أيام كورونا في النجيلة

قصة أول مستشفى عزل بالشرق الأوسط

في يوم وليلة، كان مستشفى النجيلة محط أنظار المصريين؛ يسمع بعضهم -ربما للمرة الأولى عنه- حينما كانت مصر تستعيد مواطنيها من مدينة ووهان الصينية (بؤرة انتشار فيروس كورونا المستجد "كوفيد-19") أول فبراير الماضي، ليجري تخصيص المستشفى الواقع غربيَّ مصر ليكون أول مستشفى عزل بالبلاد والشرق الأوسط وحتى في القارة الأفريقية بأكملها.

ومنذ ظهور الحالة الأولى للفيروس منتصف فبراير، وصولًا للموجة الثانية للجائحة، ضمّ جدران المستشفى كثيرا من الحكايات، عن أيام الخوف والفزع، وعن لحظات الفقد والرحيل، وعن ساعات الأمل والشفاء، وعن كثير من التضحيات التي لا تزال حيّة في أعين أصحابها.

طريقنا إلى مستشفى النجيلة لم يكن سهلًا وهو الذي يبعد عن القاهرة نحو 512 كيلومترا، تلك هي المسافة التي قطعتها سيارات الإسعاف الصاخبة بإنذاراتها، لتنقل الحالات الأولى إلى هناك، ويبدأ رحلته مع "العزل"، لنتتبع لاحقًا- ومن داخل المستشفى- قصص هؤلاء الذين كانوا على خط الدفاع الأول عن حياة المصريين.

رحلة مستشفى النجيلة

↩ 2 فبراير 2020

تحويل المستشفى لعزل إصابات كورونا

↩ 15 يناير 2018

افتتاح مستشفى النجيلة


↩ 9 أغسطس 2020

عودة عزل كورونا استعدادًا للموجة الثانية

↩ 27 يونيو 2020

إنهاء العزل داخل المستشفى

↩ 14 فبراير 2020

استقبال أول حالة إصابة بكورونا


من أول حالة كورونا إلى الموجة الثانية..

طوارئ "أبوطالب" مستمرة

كغيره من سواد العاملين في مستشفى النجيلة المركزي، لم يدر في خلد الدكتور محمد طالب أن يتحول بين عشية وضحاها إلى طبيب عزل في منشأة محكمة الغلق على من فيها، دون إجازات، أو خروج بين الحين والآخر، أو تكون لديه مساحة الوقت التي اعتاد عليها للاسترخاء بعد يوم عمل طويل.

يوضح "أبوطالب"، مدير المستشفى حاليًا، أنه تم اختيار "النجيلة" ليكون أول مستشفى عزل في مصر؛ نظرًا لموقعه الجغرافي المتميّز والهادئ، والجو البيئي المناسب، ومن ثمّ جرى تجهيزه بشكل عاجل في غضون 48 ساعة فقط "كانت خلية نحل بالمعنى الحرفي.. المستشفى بقى حاجة تانية تمامًا، أضافوا 49 سرير رعاية مركزة، و52 جهاز تنفس صناعي لتكون تلك القوة الاستيعابية في النهاية"، ولم يلبث الأمر حتى جرى استدعاء مجموعة من أكفأ الأطباء بجانب أطقم تمريض متنوعة، ودمجهم مع بعض أطباء وتمريض المستشفى القائمين على رأس العمل.

يتذكر "أبوطالب" أولى حالات الاشتباه في إصابتها بكورونا والتي استقبلوها من بين المصريين العائدين من ووهان وكيف كان حال الفريق الطبي حينها "كان فيه حذر ورعب بالتأكيد. كنا نواجه حاجة مجهولة على مستوى العالم، وكله مأمّن نفسه ولابس البدلة الواقية الكاملة والماسكات والجوانات"، ومضت تلك الأيام على قلقلها حتى استقر خوفهم بفض الحجر الصحي بلا إصابات "قلنا الحمد لله مفيش كورونا هتجيلنا المستشفى".

حددت إدارة المستشفى إجازات العاملين، غادر الكثيرون إلى منازلهم، قبل أن يتلقى الدكتور محمد علي، مدير المستشفى حينها، إشارة (يوم 14 فبراير) بتحويل شخص أجنبي حامل للفيروس إلى النجيلة لعزله وعلاجه. عاد الارتباك قليلًا، ها هم أمام أول حالة مصابة بالفيروس على الأراضي المصرية، سيواجهون الشبح المجهول (حتى وقتها) وجهًا لوجه، كان خوفًا على خوف: "طبيعة النفس البشرية بتخاف من أي حاجة جديدة تواجهها فما بالك بفيروس بيقولوا إنه مميت وليس له بروتوكول علاج!"، يقولها "طالب" بينما تحدث إلينا من داخل إحدى غرف العزل وقت تطهير المستشفى وإخلاؤه من المصابين (منتصف يوليو الماضي)، ثم عودته من جديد في أغسطس لاستقبال الحالات الحرجة مع زيادة الإصابات بالموجة الثانية للجائحة.

120 يومًا متواصلة قضاها "أبوطالب" داخل مستشفى النجيلة، حين كان أول مستشفى في مصر والشرق الأوسط وأفريقيا مخصصًا لاستقبال حالات الاشتباه والإصابة بالفيروس، ويستكمل الرحلة حتى الآن. لم يغادر خندقه، ولم تستميله طلبات الأهل و"الخطيبة" لرؤيته، كان هدفه واضحًا، ومساره محددًا، بشفاء المصابين من المرضى وزملائه الذين أصيبوا لاحقًا، قبل أن تطأ قدمه أرض المدينة الهادئة "مرينا بتجارب كثيرة وتعلمنا كثيرًا على المستويين الطبي والإداري".

في خضم تلك الأيام اقترب "طالب" من مرضاه، رغم اختلاف جنسياتهم "جالنا صينيين وفرنسيين وإيطاليين وأمريكيين وفرنسيين، وكنا نتواصل معهم بالإنجليزية باستثناء بعض المرضى الفرنسيين الذين احتاجوا إلى سكرتيرية القنصل الفرنسي للمساعدة في الترجمة"، يتذكر بعضًا منهم ولا يزالون يتواصلون معه وباقي الفريق الطبي "بقوا متابعينا على فيسبوك، وبيبعتولنا رسائل، حتى إن أحد الأمريكان (مستر جي) يعمل مديرًا تنفيذيًا لشركة اتصالات وعدنا بالمساعدة في إصلاح الشبكة بالمستشفى".

لكن أكثر ما يؤلمه هي تلك اللحظة التي يُقرر فيها الأطباء وضع حالة على جهاز التنفس الصناعي وتركيب أنبوب حنجري لها "كنا عارفين إن نسبة وفاة المريض كبيرة، ودي كانت من ضمن الحاجات الغريبة للفيروس"، ليبدأوا التمهيد لأسرة الحالة بصعوبة وضعها الصحي "مكناش بنخبي حاجة عن أهل المريض وبنعرفهم أولًا بأول تفاصيل حالته".

في الوقت الراهن، يستقبل مستشفى النجيلة الحالات الأكثر خطورة المصابة بكورونا، يتم مداواتهم على أمل الشفاء، ومن خلفهم فريق طبي لا يزال فخورًا بعمله "العزل قوانا مضعفناش، اتعلمنا منه وخدنا خبرات طبية وإدارية كبيرة جدًا"، وفق ما يختتم به "طالب" حديثه.


السيد المحسناوي.. حكاية رجل "العزل والمرح"

لنحو 6 أسابيع ورغم انتشار وباء كورونا في موجته الأولى، ظلّت أسرة الممرض السيد المحسناوي تستقبل العزاء فيه بعد وفاته متأثرًا بإصابته بالفيروس أواخر أبريل الماضي، ليكون الأول بين الفريق الطبي بمستشفى النجيلة منذ دخوله العزل.

زوجته إلهام زكي، ترى حكاياته داخل النجيلة، كيف كان الرجل الذي وقف إلى جانب الجميع، وبكى عليه الجميع.


ممرضتان في العزل..

أصدقاء مواجهة الجائحة

في ممر طويل، كانت شيماء عبدالنبي إلى جوار صديقة دراستها وعملها شيماء سالم تتذكر تلك الليلة التي انقلب فيها مستشفى النجيلة رأسًا على عقب. إذ فجأة، طُلب إخلاؤه من المرضى، وهم من خلفهم دون أن يُذكر سبب واضح. هرول الجميع إذ كانت تعليمات الوزارة مُشددة في ذلك، بينما كانت وزيرة الصحة هالة زايد في زيارة إلى هناك دون أن تفصح عن أي تفاصيل.

تناثرت الأنباء هنا وهناك لعدة ساعات عن سيناريوهات مُحتملة للإخلاء، حتى جاء الخبر اليقين بتحويله إلى حجر صحي استعدادًا لعودة العالقين من معقل كورونا "ووهان" مطلع فبراير الماضي. لم تنم "عبدالنبي" تلك الليلة في ختام شهر يناير ذو الأجواء الباردة بتلك المدينة التي يعمها الهدوء في كل أيامها "الكلام كان كتير في المستشفى، وكانوا بيحولوا الحالات كلها وتم إخلاؤه بشكل كامل، واستقبلنا مهندسي صيانة الأجهزة وأضافوا أجهزة تنفس صناعي".

