إعلان

لمن ذهب ميراث "يهود مصر" بعد رحيلهم؟

04:19 م الثلاثاء 19 سبتمبر 2017

كتب- فايزة أحمد:

بحلول عام 1956 وفي أعقاب العدوان الثلاثي، كان نزوح اليهود عن مصر قد بلغ ذروته إلى الحد الذي جعلهم يتركون ما يمتلكونه لجيران وأصدقاء العمر، ليبدأوا رحلة البحث الطويلة عن موطنٍ جديدٍ لهم، وقلوبهم عامرة بأمل العودة مجددًا؛ لاسترجاع ما فاتوه لهؤلاء الذين ظلوا على العهد حتى أسلموا أرواحهم إلى بارئها.

بلغ عدد يهود مصر آنذاك حوالي 60 ألف، تمركزوا في بعض الأحياء الشعبية بالقاهرة خاصة "حي الجمالية، وباب الشعرية، وعابدين" والتي استطاع فيها البعض أن يبيع ممتلكاته بأثمان زهيدة، بينما عهد البعض الأخر بممتلكاته لأناس اتصفوا بالأمانة خلال سنوات معاشرتهم لهم، أملًا في العودة مجددًا، ليسترجعوا ما فاتوه من مال وموطن.

أزقة وممرات تتلوى في حي "الجمالية" شاهدة على تواجد اليهود بمصر؛ منهم ممر "عزام" المكتظ عن أخره بمحلات "الإكسسورات" والأواني النحاسية المزركشة بالرسومات القديمة، حيث يقف "حمادة إبراهيم" على ناصية محله غير مكترثٍ بالمارة، للكساد الذي تعانيه الأسواق في الوقت الراهن، لكن ما أن يسمع سيرة اليهود الذين كانوا قابعين بهذا الحي إلا وسرعان ما يتبدل حاله وينتبه جيدًا، مستعدًا لقص حكاية خاله الشهيرة معهم.

"خالي اشتري المحل دا من الخواجة اليهودي اللي كان شغال معاه بتذكرتين سفر".. يختصر "إبراهيم" قصتهم مع الخواجة اليهودي الذي لم يعد يتذكر اسمه، وفقًا لما قصه خاله عليه، ذلك الذي بدأ كعامل مع ذاك الخواجة الذي حزم حقائبه بعد أن قرر ترك مصر صوب فرنسا، وذلك في أعقاب فضيحة "لافون" الشهيرة التي وقعت عام 1954، والتي قيل إنها كانت سببا رئيسيا في رحيل اليهود عن مصر، فضلًا عن أن أصابع الاتهام باتت تُوجه لهم أولًا عند ارتكاب أي جريمة.

لم يتحمل الخواجة اليهودي كل تلك التغيرات التي أصابته بالصدمة، فتوقف رحيله على تذاكر السفر، التي وفرها له خال الشاب الثلاثيني، فما كان من الرجل الذي ظن أنه سيعود أدراجه عقب أن يزول العكر الذي بدل صفو الماء في بلاده، إلاّ أن يمنح عامله المُخلص محله "خالي قعد في المحل أكتر من عشرين سنة يشتغل، وفاكر إن الخواجة راجع لحد ما فقد الأمل"، لكنه أصر على الاحتفاظ بصورة الخواجة داخل المحل حتى الآن، ليحكي لأبنائه وأحفاده عن قصته الشهيرة معه.

على بعد أمتار قليلة فقط، تتزود محلات ممر عزام من الورش القديمة التي كان يمتلك معظمها يهود مصر، والقابعة بـ"ربع الصلحدار" المكون من طابقين باليين، داخل إحدى هذه الورش وتحت الأضواء الكاشفة انكب "عبد الله محمد" على عمله الخاص بتصنيع الحُلى والزينة من الفضة، تلك الحرفة التي تشّربها من صاحب هذه الورشة اليهودي الذي دُعي "هارون الصايغ".

كباقي يهود مصر اضطر "الصايغ" لمغادرة البلاد في أعقاب هزيمة 1967، فما كان منه إلاّ أن ترك ورشته المكونة من حجرتين تحتفظ إحداهما بصورته حتى اللحظة الراهنة، لأحد عماله ويُدعى "جورج" ذلك الذي توفي قبل عام، تاركًا هذا الإرث لأبنائه الذين انخرطوا في الحرفة ذاتها هم أيضًا.

ليس لدى أبناء جورج حكايات عن هذه القصة مثل "محمد عبد الله" البالغ من العمر (65عامًا) والذي سرعان ما ارتدى نظارته السميكة ليروي تفاصيل الحقبة التي عاصر فيها اليهود "جيت الورشة دي وانا عندي 6 سنين.. كان فيها مسلمين ومسيحين ويهود وكلنا كنا بنشتغل مفيش حد أحسن من التاني".

تتبدل الأحوال في تلك الورشة برحيل الرجل اليهودي، وبتولي "جورج" حينها العمل، حتى عام 2002، حيث جاء قرار الحكومة المصرية آنذاك، بتجديد المحال والورش في الربع؛ إذ كانت معرضة للسقوط، ليكتشفوا "لما هدوا الحيطة الفاصلة للأوضتين بتوع الورشة لاقينا بندقية الخواجة، وطبق كبير من الفضة، وحاجات تانية كتير في الخرسانة نفسها" يقول عبد الله، أدرك العاملون أن هارون الصايغ فعل ذلك؛ ظنًا منه أنه سيعود مرة أخرى، ويظفر بأشيائه التي لم يأتمن سوى الخرسانة عليها "لكن راحت الأيام وجات ومجاش هارون الصايغ تاني".

من ممر عزام إلى قلب شارع "الصاغة" حيث يجلس "إسماعيل المحجوب" أمام محل الذهب الذي يعمل به، إذ لازال يحتفظ بذكريات لا حصر لها مع اليهود لاسيما صانعي الذهب منهم، تلك الحرفة التي كانوا يتقنوها عن ظهر قلب "اليهود أصل حرفة صناعة الدهب والرسم عليه في مصر"، الأمر الذي جعل والده يلقي به إلى بين أيدي "الخواجة شموئيل" لتعلم أصول تلك الحرفة في ورشته الخاصة بتصنيع الذهب.

على مدار سنوات عدة، تعلم الرجل الستيني، الكثير من الخواجة شموئيل سواء في العمل أو على مستوى التعاملات الإنسانية "الناس دي كانت بتحب العمل والتفاني فيه، مكنتش بخيلة زي ما بيتقال.. بالعكس كانوا كرما، بس كانوا يحبوا يعرفوا كل حاجة راحة فين وجاية منين"، لكن بقيام العدوان الثلاثي على مصر بقيادة إسرائيل عام 1956، اتخذ الخواجة قراره بالرحيل، مما جعله يقوم ببيع ورشته ومحله لأحد مساعديه الموثوق بهم "باعله المحل والورشة برخص التراب وما رجعش من يومها".

لم يقتصر إرث اليهود في مصر على المحلات والورش، وإنما امتد ليشمل البيوت التي كانوا يقبعون فيها والتي تقع معظمها داخل "حارة اليهود" التي لازالت شوارعها وأزقتها بالإضافة إلى نفر قليل من أهالها يتذكرون تلك الفترة بكل تفاصيلها.

"من صغرنا طلعنا لاقينا اليهود زينا زيهم هنا في الحارة".. يتذكر الحاج "محمود عبد النبي" البالغ من العمر 70عامًا، أجواء الحارة إبّان تواجد اليهود فيها، حيث ألفوا عاداتهم وتعايشوا معها بسلام إلى أن رحلوا عنها "من يومها شكل الحارة اتبدل خالص".

قبيل رحيلهم عن مصر قرروا ترك منازلهم ومنحها لجيرانهم بالشُفعة أو تأجيرها أو بيعها بأبخس الأثمان "اليهود خافوا فمشوا وسابوا كل حاجه يملكوها وراهم"، إلاّ أن بعضهم لم يساعده الوقت على بيع ممتلكاته فعهد بمهمة بيعها إلى رئيس الطائفة التي ينتمون إليها "رئيسة الطايفة بتاعتهم باعت البيوت وخدت حقها، وأجرت بيوت تانية ولحد النهارده بياخدوا الإيجار"، بحسب عبد النبي.

لم تعد تمثل المحلات والمنازل القديمة تلك، للرجل السبعيني سوى ذكرى تؤكد له أنه كان يومًا ما هنا طائفة اتخذ منها الصديق والجار وزميل الدراسة والعمل، وبعض الزيارات التي لا تسمن ولا تغني"أخر زيارة من بعضهم كانت في 2003 ومن يومها محدش جه تاني".

فيديو قد يعجبك: