سيوة

سيوة بين عيدين

يحب الناس الأطفال لأنهم يمثلون البراءة. طبع كل جديد؛ نقاء لم تمسسه شائبة، وطُهر لم يلوثه أحد. كذلك يهيم الناس في حب سيوة؛ تلك الواحة المبهجة، جمالها البكر يتجلى في كل تفصيلة، سماء صافية لا تعرف تلوث المدن، وجوه نضرة لأصحاب قلوب لم يخالطها زيف. منظر النخيل والتمر يتدلى منه كأنما الجنة دانت للناظرين. وتدرج الطبيعة بين بحيرة وجبال وصحاري وزرع يأسر الأفئدة.

تجدد سيوة جمالها دوما، ويزداد بريقا وتوهجا بحلول أعيادها؛ في هذا العام ولأول مرة منذ أمد بعيد تعيش سيوة حالة من النشوة لحلول العيدين في شهر واحد.

في الأسبوع الأول من نوفمبر حل احتفال "السياحة" ذاك المرتبط بالسوح في الأرض بحثا عن الله، وسط حالة من الحفاوة بكل غريب والود بين أهل الواحة وروحها السمحة.

وكذا أقام السيويون مهرجانهم للتمور، مع ختام الأسبوع الثاني من الشهر ذاته، في ظل توافد المئات من دول شتى للمشاركة والتنافس حول رمز الواحة وعرض منتجاتهم من التمر.

حين يُفتح ذلك الجوال، لا يكشف فقط عن قطع من الخبز، وإنما ينم عن تكاتف أهل سيوة؛ فقبل الدعوة لاحتفال "السياحة" السنوي، يُدعى كل منزل لإخراج عدد من الأرغفة - المجردل/ الخبز السيوي- بين 5 و10 أرغفة، ويُخلط كل الخبز وسط فرحة الرجال: "مفيش حد ما بيشاركش.. الكل غني وفقير له يد في اليوم، عشان يبقى اسمه عيد سيوة بجد".

من أعلى جبل الدكرور تظهر سيوة كعروس في ريعان الشباب، جمال­ بكر، بيوت من الملح ونخيل ناضر، وبحيرة ساحرة، فيما تعاهد حراسها –أهل الواحة- على حمايتها، وتقديم واجب الضيافة لكل زائر يدخل المكان فيُقسم على العودة مرارا وتكرارا.

خلال احتفال السياحة لا يضبط أيهم ساعته، الزمن سرمدي، الكل يبتهج؛ طيلة ثلاثة ليالي كاملة، لا يتخللها سوى بهجة بادية على الوجوه وقلوب صافية؛ الصبية والعجائز، الشباب والأطفال. حتى الباعة يجدون في الأجواء رزقا واسعا يليق باجتماع أهل الواحة في ساحتهم القديمة.

مع عصر اليوم الأول لاحتفال "السياحة" يجئ دور أحد الرجال، يقف كالزنهار يحرس الأطباق من عبث الصبية وينهرهم بقوله: "أبعدوا عشان الرمل وأكل ضيوف الله".

عقب صلاة الظهر وطوال أكثر من نصف الساعة، تبقى الأطباق المكسوة بالعيش والمرق الساخن دون يد تمسها، تلك هي العادة، الكل ينتظر، والأيادي تتحرك سويا باكتمال الأواني حين يهبط الأرز ويوزع اللحم، عندها ينطلق الجميع في صورة تعبر عن لم الشمل وحب "الفتة".

تمر طقوس احتفال السياحة بنظام فطري وسلاسة بادية للعيان، وكأن ما يجري تم التدريب عليه لأيام خلت، فيما يكمن السر خلف عبارة رددها شيخ مسن راح يربت على كتف صغيره بينما يساعده في تحضير الطعام: "اتربينا على كدة وبنعلم ولادنا وأحفادنا يكملوا الفكرة".

لا يتقاضى الطهاة أجر على صنعتهم، يأتون لوجه الله، بعد اختيارهم بعناية من قِبل شيخ الطريقة المدنية الشاذلية، يقضون ليالي الاحتفال في متابعة الطهي، لا يقترب منهم أحد أو يتدخل في عملهم. وفي نهاية اليوم الأول يُجرى مزاد على بواقي الماشية وثمنها يذهب إليهم منحة من شيوخ القبائل.

فيما يستريح الجمع، وينشغل أهالي الواحة بوجبة الغداء، يجوب الأرجاء شيوخ القبائل، يوزعون المزيد من الطعام، يسألون الأطفال قبل الكبار عن احتياجاتهم، لا يلتقطون أنفاسهم قبل التأكد من رضا الناس، لأنه غايتهم وشرفهم الذي يعتزون به.

طعام الضيوف لا يتذوقه الطهاة والقائمين على الاحتفال، ينتظرون لحين التأكد من تناول الجميع وجبتهم أولًا، ولمّ الصواني وإعادتها من جديد، قبل أن يستريحوا قليلًا للغداء.

تغيب الشمس، ينتهي الاحتفال بالعيد إلا من رُكنه الأخير، يتحلق الجمع حول بعضهما في دائرة كبيرة، يضم عليهم آخريين في دائرة أكبر، لتكتمل "الحضرة" بشيخ مُسن يقودهم إلى عالم الذِكر "من نال من عرفات نظرة ساعة، نال السرور ونال كل مرادي.. ضحوا ضحاياهم وسال دماؤها، وأنا المتيم قد نحرت فؤادي" يرددها أهالي الواحة فتسكر القلوب.

قبل مائتي عام، شد الشيخ "محمد ظاهر المدني" الرحال إلى سيوة، لزيارة مريديه من أتباع الطريقة المدنية الشاذلية، قبل أن يصل اجتمع نفر منهم لمناقشة المكان الأنسب لاستقباله، "لما كان بيجي مسؤول كانوا بيختاروا أفضل مكان لاستقباله ما بالك بشيخنا"، فاقترح أحدهم جبل الدكرور "لأن رماله صفرا ونضيفة وبعيدة عن البيوت" ومن يومها صار المكان الأمثل للاحتفال.

يحرص أهالي سيوة على اصطحاب أطفالهم للاحتفال، علهم يتعلقون بطقوسه، غير أن الصغار لديهم اهتمامات مُختلفة، إذ يقضون في السوق المجاور للجبل أغلب الوقت، ما بين شراء الألعاب والأيس كريم والمأكولات السريعة. فيما ينشغل الكبار في أدوارهم من إعداد الطعام أو حراسة الخبز أو توزيع الوجبات.

في المساء، بعد انتهاء الحضرة، والقلوب عامرة بذكر الله، يتخذ البعض مكانًا قصيًا، يختلي بنفسه، يجلس في مقابلة الجبل أو أعلاه، شاخصًا بصره نحو السماء، في ملكوته الخاص، فيما يجلس آخريين في مجموعات يسترجعون ذكريات الصبا ويتندرون على ما مضى.

رغم انسيابية المشهد، وجو الألفة بالاحتفال، إلا أنه لا يخلو من تواجد قوات الأمن التي تُنظم دخول السيارات، فضلًا عن عربات شرطة للتأمين، وسيارة مطافي تخوفًا من وقوع أي أزمات، تقف بجوار عربة إسعاف أسفل جبل الدكرور.

عم علي "المنادي".. النداء المقدس لأهالي سيوة

الجو بارد، الشمس لم تصعد إلى السماء بَعد، لكن ذلك لم يمنع عم "علي" صاحب الستين عاما، من ارتداء ملابسه، ومغادرة منزله بقلب سيوة قُرب الفجر متجهًا إلى جبل الدكرور لأداء طقسه المُقدس في احتفال السياحة إذ يقف أعلى الجبل بجلباب بسيط وشال يلفّه حول رأسه، مناديًا على الأهالي للمجيء إلى ساحة الاحتفال.

42 عاما قضاهما الرجل كـ "شاويش" في الطريقة المدنية الشاذلية بسيوة، بديلًا عن والده بعد وفاته في منتصف السبعينيات "شاويش يعني مسؤول عن جامع، بجمع التبرعات من الناس وأحل مشاكل وأشارك في احتفال السياحة"، تدرج خلالهم في مسؤولياته بالاحتفال قبل اختياره مناديًا منذ 4 سنوات.

"واعلموا.. واعلموا، هيوا هيوا" يهتف بها بحنجرته الخشنة، بينما يحرك أنامله على لحيته الكثيفة، تلك كلمات السر التي لا يعلمها سوى أهل سيوة "اللي يسمعها لازم يلبي الندا ويحضر"، يلتقط أنفاسه لدقائق قبل أن يُرددها مرات أخرى "بناديهم بعد أدان الضهر عشان الكُل يأكل سوا".

كل شيء متفق عليه، لا يحيد عم "علي" عن المواقيت المُحددة للنداء على أبناء سيوة "مواعيدنا زي الميري بالظبط، الناس تيجي على ندا، وتأكل لما أنده عليهم، ويشيلوا الصواني لما يتقالهم"، لذا لا يغادر الرجل الستيني مطرحه قبل انتهاء الجميع من تناول الغداء.

داخل كراسة صغيرة كتلك التي يحملها الصغار في مدارسهم، يكون فصل الختام لاحتفال "السياحة"، تحوي بين طياتها أسماء أهل الواحة، ومساهمة كل منهم -ولو ببضع جنيهات- في خروج المحفل بشكل يليق بأهل سيوة وضيوف الرحمن.

16 مسجدا تمثل بيوت الله في سيوة، يتواجد في كل منها "مقدم"، يجمع التبرعات، وهو شخص مكلف من قبل الطريقة المدنية الشاذلية، ويدون اسم كل متبرع في جدول داخل كراسة تحمل عنوان المسجد.

10 جنيهات فقط تم الاتفاق عليها كحد أدنى لكل متبرع، يدفعها خلال أسبوعين، هي مدة المهلة التي تُعطى لكل "مقدم" كي يجمع الأموال من أهل منطقته التابعين للمسجد.

جُمعت الأموال من داخل الكراسات الـ16، وأثمرت عن شراء الأضاحي، وكذا كل ما يحتاجه الاحتفال من تفاصيل صغيرة كانت أم كبيرة. ويقوم كل مسجد بإحضار لوازمه الخاصة من الخبز والأواني وحتى الحطب، فأهل سيوة لم يبدلوا عاداتهم منذ أول احتفال للسياحة بجبل الدكرور في سنة 1285 هجريًا.

لا يتوقف الأمر عند حدود التبرع والمشاركة في الاحتفال فحسب، فلأهل سيوة طقوس لا يتنازلون عنها؛ لذا وفي نهاية اليوم الأول بعد طعام أهل الواحة والضيوف بجبل الدكرور، يحصل صاحب كل تبرع على قطعة لحم صغيرة مغروسة في عود من جريد النخل، في إشارة لرمز المكان وكذا ردا لجميل كل من ساهم في إقامة الاحتفال السنوي على أكمل وجه.

"لعب عيال"

الأطفال هم أصحاب السطوة خلال احتفال السياحة، أعدادهم كبيرة، منتشرون في كل شبر بجبل الدكرور، حصلوا على إجازة –بشكل ودي- من الدراسة كي يشاركوا في الاحتفال، غير أنهم لا يعبئون بطقوس الحدث، من صلاة أو إطعام الضيوف. فقط يعنيهم اقتناص البهجة؛ كيف يُخرجون القهقهات من القلوب، ربما بشراء لعبة، أو ملاقاة جار، أو حتى بركضة في الهواء ونبش طفولي في التراب.

إعلان

إعلان

يا بلح سيوة.. يا حليوة يا بلح

لم تكن صناعة التمور بسيوة على صورتها الحالية، قبل التسعينيات كانت الخطوات بدائية كما يقول " الحاج يوسف  " مدير بأحد المصانع :" بنجمع البلح بخيره من غير تنضيف، يتحط على حصيرة من الخوص، يجي واحد يدوسه عشان يطلع نسبة العسل، ثم يتحط على المكبس يحوله لعجوة، وبعدها يطلع للزباين قطاعي أو جملة".

رغم اقتصار حصاد البلد بسيوة على أخر 3 شهور من كل عام، إلا أن المصانع تعمل على توريد منتجات البلح على مدار السنة بعد استخدامهم الثلاجات الضخمة لحفظ البلح بدلًا من المخازن التي تعرضها للتلف.

ينقسم مصنع التمور إلى جزئين، الأول خاص بالرجال، ودورهم تخزين البلح ثم مرحلة التنظيف وبعدها فرز الأحجام الكبيرة والصغيرة، ثم جهاز "الهزاز" لتنقيته من الأتربة، ثم خطوة التجفيف في درجات حرارة تصل إلى 70 أو 80 درجة مئوية.

الجزء الخاص بالنساء، مهمته فرز الأحجام مرة أخرى، ثم إزاحة البلح الفاسد، ثم إزالة المنتجات في حالة وجود عيوب تبريد أو غسيل، ومن بعدها قسم التعبئة والتغليف ونقله للمخازن.

شوارع سيوة تكاد تخلو من النساء، مكانهم المنزل، غير أن الوضع تغير في العقود الأخيرة على مستوى العمل، إذ تشارك الفتيات في مصانع التمور، داخل غُرف منفصلة عن قسم الرجال، وبات لديهن خبرات كبيرة في هذا المجال.

خيرات البلح كثيرة في الواحة، كل جزء من تكوينها يتم الاستفادة منه "القشر والغطا بيتعمل أعلاف للمواشي، النوة بتتحول لبن، وطبعًا البلح نفسه بنعمل منه سادة وباللوز وبالكاجو والشيكولاتة، وكمان بنعمل عسل البلح".

تعمل المصانع بهمة قبل مهرجان التمور الذي يُعقد كل عام في شهور الحصاد، حيث يأتي إلى سيوة عدد كبير من المستثمرين والمصدرين والشركات من دول عدة أبرزها ماليزيا وأندونسيا وتركيا للتعاقد مع المصانع المتميزة.

إعلان

إعلان

أعد الملف: أحمد الليثي - محمد مهدي

تصوير: أحمد جمعة

فيديو: علي شعبان السطوحي

فيديو جراف: محمود شحاتة

تنفيذ: فارس أحمد - أحمد ياسين