـ 34 عاما، واحدة من بنات القبائل التي تصنفها تقارير الإحصاء الحكومية "عانس" لتجاوزها سن الثلاثين عاما دون جواز، ورغم ذلك يرفض والدها زواجها من "رمضان" الشاب الذي تقدم لها وأصر على الارتباط بها رغم ما أكدته له ياسمين: "ممنوع نتجوز من خارج العائلة"، لكن بعد محاولات نجح في كسر الحواجز بينهما.

تقول ياسمين عن علاقتها برمضان: شعرت معه لأول مرة بالحب والحنان، وأخبرته باستعدادي لمواجهة التقاليد. وفي مرحلة تمهيدية تفاديا لأي صدام متوقع، اصطحبت ياسمين والدها إلى محل عملها، عرفته على "رمضان". كان لقاء حميميا وبعد أيام تقدم لخطبتها، لكن رد والدها كان قاسيًا وصادمًا: "مفيش بنات عندنا تتجوز بره العيلة".

لم تستسلم ياسمين، بعد محاولات طويلة، وافق والدها على خطوبتها من رمضان. شعرت ياسمين أن الحلم قد يتحقق، لكنه لم يدم طويلًا. بعد ستة أشهر. فجأة تراجع الأب عن موقفه. عرفت ياسمين بعد ذلك أن أحد أفراد العائلة تحدث مع والدها عن موافقته زواجها بشاب من خارجها.

لجأت ياسمين إلى بعض المقربين من والدها لإقناعه، وتدخل أحد أبناء عمومتها على غير المتوقع والمعهود محاولا اقناع والدها، بقوله: "مفيش حد هيتجوز بنتك من العيلة سيبها تتجوز"، وأيده ثلاثة آخرون من العائلة. هو ما اعتبرته ياسمين بمثابة موافقة ضمنية وغير مباشرة على تجاوز العادات، لكن والدها رفض ومنعها من الخروج من المنزل أو التحدث مع " رمضان ".

ياسمين ليست وحدها التي فاتها سن الزواج بسبب عادات وتقاليد قبليتها؛ إذ كشف استبيان مع 85 فتاة وسيدة من القبائل، أن 15 فاتهن سن الزواج، و12 تزوجن بالإكراه، بينما أرجعت الغالبية السبب إلى سلطة القانون العرفي الذي تفرضه العائلة.



عائلات هوارة تأنف أن تناسب عائلات أخرى، يقول أحد كبار هوارة الذي يؤكد أنه تلقى استغاثات من بنات تخطين سن الأربعين، والخامسة والأربعين عاما ولم يتزوجن بسبب منع زواجهن من خارج النسب.

في عام 2009، أُعلِن عن عقد مؤتمر في مدينة أبو تشت بمحافظة قنا، للتوعية بمخاطر منع زواج الفتيات من خارج العائلة أو القبيلة. يقول أحد كبار هوارة، الذي كان أحد المنظمين: استهدفنا من هذه الفاعلية حث الناس على الموافقة على تزويج بناتهم خارج العائلة أو القبيلة، كان هناك دعم حكومي ورسمي. لكن مكان المؤتمر تعرض لهجوم قبل دقائق من انطلاقه

محاولة أخرى للتصدي لهذه الظاهرة التي تنتشر بشراسة، كما يصفها بيان الأزهر؛ كانت خلال لقاء جمع شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب مع رئيس جامعة سوهاج الدكتور حسان النعماني، ووفدًا من عمداء الكليات والأساتذة والطلاب من جامعات الصعيد.

وطالب خلال هذه اللقاء شيخ الأزهر بتنسيق الجهود مع المؤسسات التعليمية والإعلامية والدينية لمواجهة هذه الانتهاكات وتغيير الثقافة السائدة، والتأثير على الأسرة من الداخل، وتشجيعها على التحرر من قيود العادات القبلية التي حطمت مصير آلاف الفتيات.

قرار "أحمد" والد فوزية بتجاهل العادات والتقاليد التي تحكم العائلة، كانت سببا في حمايتها من العنوسة، التي تعاني منها عشرات من بنات عمومتها في صمت، ولا تستطيع أي منهن التحدث عن معاناتها، وحرمانها من أن تكون زوجة وأمًا ورَبّة بيت.

مقابل هذه الحماية التي وفرها الأب "أحمد" لابنته "فوزية"، بدأت التهديدات تنهال عليه بعد خطوبة ابنته. ففي صباح اليوم التالي للاحتفال، تلقى الأب تهديدات من كبار العائلة بسبب رفضه فسخ خطوبة ابنته، وهو ما لم يستجيب له الأب؛ ليحاصر أفراد من العائلة منزل "أحمد" بالسلاح ويطلقون الأعيرة النارية بشكل عشوائي في محاولة لترهيبه وإجباره على التراجع، لكن القدر كان له رأي آخر؛ إحدى الرصاصات أصابت أحد المقتحمين عن طريق الخطأ وأسقطته قتيلًا.

ألقت قوات الأمن القبض على "أحمد" وسجن على ذمة القضية، بعد اتهامه من أبناء عمومته بقتل شقيق أحدهم؛ انتقاما منه لمخالفته القوانين العرفية التي تحكم القبيلة.



"انتحار" ياسمين يفشل.. والرفض مستمر

مأساة مختلفة عاشتها ياسمين، بعدما أصر والدها على رفض زواجها؛ فقدت الأمل فحاولت إنهاء حياتها بتناول أقراص دوائية (نتحفظ على ذكر اسمها)، ونقلت على إثرها إلى قسم الطوارئ بمستشفى أبو تيشت في قنا بين الحياة والموت.

بعد تعافي ياسمين من محاولة الانتحار في قسم الطوارئ بمستشفى أبو تيشت، استجوبتها النيابة العامة لمعرفة دوافع انتحارها، لكنها رفضت التحدث عن الأسباب، قائلة: "مش عايزة أعرض أبويا للمسألة".

في محاولة أخيرة للضغط على والدها؛ أخبرت ياسمين والدها بعد تعافيها: "أنا ورمضان اتجوزنا عرفي وكتبنا عقد الزواج". اندفع أبوها نحوها ممسكًا بسكين محاولا قتلها، لكن زوجة شقيقها كانت حاجزا بينهما.

بعد ساعات من التعذيب والتعنيف، هدأ الأب وأدرك أنه لابد من إقناع رمضان بتسليمه عقد الزواج، لكن ياسمين رفضت: "مش هتجوز غيره".



ضغوط القبيلة تتمدد

قدسية العادات والتقاليد في هذه المجتمعات القبلية لا تقف عند حدود العائلة أو القبيلة ذاتها، بل تمتد ضغوطها وتهديداتها لخارجها لضمان منع أي تجاوز لها. وهو ما حدث مع صفاء، ابنة قبيلة هوارة، حين تقدم محسن، الذي لا ينتمي للقبيلة، لخطبتها. ووافق والدها بعد محاولات متكررة، وبدأ يفكر في كيفية تحقيق حلم ابنته بالزواج دون أن يصطدم بالعائلة.

اتفق الأب مع مأذون من قرية مجاورة على عقد قران ابنته، بعيدًا عن أنظار الأهل والأصدقاء، بدلًا من أن يحترم المأذون خصوصية الأسرة، ادعى نقص الأوراق، مطالبًا بتأجيل الزواج ليوم آخر، وبعد انصرافهم تواصل مع أحد أفراد عائلة "صفاء"، وأبلغهم بالأمر.

وعند مواجهة معد التحقيق للمأذون بخطورة ما ارتكبه، كان رده: "عاداتنا تمنع زواج البنات خارج النسب، وزواج (صفاء) هيفتح مشاكل صعب تتقفل.. وأهلها كانوا هيلوموا عليا إزاي أعقد قران من غير ما أعرفهم".

ثار كبار عائلة "صفاء" بعد معرفتهم بما فعله والدها، وتجمعوا أمام منزل الأسرة وأمطروه بتهديدات لا تنتهي. أنكر الأب كل شيء، وبعد أيام بمجرد هدوء الأمر، نقل إقامة ابنته "صفاء" إلى مدينة مجاورة بعيدا عن قريته والقرى المجاورة لإتمام زواجها بدون تهديد، وتمكن الأب من عقد قران صفاء على محسن، لكن سرعان ما انكشف أمرهما.

بعد ساعات من مقتل صبري وزوجته تيسير، تمكنت أجهزة الأمن من ضبط اثنين من المتهمين، لتصدر بحق الجناة أحكام قضائية متباينة (حضوريا وغيابيا)، كان أبرزها الإعدام شنقًا لاثنين منهم، وأحكام بالسجن لمدد متفاوتة لباقي المتهمين.

أما رحمة، فدفعت الثمن مرتين؛ مرةً حين فقدت والديها بسبب زواجها، ومرةً أخرى حين كبّلتها العائلة بقيود العزلة، فقطعت صلتها بشقيقيها وأجبرتهما على مقاطعتها.

ورفضت محكمة النقض الطعن الذي تقدم به المتهمون في نوفمبر الماضي، لتُغلق بذلك أبواب الاستئناف القانوني، هو ما دفع رجال العائلة إلى البحث عن حلول أخرى خارج أروقة المحاكم.

بينما برأت المحكمة "أحمد" من جريمة قتل أحد الذين حاولوا اقتحام بيته، بعدما أثبت تقرير الطب الشرعي أن الرصاصة جاءت من الخلف وأُطلقَت من بندقية أحد المهاجمين، وهو دليل على أن القتيل لقي حتفه برصاصة أحد رفاقه.









أصر "أحمد" بعد خروجه من السجن وبراءته من جريمة القتل على إتمام زواج ابنته "فوزية" بعيد عن الأنظار، زُفت العروس إلى عريسها في حفل متواضع بإحدى القرى المجاورة، دون أن يعلم أحد.

بعد زواج "فوزية"، عاد "أحمد" إلى عمله خارج مصر بإحدى الدول الخليجية، واستقر ابنه الأكبر "محمد" في القاهرة للدراسة، حيث كان يدرس في كلية الهندسة، بجانب عمله في تجارة العقارات، تاركين القرية بكل ما فيها من صراعات، ظانين أن بُعدهم سيمنحهم الأمان.





"فرحة" لا تكتمل.. طلاق بالإجبار

عرفت عائلة "صفاء" بأمر زواجها بـ"محسن" الذي لا ينتمي لقبيلتها، عندما طلب أحدهم من مأذون القرية الاستعلام عنها في سجلات الأحوال المدنية، ليعود المأذون ويكشف الزواج.



حاول أفراد العائلة الضغط على والد صفاء لإقناعه بتطليقها، دون جدوى. وعند فشلهم، توجهوا للضغط على عائلة زوجها "محسن"، حتى أجبروه على الانفصال عن صفاء، وبعد طلاقها بدأت ضغوط من نوع آخر على "صفاء" لإجبارها على الزواج من ابن عمها.

تتباين طرق التعامل مع من يخالف التقاليد والعادات من حالة إلى أخرى؛ فبينما دفع صبري وزوجته تيسير حياتهما ثمنًا لزواج ابنتهما، لجأت عائلة صفاء إلى الضغط على عائلة عريسها لإجباره على تطليقها، بعد فشلهم في إرغام والدها على ذلك، كونه أحد كبار العائلة. وتختلف الممارسات تبعًا لمكانة الشخص داخل القبيلة، إذ يحظى أصحاب النفوذ بقدر من الاستثناء من هذه القواعد.







تطبيق انتقائي.. الفقير يعاقب والقوي ينفد

"العادات دي مش بتُطبق على الكل، مفيش غير الغلبان اللي بيتطبق عليه الكلام دا، لكن لو حد قوي محدش يقدر يتكلم معاه".. تروي "سهام أ." ، إحدى بنات قبيلة هوارة، التي مُنعِت من الزواج رغم تقدم أكثر من شاب لخطبتها، بسبب خشية والدها من رد فعل العائلة، معتبرة نفسها ضحية لهذه العادات التي تطبق بصرامة على الأضعف اجتماعيًا، بينما يتم التغاضي عنها مع أصحاب المكانة كما تسميهم.

تدلل سهام على صحة ما تقوله بواقعة زواج ابنة أحد القيادات البارزة في القبيلة، من دبلوماسي من خارج القبيلة، دون أن يواجه اعتراضًا يذكر.

الدكتور مصطفى أبوعايد، عضو اتحاد قبائل هوارة يرى أن الواقعة التي ذكرتها سهام تكشف ازدواجية وانتقائية في محاسبة من يخالف العادات والتقاليد، موضحًا أن رد فعل اللواء الذي تزوجت ابنته من سفير عندما واجهه بالأمر غضب وانفعل عليه، ولم يملك أحد من العائلة الجرأة لمطالبته بتطبيق العادات والتقاليد.


إعاقات.. ثمرة العادات

لم تكن مأساة سهام الوحيدة داخل عائلتها؛ فشقيقتها الكبرى تزوجت عام 1993 من ابن عمها دون أي فحص طبي، باعتبار أن زواج الأقارب ضمانة لصون "الدم والاسم"، وأن "نقاء النسب" مُقدما على سلامة الأبناء. بعد سنوات، وُلد لها ثلاثة أبناء يعانون إعاقات حركية وذهنية.

وبعد عقدين، تكررت المعاناة في عائلة أخرى.. شرين وعبدالقادر، أبناء خالة، تزوجا عام 2011. أنجبا طفلين مصابين بمرض جلدي وراثي نادر. الأطباء أكدوا أن السبب المباشر هو زواج الأقارب، موضحين أن المرض ينتقل أساسًا للذكور، فيما تبقى الإناث حاملات له دون ظهور أعراض.

أكدت الدكتورة نانيس عبد المحسن، مدير عام الإدارة العامة للحد من الأمراض الوراثية والإعاقة بوزارة الصحة، إن زواج الأقارب هو السبب الرئيسي لانتشار الأمراض الوراثية بين الأطفال، موضحة أن ذلك يحدث بسبب احتمال حمل الطرفين لنفس الجين المريض، مما يؤدي لانتقاله إلى الأبناء وظهور المرض.







فصل جديد من المعاناة عاشتها "رحمة" ابنة صبري وتيسير، التي أصبحت أما لطفلين، عندما طالبت بحقها في الميراث (المنزل والأرض الزراعية التي تركها والدها)، ورفض أعمامها منحها حقها، ما دفعها إلى اللجوء لوسطاء من أعيان قريتها وبعض مشايخ الأزهر في قنا، ليتفق الجميع على عقد جلسة عرفية لبحث المشكلة وعدم تصعيدها.

ووافق أعمامها على منحها حقها في الأرض دون المنزل مقابل التصالح كمحاولة منهم للإفراج عن أبناء عمومتها الذين قتلوا والديها.



المعاناة.. صفحات لا تغلق"

التطورات التي شهدتها أسرة أحمد كانت أكثر مأساوية، فلم يتوقف كبار عائلته عن مراقبة أفراد الأسرة، وحرضوا فتاة لاستدراج ابنه الأكبر محمد، حيث أقنعته برغبتها في شراء شقة بالقاهرة كان يروج لبيعها على حساباته على منصات التواصل الاجتماعي، وذهب لمقابلة الفتاة دون أن يشك أنه مجرد طعم للإيقاع به.

في الزمان المُحدد، التقى الشاب الفتاة لعرض الشقة، بينما المحرضون يختبئون بالقرب منهما. هاجموه، قتلوه بوحشية وتركوا جسده في الحديقة، وهربوا صحبة الفتاة التي سقط منها هاتفها بالقرب من الجثمان دون أن تدري، وكان بمثابة الخيط الذي قاد الشرطة لكشف لغز الجريمة.

لم يكتفِ الجناة بارتكاب جريمة القتل، بل أطلقوا الأعيرة النارية بكثافة في مُحيط مسكن "أحمد" بقريتهم التابعة لمركز البلينا في سوهاج؛ احتفالا بالثأر، قبل أن تلقي الشرطة القبض على عدد منهم.

تدخل وجهاء العائلات في قريتي صبري وتيسير بقنا وأحمد بسوهاج لاحتواء الصراع الممتد بين الأطراف المتنازعة، حيث انتهت الجلسات العرفية بتعهد أسرة المتهمين بعدم التعرض لأبناء صبري وتيسير، وتقديم التماس لرئاسة الجمهورية لتخفيف عقوبات قتلة الأب والأم. بينما رفض أحمد التنازل عن قضية مقتل ابنه، مُبديا رغبته الصلح لإيقاف الدم وترك العدالة تأخذ مجراها، وهو ما اعتبرته العائلة تحديًا جديدًا.

في المقابل، ما تزال معاناة الفتيات مستمرة؛ ياسمين تجاوزت الرابعة والثلاثين دون زواج رغم تمسك خطيبها بها، وتراهن على عودة شقيقها من الخارج لإقناع والدها، كما انتهى زواج محسن وصفاء بالطلاق الإجباري، فسافر الأول إلى السعودية، بينما أُجبرت الثانية على الزواج من ابن عمها رغم رفضها.

في وقت لم تحقق مبادرات الأزهر الشريف والجهود الأهلية والإجراءات الحكومية أي نتائج ملموسة، لتظل قضايا القسر والمنع تحت شعار "الشرف" شكلًا جديدًا من الوأد، كما وصفه بيان الأزهر الشريف: "وأد معنوي واجتماعي".






لسماع النسخة الصوتية من التحقيق اضغط هنا

* (ياسمين - فوزية - أحمد - رحمة - صفاء - محسن) أسماء مستعارة؛ حفاظا على خصوصيتهم وسلامتهم

تحقيق: سامح غيث
رسوم: سحر عيسي
جرافيك: مايكل عادل
مونتاج: أحمد خالد
فيديوجراف: مينا ماجد
تنفيذ: مصطفى عثمان