في صباح اليوم الأول من فبراير، غادرت شيماء النجيلة لقضاء إجازتها الدورية دون أن تضع في حسابانها ما سيؤول إليه المستشفى، الذي أصبح حجرًا صحياً كاملًا بينما كان العائدون من الصين في فندق مجاور، وهم في أهبة الاستعداد لاستقبال أي حالة في أي وقت. ظلت تتابع موقف المستشفى ومصيرها الجديد حتى حان لحظة عودتها فكان ضيفًا جديدًا داخله باستقبال أول حالة كورونا مؤكدة في مصر لشاب صيني منتصف فبراير.

في صباح اليوم الأول من فبراير، غادرت شيماء النجيلة لقضاء إجازتها الدورية دون أن تضع في حسابانها ما سيؤول إليه المستشفى، الذي أصبح حجرًا صحياً كاملًا بينما كان العائدون من الصين في فندق مجاور، وهم في أهبة الاستعداد لاستقبال أي حالة في أي وقت. ظلت تتابع موقف المستشفى ومصيرها الجديد حتى حان لحظة عودتها فكان ضيفًا جديدًا داخله باستقبال أول حالة كورونا مؤكدة في مصر لشاب صيني منتصف فبراير.

لم تخبر شيماء وزميلتها إلا فردا واحدا من أسرتيهما بوجودهما في عزل النجيلة "أول 15 يوما مكنش معرفة حد غير أمي"، وفق ما تقول عبدالنبي، فيما توضح "سالم" أنها لم تخبر أحدًا "مكنتش معرفة حد في الأول، حتى مرور أول إجازة أبلغتهم بالأمر، بعد أن هدأت الأمور نوعا ما"، مغزاهم في ذلك أن الكثير من الشائعات ترددت في تلك الأيام بأن "اللي بيجيله كورونا بيموت".

مضت الأيام الثقيلة في بداية رحلة عزل النجيلة على مهل، وكان أفضل ما فيها بحسب "سالم"، خروج الكثير من حالات التعافي بشكل سريع "الحالات تتحسن سريعا وكانت طاقة إيجابية، والخوف بدأ يروح"، حتى جاء وقت الإصابة بالفيروس، ليتنقل الثنائي من خانة المداوين لآلام المرضى إلى غرف المرضى أنفسهم "ظهرت إصابات بين الفريق الطبي وبالتالي كلنا عملنا تحاليل علشان نطمن، بدأ يظهر عندي أعراض خفيفة أقرب للبرد، والتحليل خرج إيجابي".

في تلك اللحظة كان الشعور مربكًا: "كنت مضايقة، محبوس في مكان وانت خايف تموت"، رفضت صديقتها شيماء عبدالنبي الحصول على إجازتها "قلت أكون جنبها وداعم لها"، فيما استقبلت نبأ إصابتها بالفيروس في اليوم التالي مباشرة "كنت بحضر أكل، ولما بلغوني قلتلهم هحضر الأكل وأنزل، مش هتبقى كورونا ومفيش أكل كمان"، تقولها ضاحكة.

ورغم ما في تلك الأيام من ضيق إلا أن وجود "عبدالنبي" و"سالم" مع بعضهما هوّن كثيرًا: "كنا بنعمل دعم نفسي لبعض، رغم الخنقة مش عارف تتحرك لكن الموضوع عدى وأصبحنا سلبي بعد حوالي 10 أيام"، وحينها كانتا أقرب إلى عدم العودة إلى العزل مرة أخرى والحصول على إجازة مفتوحة "إخدنا قرار إننا مش هنرجع بعد الإصابة"، لكنهما سرعان ما عدلا عنه "قلنا بعد ما خفينا إن المستشفى بتاعتنا مش مكان انتداب، والحل إننا نرجع تاني وكنا مطمنين إننا اتصبنا خلاص ورجعنا فعلا".

تقف شيماء عبدالنبي عند موقفها من تجربة دخول مستشفى عزل كورونا، ترى أنها الأكثر إثارة وقلقًا في حياتها "أكيد تجربة كويسة، ومظنش مريت بحاجة أصعب منها. أنت داخل مكان وعارف إنك ممكن تموت في أي وقت، لكن رحمة ربنا فوق كل حاجة".


قوة مستشفى النجيلة

12
سرير استقبال
52
جهاز تنفس صناعي
49
سرير رعاية مركزة
5
أسرّة بقسم النساء
24
سريرا داخليا
5
أسرّة عمليات

"130 يوم عزل".. مهمة خاصة لـ"مستر شلال"

لم يتوقع الممرض محمد شلال أن يمكث في مستشفى النجيلة كل هذا الوقت. 130 يومًا متواصلين قضاها بين جدران المستشفى، يداوي آلام المرضى، ويواجه "شبح كورونا"، ويخط بيده وعمله جهدًا في سجل تضحيات الفريق الطبي.

custom-preview

جهزوًا تابوتًا للموتى..

حكاية أهالي النجيلة مع المستشفى

كان الخوف يملأ شوارع "النجيلة" بمطروح مع تحول المستشفى المركزي بها إلى عزل صحي للمصابين بكورونا من جميع المحافظات في الأيام الأولى لانتشار الجائحة بمصر. ابتعد الأهالي عنه، وكانت التحذيرات للصبية بعدم الاقتراب، فيما كان الأمن يحوطه مع استمرار نقل الحالات صباح مساء، لتنفض المدينة الحدودية أيام الهدوء.

حينها، كان عيسى العميري يراقب الموقف من منزله المجاور للمستشفى، يطمئن باستمرار على أفراد طاقمها الطبي، ويقدم ما يشاءون من احتياجات، إلى جانب بعض المصابين: "الحالات بتيجي من مختلف البلاد بيحتاجوا هدوم أو أكل معين وبدأنا نساعدهم في توفير تلك الاحتياجات".

ظل "العميري" يقدم مساعداته إلى المستشفى على هذا النحو، حتى توفيت أول حالة داخل مستشفى النجيلة بكورونا، ومعها كان القلق مضاعفًا داخل المستشفى وخارجه، بالتزامن مع رفض أسرتها تسلمها. هاتفهم د. محمد علي (مدير المستشفى حينها) في محاولة لإقناعهم دون جدوى، قبل أن يضطر لتحرير محضر بقسم الشرطة بالواقعة، ليتدخل العميري محاولًا إقناع ابنها بتسهيل دفنها ومساعدته في ذلك.

تطلب الأمر إحضار "تابوت" لوضعها داخله ضمن الإجراءات الوقائية التي شددت عليها الوزارة عند دفن جثامين ضحايا الوباء، ليطلق العميري مبادرة لتجهيز "تابوت" للوفيات بمساعدة الأهالي "تبرعنا به وتكلفته كانت بين 600 إلى 700 جنيه. مدير المستشفى كان بيطلب بس تابوت والناس كانت بتوفره بالتواصل مع ورشة النجارة، وتتركه أمام المستشفى ويتسلمه العمال".

لم يقف "العميري" وبعض أهالي النجيلة عند هذا الحد، بل امتد الأمر لدعم العاملين بالمستشفى نفسياً في وقت كان صعبا على الجميع، من بالداخل أو الخارج "الأطباء ماكانوش عاوزين حاجة غير رفع روحهم المعنوية، وكانوا خايفين على الأهالي أكتر مننا"، ليبدأوا في نشر معلومات عن أفراد الطاقم الطبي وإبراز دورهم في مواجهة كورونا "تواصلنا مع الصفحات الكبيرة والإعلام لأن دا كان بيديهم طاقة لاستكمال المشوار وكان بالنسبة لهم حاجة حلوة نفسيا".

لا يزال العميري يتذكر الأيام الأولى التي مرت على المدينة حينما قررت وزارة الصحة تحويل مستشفى النجيلة لعزل صحي، حينها احتج الأهالي خوفا من ذلك "الفيروس الغامض والقاتل"، قبل أن يجري طمأنتهم، وتمر الأيام بخير، لتتحول لاحقا إلى عزل دائم للحالات الإيجابية، وتبدأ الوزارة إرسال المصابين إلى هناك "كان بييجي 8 سيارات إسعاف مرة واحدة والوضع كان يخوف الأسر شوية"، وإلى جانب ذلك فرضت الشطرة كردونًا أمنياً لمنع الأهالي من الاقتراب، ولحماية المصابين والعاملين.

ومع انخفاض أعداد الإصابات بالفيروس أواخر يونيو الماضي، قررت وزارة الصحة إنهاء العزل بالنجيلة في قرار أغضب أهالي المدينة، ليكشف العميري سر ذلك بالقول "مطروح مكنش فيها حالات في البداية وبالتالي كان بعض الأهالي مش حابين وجود العزل، لكن مع زيادة الحالات في مايو ويونيو قررت الوزارة إغلاقها، طب كنا نروح فين؟"، قبل أن تعود الوزارة مجددا لإعادة تخصيص النجيلة كعزل للمصابين استعدادا للموجة الثانية "هناك خبرة في التعامل مع الحالات حاليا، نخليها لما تعدي الأزمة وترجع لوضعها تاني".


العاملون في العزل

6
فني أشعة
9
فني معمل
52
ممرضًا/ممرضة
32
طبيبًا/طبيبة
12
عامل نظافة
1
عامل مغسلة
3
شيفات بالمطبخ
4
إداريين
الرجوع للرئيسية