إعلان

رمضان في قرية الروضة.. "حبايب اتبعتروا وجوامع فاضية"

09:11 م الأحد 10 يونيو 2018

حادث الروضة

كتب- أحمد الليثي ودعاء الفولي:

تصوير- كريم أحمد:

رمضان كريم.. فهل كان كذلك في قرية الروضة؟؛ القرية باتت شبه خالية على عروشها، قلب سلمان محمد صاحب الـ32 عاما صار عجوزا، له في كل ركن داخلها حكاية، لا سيما في رمضان، يُعدد أماكن تناوله الإفطار مع أقربائه وأصدقائه، تارة في البيت وأخرى في الشارع "كنا نفطر 400 واحد مع بعض، دلوقتي منجيش عشرين". ينزوي والد الثلاثة أبناء أحيانا في منزله، هربا من الذكريات، لكن أصوات السبعة عشر شخصا الذين قُتلوا من عائلته لم تزل حاضرة معه.

شهدت قرية الروضة حادثًا إرهابيًا يعد الأول من نوعه، في ظهر يوم 24 نوفمبر، بعدما اعتدى نحو 30 إرهابيا على المصلين أثناء أدائهم صلاة الجمعة، ما أسفر عن استشهاد 305 شهداء، بينهم 27 طفلا، فضلا عن عدد من كبار السن والمسنين، تجاوز عددهم الستين، و128 مصابا بجروح خطيرة، تم علاجهم في مستشفيات مختلفة، ويتلقى بعضهم العلاج حتى الآن.

"ابن خالي، أخو مراتي، ستة من ولاد عمي وغيرهم"، يرتعش صوت سلمان فيما يحكي "كنا بنجمّع عيالنا ومش بننام لحد السحور، نصلي سوا ونقعد سوا ونضحك سوا، دلوقتي الجامع فيه كام واحد يتعدوا على الصوابع".

1

منذ أن تفتت شمل العائلة ويوسف مصطفى حمدان لم تعد أحواله كما كانت، بين الإسماعيلية والروضة يعيش "يوسف" أجواء شهر رمضان، يتنقل بين منزله ومستقر والديه اللذين رفضا أن يتركا القرية المنكوبة بعد ما جرى. فقد يوسف أشقاءه الثلاثة في الحادث اللعين "محمد وياسين وعبدالخالق كانوا زينة الشباب"، وكذا لم يشأ القدر أن يكتفي بذلك؛ اثنان من أعمامه ومثلهما من أبناء العمومة جميعهم في عداد الشهداء بينما بيوتهم يسكنها شبح الخوف رفقة الأرامل.

كعادة أهل الروضة تتملكهم العفة رغم ضيق اليد "الناس مبيبقاش عندها عيش حاف وبيقولوا زي الفل وجايز يعزموا عليك بالأكل"، يشير يوسف في حديثه إلى دور أهل الخير من الجمعيات ورجال القوات المسلحة والهلال الأحمر في دعم الأسر بأساسيات المعيشة، لكنه ما زال يفكر في كل زيارة "الدنيا مش أكل وشرب وبس.. في 9 حريم في بيت منصور المنيعي من غير راجل، مفيش عائل نهائي ومعاهم بنات مريضة، ربنا بس هو اللي في بيتهم".

وحصل أسر شهداء ومصابو قرية الروضة على 848 كرتونة، بحسب بيان أعلنته محافظة شمال سيناء، الأحد الماضي، ضمن خطتها بالتعاون مع التضامن الاجتماعي، لدعم أسر المعاش التضامني وتكافل وكرامة ومعدومي الدخل من أهالي الشيخ زويد ورفح، وأسر قانون الطفل بجميع المراكز والمدن.

كانت موائد القرية، قبل عام، مفتوحة دائما "كل الحريم تطبخ وياكلوا سوا، والرجالة وحدهم"، فيما الآن لا يعبأ سلمان بالزاد، ينزل الطعام في حلقه كالرصاص، حتى الصلاة في المسجد الكبير صارت بلا طعم "بنأديها عشان فريضة ربنا"، ما زال الطعام متوافرا في القرية، تارة من الجمعيات الخيرية، وأخرى من سكانها "اللي بيطلّعوا رحمات على أرواح اللي ماتوا"، لكن الحياة تسير ببطء شديد، لا يُهونها إلا مناجاة الله صباح كل يوم، وانتظار اللحاق بأقرانه، كما يقول.

لم يعد رمضان كما كان في القرية الطيب أهلها، ففي كل بيت شهيد، أو مصاب، احتل الفقد ملامح الناس ومن عاش لم يزل يذكر الأحياء بتفاصيل اليوم المشئوم "أنا أبويا خد طلقة في عينه الشمال وزيها في الحوض لسه مطلعتش، وكسر في الساق اليمنى، وبتر في إبهام الأيد اليسرى.. وأخواته الاتنين استشهدوا وولاده الثلاثة كمان.. تفتكر ينفع ننسى".

بعدما فقدت الحاجة آمنة زوجها وابنيها في الحادث ظلت لأيام في منزل ابنتها الكائن بالإسماعيلية، غير أن روحها كانت معلقة بالروضة وأحبابها، لذا أصرت أن تقضي شهر رمضان هناك، فيما أقنعها زوج ابنها، أحمد جبر، بالكاد أن تقطن ببئر العبد كونها أكثر أمنًا واستقرارا "أهل الروضة اتبعتروا خلاص ورمضان مبقاش فيه خير.. الحبايب راحوا وسابونا".

2

كرفيقين للدرب، تشارك إبراهيم محمود وأخوه الأكبر أحمد كل شيء. لم تفصل بينهما سوى سنوات معدودات "سنتين و3 شهور بالضبط"، تقاسما اللعب، المذاكرة، وحُب الكرة، غير أن الموت أنهى الأمر فجأة؛ قُتل أحمد في حادث الروضة وبقي إبراهيم وحيدا.

لا مكان للراحة الآن في حياة إبراهيم "بالبيت شايفه، وبالجامع وبكل حتة روحنا فيها سوا". تمضي الأيام كئيبة "لما بنتقابل دلوقتي في القرية مش بيبقى لينا سيرة غير الشهدا.. نفسي أشوف الناس مبسوطة زي زمان"، أما رمضان هذا العام، فهو باهت "عشان من غير أحمد".

التفاصيل حيّة ومؤلمة. يستيقظ سلمان محمد يوميا في منزله بقرية الروضة، يوجه عينيه صوب السماء، يُخاطب الله "انا مش زعلان من قضائك.. بس ليه مخدتنيش معاهم؟، ليه سبتني هنا؟".

لا يستعيد سلمان ذكرياته مع الراحلين فقط، بل تتبدّى له لحظات المذبحة كأنها أمس، كانت عادته الصلاة في مسجد الروضة "بس اليوم ده روحت أصلي في مسجد جنب بيتي"، وبينما خُطبة الجمعة ما زالت في منتصفها، سمع الهرج في الخارج وعلم بما حدث "قالولنا بيقتلوا إخوتكم في مسجد الروضة"، وما هي إلا دقائق وانتهى كل شيء "روحنا لقيناهم غرقانين في دمهم".

لم يكن حادث الروضة هو الأول على الحاجة آمنة من حيث إحساسها بالفجع والفقد فقد عايشت مقتل 8 من عائلتها على يد الدواعش في العريش قبل أن تنتقل للروضة لتعايش من جديد رحيل زوجها وأولادها ومعهم 4 من أبناء العمومة "الموضوع ميتنسيش.. اللي حصل هيفضل معشش معانا طول العمر".

في تصريحات صحفية مطلع شهر رمضان، أكد الدكتور صفوت النحاس، الأمين العام لبيت الزكاة والصدقات المصري، أنه تم صرف معاشات لحوالي 500 أسرة من أهالي الروضة بمرتبات تصل إلى 1000 جنيه شهريا، بخلاف معاشات أسر الشهداء -305 أسر، وتم تنفيذ عمليات ترميم للعشش التي يسكنون فيها بشكل مؤقت وجار إنشاء منازل جديدة لهم في القرية وعددها 25 منزلا، وهناك تأسيس معهد ديني بقرية الروضة من متبرع مصري يعيش في الخارج.

منذ وقعت المجزرة لم يبرح سلمان الروضة "مش قادر أخرج ومش مبسوط وانا جوه.. حاسس إني محبوس بإرادتي"، هربت معظم العائلات التي يعرفها، حتى أسرة زوجته استقروا بالإسماعيلية، لكن الأب الثلاثيني يحسب الأمر بصورة أخرى "ليا بيت في الروضة، لو رحت الإسماعيلية هسكن في عشة"، غير إن زوجته دائما ما تطلب الذهاب لأهلها "راحوا هي والأولاد قعدوا كام يوم هناك ورجعوا.. ملهمش ذنب الصغار ميحسوش بجو رمضان".

يتذكر كريم، الابن الأكبر لسلمان، شهر رمضان في السنوات الماضية "بيقولي بدّي أمشي من الروضة، صحابي وإخواتي هجّوا مع عيلتهم"، يندب صاحب الـ11 عامًا حظه السيء، فيما لا يملك الأب شيء "بقوله إني أنا أصلا مش قادر أخرج أروح شغلي اللي في العريش، إزاي هوفر فلوس مسكن في الإسماعيلية؟".

أكثر ما يفتقده إبراهيم الآن هو تحضيرات ما قبل الدورة الرمضانية، اعتاد الشقيقان تنظيمها سنويا "كنا بنعمل 12 فريق كل فريق مكون من 8 لاعبين، ويتنافسوا ويتعمل تصفيات"، كان عدد الحضور من الشباب والأطفال لا يقل عن 300 "كأننا في ستاد حقيقي"، أما هذا العام "الجمهور كان عشرين عيل، ندمت إني أجّرت الملعب ساعة عشان نفك عن نفسنا"، يذكر الشاب ضربات قلبه المتسارعة بينما تدور المباريات، آملا فوز فريقه، فيما لا يغيب عن باله مباريات دوري أبطال أوروبا التي تابعها مع أخيه في نفس الأيام العام الماضي وشغف أخيه الدائم بفريق ريال مدريد.

كل الأشياء تُذكر إبراهيم بشقيقه "أحمد كان بيحب محمد صلاح جدا.. كنا بنحبه من أيام ما كان في المقاولين العرب"، وبينما تطفو سيرة اللاعب على السطح، كاد قلب إبراهيم يحترق "كان زماني أنا وهو بنشوف الماتشات سوا.. كان أكيد هيزعل على إصابته ويشجع معايا مصر أول يوم العيد"، لن ينسى إبراهيم أبدا ما حدث، لكن الخروج من الروضة ربما يُقلل وطأة الأمر، ولأن ذلك يصعب تحقيقه "أتمنى أرجع أحس بالأمان تاني".

أسفل منزل الحاجة آمنة الجديد ببئر العبد تستقر سيارة قديمة نقلتها معها، فيما كان حلول شهر رمضان إيذانا بكرهها الشديد لكل ما يذكرها بما جرى "قالتلي من كام يوم تعالى عشان تبيعها.. العربية مفكراني بالعيال وعقلي هيشت" يقول جبر، مشيرا إلى أنه اتفق مع الحاجة آمنة أن يصطحبها في عيد الفطر كي يقضوه بالروضة "مهما جرى هتفضل أرضنا ومش هننسى أبدا".

حلول عيد الفطر صار حدثا يخشى يوسف قدومه "أمي لسه فاكرة يوم ما العيلة كانت متجمعة وراحت تصلي ومرجعتش.. دلوقتي الناس هتصلي العيد وهيطلعوا مش هيلاقوا حد يسلموا عليه.. كلنا إيماننا قوي بس والله إنا لفراقهم لمحزونون.. لمحزونون".

فيديو قد يعجبك: