إعلان

"أعجوبة" الأردن من "الحضّانة" للمدرسة.. "رويد" انتزع حقه في الحياة مرتين

06:26 م السبت 20 أكتوبر 2018

الطفل رويد الذي أصبح حديث الأردن

تطبيق مصراوي

لرؤيــــه أصدق للأحــــداث

كتبت - إشراق أحمد:

يعود رويد حاملاً حقيبته المدرسية إلى منزله في مدينة الزرقاء الأردنية، يحتضن أمه بوجه ضحوك، يخبرها عما فعله مع رفاقه، يحكي لها عن حفل عيد الميلاد وأصدقائه الجدد، والألوان التي يحبها وتلك الكلمات التي سبق أن علمته إياها. على مدار 19 يومًا تُملي ريما عامر عيناها بفرحة صغيرها، يسكنها شعورًا بالقوة، فقد انتزعت حق ابنها مرة أخرى؛ الأولى حين أبقت عليه بعد مشورة طبية بإجهاضه، والثانية بعدما كادت نظرات المجتمع تحطم حلمها في التحاقه بالمدرسة، حينما رفضته روضة الأطفال لأن "هيئته بترعب الولاد".

بدون أطراف ولد رويد، وعينه اليمنى زجاجية، تمكنت والدته من توفيرها له بعدما جاء الدنيا دونها. "حالة نادرة" كان التشخيص الطبي للصغير منذ تَشكل في بطن أمه، وليس للعامل الوراثي دخل في هذا كما تقول والدته ريما في حديثها لمصراوي، فقد سبقه شقيقان أصحاء، أكبرهما في المرحلة الجامعية.

1

منذ 20 سبتمبر الماضي أصبح الطفل رويد حديث الأردن. تتناول الأخبار ذلك الصغير الذي "طردته" إحدى المدارس بسبب إعاقته الخَلقية، وينتشر الدعم على مواقع التواصل الاجتماعي لذي الأربعة أعوام ونصف، ومَن مثله من أصحاب الإعاقات المختلفة، وتحرك الحديث حتى بلغ وزير التربية والتعليم الأردني عزمي محافظة، ليعود رويد إلى صفوف الدراسة في مدرسته الجديدة، بعد أيام عصيبة في رحلة مقاومة الصبي وأمه منذ ولادته كي يحظى بحياة طبيعية شأن الأطفال في الأردن.

كانت ريما في بداية الشهر السادس لحملها، حين بدت معالم الجنين على شاشة "السونار" بينما يشرح لها الطبيب أن صغيرها لن يستقبل الدنيا بجسد معافى، ثم أعطاها تقريرًا طبياً وهي تذرف دمعًا وينهار جسدها من الصدمة، أخبرها أن بإمكانها التوجه لدائرة الإفتاء للتصديق على الموافقة بإجهاض الوليد.

شاردة ذهبت ريما إلى هيئة الإجهاض "رجل بتقدم ورجل بتأخر. ما كنت حابة أجهض طفلي" تستعيد السيدة الأربعينية لحظات ما قبل رؤية رويد. في دائرة الإفتاء، التقت ريما أحد الشيوخ، بعد حديث عن حالة الجنين وإعطائه الأوراق، ابتسم الرجل وقال "تخيلي إذا ابنك ولد سليم وعمل حادث سير وفقد أطرافه وقتها راح تقتليه وتتخلي عنه"، كأنما أُزيل الغمام عن الأم ونطق الرجل بما تسكن إليه نفسها، فردت بحسم "لا ما بتخلى عنه ولا بسيبه أبدا"، وفعلت ريما.

خرجت أم رويد من "الإفتاء" وقد مستها الراحة، وقطعت على نفسها العهد، بينما تناجي ربها "أنت بعت لي هدية وأنا متقبلة هاد الهدية"، ومنذ ذلك الوقت لم تترك صغيرها، أبقته وانتظرت قدومه بفارغ الصبر، منحته حبًا وحنانًا انعكس في ابتسامته وتصالحه مع نفسه.

2

في السادس والعشرين من مايو، عام 2014، حانت لحظة ميلاد "رويد". في المشفى، ظن مَن تلقف الوليد أن الأم لا تعرف بحاله، أخذته الطبيبة سريعًا ووضعه في غطاء، فيما ترددت أمام طلب ريما بأن تراه، قربت إليها وجهه فقط، فأخبرتها أمه "بدي أشوف إيديه ورجليه". إلى أن جاءها المخاض، ظلت ريما على أمل بأن يتبدل الحال وترى صغيرها معافى، تُردد المثل الذي كثيرًا ما سمعته "لآخر طلقة بتتغير الخلقة"، لكن القدر لم يتغير، بل تقبلها له.

داخل غرفة الحضّانات بالمستشفى، كان جميع الصغار بادين للعيان إلا طفلاً، غطت الممرضات سريره الزجاجي بقطعة قماش، كي لا يراه القادمون لرؤية أبنائهم فينزعجوا، وحينما حضرت ريما ظنوا هم أيضًا أنها لا تعرف بحال وليدها، أخذن يتهامسن "شو نحكي لها"، ففاجأتهم السيدة بمعرفتها وهدوء سريرتها، ثم نظرت إلى صغيرها، فانغرست فيها محبة لم تعهدها من قبل "شوفته متل البدر ضحك لي لما حملته". أرضعته ريما، وكأنما ربط الصغير على قلب أمه في أول لقاء لهما "حسيت بطمأنينة حتى أني ما بكيت يومها".

ذات ليلة قبل ولادة رويد، فتحت ريما القرآن الكريم، بينما شغلها اسم طفلها المنتظر، رتلت آيات سورة الطارق، لكن بلسان حال مختلف تلك المرة. "فمهل الكافرين أمهلهم رويدًا" قرأتها ليرّق قلبها للكلمة الأخيرة، فأُلهمت اسم وليدها "سيكون رويد" لمن يكفر بوجوده، سيمهلهم ويرفق بهم حتى يغير ما بهم من غلظة.

3

العام الماضي، عُرض الفيلم الأمريكي "Wonder" أو "أعجوبة" في دور السينما، وحققت قصة الطفل "أوجي" المولود بتشوهات خلقية ودعم والدته للاندماج في المدرسة مع أقرانه مشاهدة عالية، وفيما تخطى الاحتفاء بـ"أوجي" حدود الولايات المتحدة الأمريكية، كانت ريما في الواقع تواصل إعداد صبيها للاندماج في حياته.

منذ أتم رويد عامه الأول، وأمضت ريما السنوات الأولى مرتحلة، تخرج مع الخامسة فجرًا، تتتنقل من محافظة إلى أخرى لإتمام كشف طبي أو التردد على مركز يتعلم فيه مهارة جديدة، تنتهز أي فرصة لتجمع الصغار بحكم تطوعها في العديد من الأنشطة، وتصحب رويد، تخبره أن فقده لأطرافه ليس نقصًا، تدلل له بإتمامه كل المهمات، مِن حمله الأكواب وفتحه للصنبور، تؤكد له أن مَن يخالطه لن يلتفت إلا لما تحمله روحه وحتمًا سيعرف كم هو مميزًا.

4

كل نظرات الشفقة والتعاطف والفظ من القول أخفته ريما في نفسها، قررت أن تحوله لقوة تمنحها لابنها، تقابل حديث بعض الأمهات بأن عليها مراعاة اختيار الملابس الخافية لإعاقته، فتخبرهم "ليش أغطيه متله متل بقية الأطفال" واعتاد الصغير الذي لازال يبحث لسانه عن الكلمات أن يرد على رفاقه الصغار ممن يسألون ببراءة عن أطرافه "أنا ما إلي أصابع ربنا ميزني هيك"، فيما تُذيب ضحكاته وحركاته المنطلقة ما قد تحمله النفوس. توقن ريما أن الله يُنزل محبة رويد في القلب بمجرد رؤيته، فلم تشقَ الأم كثيرًا في اختلاط رويد مع مَن حوله، لكن ذلك لم يكن كافيًا.

لم تتوقع ريما أن إلحاق رويد بالتعليم أمرًا عسيرًا؛ اختارت الأم مدرسة ابن أخيها، كي يكون لصغيرها رفقة، فضلا عن تقديمها تعليماً جيدًا بالنسبة لها "ما كانت قريبة من البيت لكن مدرسة دولية وفيها حالات ذوي احتياجات خاصة"، لكن بعد 3 أيام فقط من الدراسة، تفاجأت ريما باتصال من إدارة المكان تعتذر لها عن استقبال ابنها بعد ذلك اليوم "حكت لي المعلمة أنهم مش عارفين يخلوا رفقاته يتقبلوه وأن رويد عامل رعب للولاد بسبب وجهه وأن أولياء أمور هددوا يا أولادهم يا رويد بالمدرسة"

تألمت ريما للكلمات، وزاد جرحها مع علمها أنهم طالبوا بإنزال ابنها من حافلة المدرسة وأخبروا زوجة خاله التي كانت ترافقه بأمر رفضه ثم اتفقوا أن يكون ذلك يومه الأخير، فضلا عن عزله في بعض الصفوف عن بقية زملائه، وهو ما فسر لها عدم وجود صور له مثل أقرانه.

5

كان الموقف قاسيًا، طاردت ريما التساؤلات ""ليه ما خبروني قبلها بيوم؟ ما مر غير 3 أيام. رويد محبوب وهيقدر يخلي الولاد تحبه ليش ما أدوله فرصة؟". إلا أن الأم نفضت حزنها وأخذت تبحث عن مدرسة أخرى، لكن الرفض ظل الجواب غير الشافي لها، فالبعض يخبرها بعدم توافر وسيلة مواصلات أو أن ليس لديهم مكان لصغيرها، وأخرين يصارحونها بأنهم لن يستطيعون التعامل مع مَن في مثل حالته، والنتيجة كانت عصيبة.

ظل رويد يستيقظ صباحًا، يجلب الحقيبة كي يذهب للدراسة، ويخبر أمه باكيًا "بدي أروح المدرسة مع وسيم- ابن خاله- وأشوف رفقاتي". ما كانت تحتمل ريما رؤية صغيرها يتألم، فاضت عيناها من الدمع وقررت التنفيس بالكتابة على فيسبوك يوم 20 سبتمبر، وحدثت المعجزة؛ نشر كلمات ريما رياضي أردني من ذوي الاحتياجات الخاصة يدعى معتز الجنيدي، وخلال ثلاث ساعات تبدل الحال؛ تلقت ريما اتصالات هاتفية من وزير التربية والتعليم يُبشرها بأن المشكلة جاري حلها.

في الأردن لا يوجد إلا رياض أطفال خاص غير تابع للنظام الحكومي، وبالتالي موافقة المدارس يكون برضاها وليس بقرار، لهذا واجهت أم رويد مشكلة في قبول إحدى المدارس الواقعة في حدود منطقة السكن بالزرقاء، أعلموها أنهم لن يستطيعون نقله في حافلاتهم "لأنهم ما بدهم يتحملوا المسؤولية" كما تقول الأم لتعود ريما لنقطة الصفر بعد مرور أسبوع من بقاء رويد في المنزل.

اعتادت ريما على مجيء الفرج مع كل ضيق يوشك أن يُحبطها. هاتفها مدير مدارس الرأي في العاصمة الأردنية عمان، أخبرها بتمسكه بانضمام رويد إلى مدارسه مع توفير منحة دراسية حتى يبلغ المرحلة الثانوية، ترددت الأم لبعد المكان بنحو ساعة ونصف عن منزلهم وعدم وجود أطفال يقيمون في الزرقاء ومن ثم لا حافلات تتوجه للمكان، لكن المدير دعاها بأن تخوض التجربة بدلا من بقاء رويد في المنزل، وتيسرت الأمور بعدما تطوعت معلمة في المدرسة ذاتها تدعى دعاء قنديل بأن تصحب رويد ذهابًا وإيابًا.

6

صباح الثلاثون من سبتمبر المنصرف، حمل الصغير حقيبته والتقى رفاقه الجدد. أخيرًا رويد في المدرسة. ترحاب واهتمام إعلامي حظي به الصبي ووالدته عسى أن يعوضهما عن الأذى النفسي طيلة الأيام السابقة، وفي إحدى اللقاءات قال رويد "أنا عيطت لما طلعوني من المدرسة.. عشان أنا وَحش كلهم هربوا"، عاتب البعض الأم، لظنهم أنها لقنت صغيرها تلك الكلمات، لكنها تفاجأت بها مثلهم، تقول إنه علق بذهنه مشهد "الوحش" الذي يراه في أفلام الكارتون، بالنسبة له هو الذي يخيف الناس فيبتعدون عنه.

تغيرت حياة ريما بميلاد رويد، لاسيما أنه تزامن مع انفصالها عن زوجها، فباتت الأم والأب لأبنائها، "صرت بسأل وادور وعندي شجاعة أعمل أي شيء"، تعتبر ريما أن انتزاع حق رويد لا يخص ابنها وحده لكن "عشان كل أم بتعاني ومش قادرة تتكلم". لم ترغب صاحبة الأربعين ربيعًا أن تُحدث كل هذه الجلبة، تقول "مش لازم أفضح حالي عشان حق ابني. ليش ما تكون الأمور مؤمنة؟".

من بين كل تسعة أشخاص هناك فرد لديه إعاقة في الأردن –بتعداد 651396- وفق دائرة الإحصاء العامة الأردنية عام 2017، يواجهون الكثير من العقبات الحياتية، ذاقت ريما مع رويد الكثير منها، لكنها لازالت تتمسك بحلمها في حياة أفضل لصغيرها، تنظر لصورته بمعطف أبيض، تتخيله طبيبًا في المستقبل، تتمنى من صميم قلبها أن تراه يومًا بأطراف صناعية إلكترونية وليست بلاستيكية كما هو الحال، ترجو له مجتمعًا يتأنى قبل إلقاء الأذى، فيما تثق بقدرة صغيرها في تجاوز العقبات بتسامح وقلب شجاع.

7

فيديو قد يعجبك: