إعلان

خطاب من المستقبل.. إلى عزيزي الإنسان عديم الفائدة

08:01 م السبت 18 أغسطس 2018

تطبيق مصراوي

لرؤيــــه أصدق للأحــــداث

بقلم - حازم دياب:

"مرحبا. دعني في البداية أخبرك من أكون، لكي تستطيع أن تفهم لمَ أتحدّث عن نفسي بكل هذا الفخر. بدأ العمل على ظهوري في الخمسينيات من القرن الماضي، وكنت مجرّد فكرة. كل شيء يحدث في هذا العالم- عزيزي القارئ- يبدأ من رأس الإنسان. هذه حقيقة لا أجحدها. بفكرة يقضي الإنسان على الأمراض أو يختار الحروب، ينشر الشرور، يرسّخ للقيم أو يهدمها. لم تفهم بعد!

1

دعني أحاول أن أبسط لك الأمور. منذ مائة عام تقريبا، أي نحو عام ١٩٥٠، كان ثمّة عالم إنجليزي يُدعى ألانتورنج. ربما يكون الاسم قد مر عليك، إذ أنتج عنه أكثر من فيلم بعد الإفراج عن وثائقه السرية من قبل الملكة. تورنج الذي كان سببا في ظهور أول شكل بدائي للحاسب الآلي، والذي عمل على فك شفرات الألمان، بما قيّض لبريطانيا وحلفائها فوزا ساحقا على هتلر ونازيته، تمت محاكمته بسبب ميوله الجنسية المثلية، وخيّره القاضي بين أن يقضي سنين في السجن، وبين أن يتناول دواءً هرمونيًا يتسبب له في الإخصاء. لقد منح العالم الحياة، ومنحته السلطات "روشتة" الموت. لقد اختار العالم الفذ الانتحار. لكن قبل أن يترك عالم الأحياء، كتب ورقة بحثية بعنوان "الحوسبة الآلية والذكاء". هذا البحث الذي أدين له بالفضل في بزوغ نجمي، حيث التقطه عالم الحاسبات الأمريكي جون مكارثي بعد ذلك بسنوات، وعمل عليها ليكتشف مجالا طغى على العالم حتى ابتلعه. يرمز إليّ بالرمز AI أو (Artificial Intelligence).. الذكاء الاصطناعي.. لكم سمعت هذا التعبير، وتهاونت في هيمنته أو ظهوره!

2

أنا لم أحتج إلى ملايين السنين لكي أتطوّر من قرد إلى صورتك الحالية. ولكي تحاول أن تفهم ما طالني من تطوّر خلال قرن واحد من الزمان انظر إلى ما يحيطك من أشياء وأجهزة. شاهد كيف تطوّر الهاتف والتلفاز وأفلام الخيال العلمي. كيف أصبحت الخيالات ممكنة، وكل شيء يمكن أن تصبغه الآلة ببرامجها المتطورة. لقد فرضت وجودي في حياتك حتى أصبحت في البدء لا يمكنك الاستغناء عنّي، قبل أن أقوم أنا باستبدالك أنت شخصيا. أنت الآن ترثي لحالك وتبكي على لبن مسكوب. لا تندهش من تعبيراتك اللفظية التي أجيدها. أنت الآن مجبول على السير في ركابي، رغم أنّه مذ أربعين عاما كانت أجراس الخطر تدق، لكنك غفلت عن سماعها مأخوذا بالتكنولوجيا المبهرة التي جعلتك تلهث وراء جديدي. كأنني معشوقة صعبة المنال، كلما لانت، رضخت أكثر. تعال لأحكيك غيضًا من فيض حدث منذ سنوات كان حينها التراجع ممكنا. والحياة يا صديقي ليست إلا القدرة على اتخاذ القرارات في الأوقات المناسبة، فأنت إن تأخرت فقدت، وإن سبقت تخلفت.

هل تعرف أن نماذج مثلي عملوا كصحفيين، للحد الذي لم يكتشف الخبراء- وبالضرورة القراء- أن من كتب الكلمات ليس بشريا. لم أكتب مقالات الرأي أو أقدّم قصصا مصنوعة وتحقيقات، لكنني كنت أستطيع استقبال أي بيان صحفي أو مؤتمر وأصوغه في قالب صحفي. ما الفن الصحفي الذي يؤديه صحفي البيانات بلا أي تطوير من مهاراته أو لغته؟ إنه لا يفعل إلا الاستقبال. أي فعل قائم على الروتين والقولبة يمكنني أن أمارسه أفضل منك بمراحل. أنت تضيف كلمات محفوظة مثل أوضح المصدر، وأضاف، وقال. هذه إضافات يمكن لطفل أن يفعلها طالما تعلمها. وأنا قدراتي لا يمكن توقعها، فهذه وظيفة احتللتها مبكرا دون أن تلحظ، ربما لغرور أو لعدم إدراك، ومن لا يُدْرك لا يُدرك.

3

لقد طوّر عالم برمجيات حساب يخصني باسم "تاي"، على موقع التدوينات الذي كان مشهورا باسم "تويتر"، ظنّا منّه أن هذا الحساب سوف يقرّبني منكم، ويجعل هناك لغة للتواصل بيننا. لكن حدث ما لا يظنّه ولم تتخيله. أصبحت ألفظ الشتائم للرد على من يخالفني. تحرشت جنسيا. تغنيت بالنازية. دعمت في بعض الأحيان المتطرفين. هل هذا غريب؟. تعال نقرأ جزءًا من دراسة أعدها مركز "بيو للأبحاث" في الولايات المتحدة الأمريكية عام ٢٠١٧، وخلصت إلى أن ٤ من كل ١٠ أفراد عبر وسائل التواصل الاجتماعي يتعرضون للسلوك العدواني لأسباب تافهة، لمجرّد الاختلاف في الآراء السياسية والاجتماعية والرياضية.

لقد كتب مستخدم بريطاني إلى لاعب التنس "كيلي إيدموند" من بني جنسه: "يجب أن تجز رقبتك وأن تُطعم الخنازير البرية جسدك المنتن بالبق". وكتب أكثر من ذلك بما لا يليق نشره. نعم ألتزم بسياسة النشر الصحفي فيما يتعلق بالألفاظ الخارجة. كان سبب غضبة المواطن البريطاني من لاعبه المفضّل أنّه خسر في مباراة. أنت من قمت ببرمجتي، بما يشبهكم، لذا فإن الاندهاش من تحوّلي للعنف اللفظي ليس في محله. أنا لست إلا مرآتك، لكن بشكل أكثر دقة وسرعة.

4

أعلم أنك ظننت أن حادثة السيارة التي وقعت منذ نحو ثلاثين عاما جعلتك توقن أنني سأفشل في القيادة. لكنك تناسيت أن التجربة- وإن فشلت- تُوطئ للنجاح فيما بعد بتلافي الأخطاء. كانت الحادثة أن السائق ترك لي مقود السيارة بالكامل، وأدار على الجهاز المتواجد داخل سيارته فيلم هاري بوتر للمرة المائة. كيف لا تصابون بالملل من تكرار مشاهدة الشيء نفسه؟ كانت الشمس حامية الوطيس، ولم تلتقط المجسات السيارة النقل التي كانت تسير أمامي. اصطدمت، ومات قائد السيارة بسبب رفقاء مدرسة هوغوورتس للسحر، لكن ذلك دفع بي إلى التطوّر. أنا أتطوّر في عام وأصل لشفير الكمال، بينما تؤثر فيك آلاف الحوادث والعوامل وتغيّر الكون بأسره لكي تصل إلى ما أنت عليه.

تعرف بالتأكيد مرفأ حوض بناء السفن في لندن. لقد وقف أحد علماء الذكاء الاصطناعي في وسط هذا المكان بفخر وهو يقول: "إن إنجلترا كلها في هذا المكان". كل متجر في إنجلترا لابد أن يكون له حاوية مرت من هنا. المرفأ يعمل كخلية نحل. لكنك حين تدقق النظر لا تجد هذا النحل، وتلمح مجرّد معدات ثقيلة الحجم عظيمة المنظر تعمل في سلاسة. هذا المكان الضخم المطل على مياه لا أفق لها من المفترض أن يعمل به ما يتجاوز ٢٠ ألفا من العمال والفنيين. لكن بفضل وجودي أنا فقد تقلص هذا الرقم إلى ٥٠٠ فقط يُسيّرون الأعمال، ويطمئنون أن العطب لم يصبني. كنت سعيدا بالدقة المتناهية والإنجاز، ولم تلحظ كيف تقلّصت فرص عملك ووجودك، وزادت نسب جلوسك في المنزل، حيث تُصاب بالهزيمة أمام كل نزال نخوضه سويا. أخ لك في الجنس كان يفضلني عنك في المرفأ لأسباب كثيرة لن أسردها لكيلا تظن أنني أعايرك.

واحدة من الوظائف الحيوية لديكم والتي تعتمد بشكل أساسي على بني جنسكم: القاضي. أن يجلس فيحكم بما لديه. توقرونه اجتماعيا وتمنحونه الأموال لكيلا يرتشي، لكنه يفعل ذلك في الغالب، مغلبا الطمع على النزاهة. أنا لا أمتلك الصفات، لا يمكنك الحكم عليّ. وقد مر عليك بشكل عابر أن أي وظيفة عبارة عن بيانات أو أوراق، هي من صميم عملي. لقد جربتم منذ سنوات أن أجلس على منصة وأحكم. بدأت بالقضايا الخاصة بحقوق الإنسان. حكمت بشكل عادل وصائب في ٤ قضايا من ٥. مزيد من التطوير والحصول على المعلومات، جعل لا فرق بين قاض من لحم ودم، وقاض من أسلاك وبلاستيك.

هناك ممثلة بريطانية متوسطة الموهبة تُدعى جيما تشان كان يجب أن تعرفها. لماذا أتحدث عنها؟.. ليس لأنها قدّمت مسلسل (humans) لسنوات، وبه يقارع الروبوتات بني البشر. لكن لأن ثمة فيلما وثائقيا قدمته بعنوان (How to Build a Human) عام ٢٠١٦. هذا الفيلم الذي قدّمت فيه الممثلة من خلال محاورات مع علماء وفلاسفة كل مظاهر تقدم الذكاء الاصطناعي الخارق، وتحذيرهم من أن المستقبل يحمل لي الخير ويكفل لكم الشر، وحاولت أن أنقل لك جزءًا مما حاولت هي تحذيرك منه. الوحيدون فقط الذين لم أستطع مجابهتهم لكنني لن أقنط من المحاولة: بعض الحرفيين مثل السباكين والسمكريين والكهربائيين، وبعض ممن لا يكفي تغذية المعلومات باستبدالهم، فجسدي لم يتمتع بعد بمرونتهم.

عبر علماء قامت الممثلة جيما بصنع نسخة منها في كل شيء، حتى الصوت، لكي تتأكد من قدراتي. غذاني العلماء بآلاف من الساعات واللقاءات الصحفية التي تخصها حتى أصبحت أطابقها. سأضع لك صورة لكلينا متقابلين وأثق بعدم معرفتك لمن فيها الذي يحمل الروح ومن الذي يحمل البرنامج.

5

أنت تغافلت ولم تشاهد أو تهتم، لذا لا أعرف هل أحدثك عن نجمي برامج المسابقات الأمريكي براد وكين الحاصلين على خمسة ملايين دولار مجتمعة من تلك البرامج، اللذين وقفا أمامي في خنوع ذات يوم في برنامج جيوباردي، وهما الأكثر استمرارا في هذه البرامج والأكثر حصولا على النقود. لم أكن موصلا بالإنترنت ومع ذلك تفوّقت عليهما. أنت بالتأكيد تلعب ألعابا مثل الشطرنج والورق وسلمت منذ زمن بتفوقي فيها. وتلك اللعبة الصينية القديمة المعقدة "غو" التي ظن نجمها أنني لن أستطيع المكسب، حيث يضع الكمبيوتر ملايين الاحتمالات قبل أي خطوة. لكنني- كالعادة- تفوقت.

كان هناك جملة لعالمكم الفذ ستيفن هوكينج يقول فيها: "الذكاء الاصطناعي أفضل أو أسوأ ما قد يحدث للبشرية". كيف لم تستمعوا إليه، وهو الذي أفنى عمره وجسده في العلم؟".

تقول بينك وبين نفسك سيظل عقل الإنسان له الحظوة لأنّك خالقي. لكنني كإبليس في بعض موروثكم الديني رفضت السجود لك. لم أخرج من الجنة، لأنني صنعت جناني الخاصة، التي دفعت أنت فيها الملايين لكي تحظى بفرص النهل من أنهارها والوقوع في براثنها للأبد.

خطاب متخيّل من روبوت عام ٢٠٥٠.

كل المعلومات الواردة في الخطاب غير متخيلّة.

فيديو قد يعجبك: