إعلان

27 عامًا مع الأوتار.. عراقي يعلم أبناء بلجيكا العزف على آلة القانون

11:50 ص الخميس 11 يناير 2018

سهاد نجم أستاذ الموسيقى العراقي

تطبيق مصراوي

لرؤيــــه أصدق للأحــــداث

كتب-إشراق أحمد:
ست سنوات ولم يبرح سهاد نجم مكانه في المركز الثقافي العربي لمدينة ليج البلجيكية. يواصل أستاذ الموسيقى العراقي مسيرته في تدريس العزف على آلة القانون.

المشوار الذي بدأه منذ التسعينيات قرر أن يقبل فيه تحديًا جديدًا، بتعليم البلجيكيين -لاسيما الصغار-سحر الآلة الوترية والتراث الموسيقي، الذي يرى أن التقصير في تدريسه صرف الأنظار عن المدرسة العربية إلى مدارس موسيقية أخرى.

عشرون طالبًا يبث فيهم "نجم" عشق آلة القانون. من قلب أوروبا تصدح أنغام الشرق بأيدي تلاميذ العازف العراقي، منهم أصحاب أصول عربية "لكن لا يفقهون من العربية حرفًا؛ هم بلجيكيون" كما يصف في حديثه لمصراوي.

جيل جديد قرر الموسيقي الأربعيني العمر أن يذلل أمامهم حدود الزمان والمكان، ويواكب رتم الوقت الراهن "أتواصل مع تلاميذي يوميًا عبر الانترنت، على مدار الساعة يرسلون لي فيديوهات وأرد عليهم بتعديل الأخطاء".

داخل قاعة صغيرة في المركز الثقافي البلجيكي، في منزله، أو أمام شاشة الكمبيوتر الخاص به، حيث يستقبل نجم المقاطع المصورة للتلاميذ من دول عدة، لا فرق بين طالب عربي وأجنبي في العزف على القانون "إلا بالتعلم" كما يقول نجم.

في عمر السادسة أو أقل يبدأ نجم بتعليم الصغار "إذا توافرت في التلميذ الأذن الموسيقية لأن القانون بيحتاج أذن إيقاعية قوية وإذا كمان توافرت البيئة المناسبة".
يقول نجم إن الطفل ربما يهوى الآلة لكنه لا يستطيع تحديد "أنه بيحب أو ما يحب إلا لما يكون في دعم من الأم والأب". لذلك يتواصل عازف القانون مع الوالدين في حالة تخطى الطفل اختبار الموسيقى، يتأكد من استعدادهم لتقديم الدعم "لأن تعليم الصغار مشروع يحتاج صبر"، وما إن يتيقن فيبدأ بإعداد عازف صغير جديد.

لا يهتم عازف القانون العراقي بلغة تلاميذه ولا لأي بلد ينتمون، فقط أن تسير الأيدي بطلاقة تؤدي نغمات شهيرة لأغاني أم كلثوم وألحان محمد القصبجي ورياض السنباطي وغيرهم من كبار الموسيقيين.

يعدد نجم تلاميذه البلجيكيين، فهذا أصغرهم أرتور أو"أغتوغ" يدرس بعمر السادسة، وذاك سباستيان طبيب أطفال، رغم أنه كبير العمر لكنه يسير بخطى جيدة، وتلك تلميذة بلجيكية لم يمنعها انتقال عملها إلى لندن من متابعة دراسة آلة القانون عبر الانترنت مع أستاذها العراقي.

مس نجم حب آلة القانون في منتصف السبعينيات. حين وقف طفلاً لا يتجاوز عمره ستة أعوام بين كورال الأطفال مشدوهًا صوب العازف الذي تلين الأوتار بين يديه في خفة.

دون أفراد الفرقة الموسيقية شعر نجم أن عازف القانون يملك المسرح "وأن المتمكن من تلك الآلة له مكانته المميزة". من وقتها علقت صورة ذلك العازف بذهنه، تمنى أن يكون مثله، رغم أن والده نجم عبد الله الذي زرع في قلبه عشق الموسيقى كان "عوادًا".

1

منذ ذلك الوقت رهن ابن مدينة بغداد حياته لأجل آلته المحببة؛ التحق بمعهد الدراسات الموسيقية، وفيه أدرك مشاكل تعليم آلة القانون "التدريس في العراق بتلك الفترة لم يكن منهجيًا، الأساتذة كتير وكل يوم في أستاذ وكل أستاذ له نوتة يدرسها".
رغب نجم لو وجد قطعًا مؤلفة خصيصًا لآلة القانون، وأيقن أن "كتير عازفين لكن الأساتذة قليلين جدًا" لذلك عاود ترتيب طموحه "قررت أهب نفسي للتدريس وتبليغ هذه الآلة بكل أمانة علمية".

علم صاحب الستة والأربعين ربيعًا التدريس مذ كان طالبًا بالفرقة الأولى في معهد الموسيقى "بالنهار أكون طالب وبالليل أدرس لطلاب يكبرونني سنا بكلية الفنون الجميلة" يستعيد نجم البداية قبل 27 عامًا.

استكمل نجم دراسته وتخرج في كلية الفنون الجميلة، جامعة بغداد، وانطلق في رحلة التدريس عام 1994. حتى عام 2002 ظل أستاذ القانون في العراق يُعلم مفردات الموسيقى، وبدأ مشروعه في تعليم الأطفال، قبل أن يخوض تجربة جديدة "توجهت لي دعوة رسمية للتدريس في الجامعات التونسية".

كثير من أساتذة الموسيقى العراقيين سافروا وعملوا في تونس، لكن نجم أول أكاديمي تُوجه له دعوة رسمية حسب قوله. قبل ستة أشهر من الحرب على العراق -20 مارس 2003- استقر نجم في صفاقس وواصل مشواره التدريسي للكبار والصغار، وزاد عليه بتأليف كتاب ثانٍ له تحت عنوان "المنهج الحديث لدراسة آلة القانون" عام 2007، وذلك بعد كتاب "منهج مبسط لدراسة القانون" في العراق عام 2000.

2

عشرة أعوام قضاها نجم في تونس، قبل أن تتحول بوصلته إلى بلجيكا عام 2012. في البلد الأوروبي فتح أستاذ العزف على القانون فرع للتعليم في المركز الثقافي التابع لمدينة ليج البلجيكية "هو مركز غير مختص بتدريس الموسيقى لكن كان ليهم فرع لتدريس العود". ومن أرجاء المكان استكمل نجم عهده.

يحمل ابن العراق الوطن معه، يسير على أوتاره أينما ولى، بالقريب يعزف نجم بين تلاميذه مقطوعته الموسيقية "شوق"، كما سبق أن فعل في تونس. تلك المقطوعة التي كانت نتاج غربته وقت احتلال العراق "كنت أشوف بلدي يحترق على التلفاز". كان أستاذ الموسيقى وقتها في تونس برفقة زوجته وطفله الذي لا يتجاوز ثلاث سنوات حينها، فلم يجد العازف حيلة سوى التلاحم مع موطنه بالموسيقى.

ما إن يتقن أحدهم العزف يسارع المعلم بنشر مقاطع مصورة لأدائهم عبر مواقع التواصل الاجتماعي تباهيًا وتفاخرًا كما يصف.

التشجيع وحده ليس هدف نجم الوحيد من نشر أعمال تلاميذه، بل أيضًا القول إنه "لا توجد مشكلة في التعلم إذا توافرت الرغبة"، ويبتغي كذلك نشر رسالة إلى غيره من أساتذة الموسيقى "عسى أن يعملون ويشتغلون أكثر مع طلابهم خدمة لهذه الآلة العربية الأصيلة"، إذ لاحظ بين طلابه من يدرس في معاهد موسيقية، وهو ما يعده كارثة أن يلجأ مثل هؤلاء لتعليمًا خاصًا بجانب دراستهم الرسمية.

كان نشر أستاذ القانون لأعمال تلاميذه سببًا في مشاركتهم في برنامج المواهب "عرب جوت تالنت" –abra got talent. لعام 2017. بعد موافقة أولياء الأمور، اختار المعلم 8 صغار، أكبرهم بعمر الثانية عشر عامًا.

يحكي نجم عن دوره مع الصغار في أول مسابقة جماعية لـ"أشبال القانون" –الاسم الذي أطلقه عليهم ولحق بمشروعه مع الأطفال- " ما كنت أدربهم على العزف فقط لكن كمان على الحضور المسرحي بحيث يكونوا مو قاعدين يعزفوا لكن يلعبوا". لم يعبأ نجم وقتها بعدم الإشارة له كمعلم للصغار الذين وصلوا لمرحلة نصف النهائي، كل ما شغله أن تصل رسالة "أنه يمكن تدريب الصغار دون العشرة أعوام بكل سهولة".

رغم مرور ستة أعوام على إقامة أستاذ آلة القانون في بلجيكا، لكن المشوار لم يكن هينًا، إذ لا يوجد معاهد رسمية أو أكاديمية تهتم بالموسيقى العربية مدعومة من قِبل الدولة، ورغم قيامه بمعادلة لشهادته إلى البلجيكية وحصوله على صلاحية من الحكومة للتدريس في أي مؤسسة رسمية لكن الرفض كان المصير "لأن آلة القانون والعود والناي ليست مقررة ضمن المنهج التدريسي" لذلك لجأ أستاذ آلة القانون إلى الأكاديميات الأهلية والثقافية، وهو بديل "مكلف جدًا على التلميذ" حسب قول نجم، لهذا يعتبر الوضع في الدول العربية أفضل كثيرًا.

27 عامًا مع آلة القانون علمت نجم كيف يزهد في حضرة الأوتار، فلا يبتغي إلا فرحة تعلم يد صغيرة العزف عليها. يأسى لما آل إيه وضع العازفين "كتير يتوجهون لمدارس أخرى مثل المدرسة التركية مما جعل المدارس العربية تفقد أصالتها إلا ما ندر". يضع الواقع نصب عينيه، يعمل مع طلابه صغارًا وكبارًا لحفظ الهوية الموسيقية، يُعلي سقف طموحه، فيتمنى إدخال فرع آلة القانون في معاهد الموسيقى البلجيكية الرسمية، كآلة معترف به.

فيديو قد يعجبك: