إعلان

مصراوي في منزل "السكان الأصليين".. 88 عامًا من الانتماء لجزيرة الوراق

04:38 م السبت 22 يوليو 2017

تطبيق مصراوي

لرؤيــــه أصدق للأحــــداث

كتبت-شروق غنيم وإشراق أحمد ودعاء الفولي:

الحكاية هنا محفوظة، لا يخطأ أحد في تفاصيلها، يروونها ككتاب مقدس، يتكرر سماع الصغار لها دون ملل، يؤمنون بمبدأ "اللي مالوش كبير يشتري له كبير"، وأما كبيرهم فحٌي يرزق، يتحلقون حوله، بعد ما شهدته جزيرة الوراق، زادت حاجتهم لسماع صوته، يؤكد لهم أن الأرض ملك الأجداد وهم أصحابها.

اتكأ على أكبر أحفاده البالغ من العمر 51 عامًا، ثم جلس ومن حوله صغار منزل سيد غريب محمد زيدان. "قلت أحسب الولاد من عمر 15 سنة وأنت طالع لقيتهم 47 بني آدم" بابتسامة لا تكشف عن أسنان يقول الحاج سيد، كبير عائلة زيدان، أحد مّن يُطلق عليهم "السكان الأصليين" لجزيرة الوراق.

تعود البداية لأكثر من مائة عام، حين استوطن الجد الأكبر محمد زيدان أرض الجزيرة "أحنا أساسًا عرب من مركز الصف" يستهل الحاج سيد رواية المجيء، وكأحد مشاهد الأفلام القديمة يسرد مشهد الرحيل؛ اضطر زيدان لمغادرة قريته بسبب "الديّة"، وضع ما يحتكم عليه من ذهب في "زلعة" حملتها زوجته، وأخذ بيد أولاده ورحل موليًا وجهه نحو الوراق "قعد واشترى 5 فدادين ونص ونصب 3 خيام له ولعياله.. واتجوز يجي 7 حريم وخلف جيش".

1

كان أول ذلك الجيش من الأبناء، الصبي الخامس لعائلة زيدان، والمولود الأول لها على الجزيرة، البلد الجديد للبدوي المرتحل، فكان "غريب" اسمًا للابن يليق بشعور الأب حينها، الذي لم يستطع العودة لأهله، غير أنه من صلب "الغريب" وُلد أبناء كثر ارتبطوا بالمكان، لم يعرفوا لهم أرضًا غيره، وثقت شهادات ميلادهم انتماءً له، ومنهم سيد الذي وعي على الجزيرة بينما كان عدد سكانها قرابة 400 شخص حسب قوله، فيما تضم اليوم 27 أسرة بفروعها كما يؤكد الحفيد سعيد حامد.

بعد نحو 5 شهور من ولادة محمد حسني مبارك، مَن عرفته مصر رئيسًا لأكثر من ثلاثين عامًا، ولد سيد غريب على أرض الجزيرة، في الحادي والعشرين من نوفمبر عام 1928.

يقص الجد سيد سيرة الجزيرة وعائلته، كأنها الأمس القريب في عمره البالغ 88 عامًا، تنسدل منه الأسماء ثنائية الذكر، يدمجها في حاضر يتابع أحداثه بدقه "شوفت مسؤولين في التليفزيون بيقولوا مش هنطلع عيل من بيته"، فيما تصله الأخبار في مكانه لظروف مرضه "لما جم دخلوا على البيوت جوه الجزيرة، وابني اتصاب واتقبض عليه في الاشتباكات"، لا يُنهي رواية إلا ويتبعها بقسم "والله الأرض دي أملاك أهالي يجيي أكتر من 100 سنة وأملاك الدولة معروفة ناحية البحر".

2

تمتلك أسرة سيد غريب أوراق عديدة، بين حجج الملكية، خريطة، وأوراق شركة الكهرباء، ومنها خريطة كبيرة احتفظ بها الحفيد نبيل غريب، الذي يعمل بالسباكة، في منزله، حصل عليها من هيئة المساحة المصرية "بقالنا سنين بنجري عشان نجيبها"، يروي الحفيد الثلاثيني أن الخريطة تفصل بين أملاك الدولة والأملاك الخاصة، مما يسهل عملية البيع والشراء داخل الجزيرة.

لا يفكر آل غريب في تقديمها لأي جهة، يضحك نبيل إذ يقول "إحنا جايبينها من عند الحكومة أصلا"، لا يعلم أحدهم القادم، يستطرد أحدهم "لو عايزين ياخدوها يهدوا بيوتنا علينا"، كما لا تبدو التعويضات أمرا عادلا بالنسبة لهم "هيوزعونا في البلاد ومش هبقى جنب إخواتي".

3

يتلقف سعيد حامد، أكبر الأحفاد، أطراف الحديث، يقول إنه لم يكن يعلم بقدوم قوات أمن لهدم منازل بالجزيرة "قولنا هيهدموا المخالف بس"، لكن الصياد الخمسيني فوجئ بأعداد ضخمة "ووزعوا نفسهم فاحنا اتشتتنا"، انقسم الناس لمجموعات بين مَن يحمون البيوت، ومَن ينقلون الجرحى للمستشفيات، أما سعيد فظل قريبا من الشاطئ استعدادًا لحدوث أي تغييرات "ومن ساعتها وأنا مبسيبش الشط غير بعد الفجر كل يوم".

على مدى الأعوام الماضية لم ينتبه حامد، الأب لـ8 أولاد متزوجين بالجزيرة أيضًا، لأي محاولات لإزالتها "كنا بنسمع بس مفيش حاجة ممسوكة"، شائعات عديدة مرت على آلِ المكان "مرة يقولك جمال مبارك عايز يأخدها ومرة مستثمرين"، لكن المرة التي شهدت تواصل بين السكان والدولة كانت في التسعينيات، عندما أراد القائمون على معهد ناصر أخذ جزء من الشاطئ "ساعتها عوضوا الكام بيت ومحصلش حاجة". 

4

وسط أبنائه وأحفاده؛ جلس الجد يواصل حكايته مع الجزيرة. فدانين هي ما يحتكم عليه، يسكنها 27 فرد من الأبناء وأبنائهم الكبار، تزوج الرجل الثمانيني خمس مرات، أنجب 17 ابنًا وبنتًا، مات عنه 6 وبقي الأخرين ذرية بعضها من بعض في الجزيرة.

يتذكر الجد كيف كانت الدولة يومًا تكافئ المواطنين بتمليكهم في الجزيرة، يذكر اسم أحمد افندي شكري، موظف الحكومة، الذي كانت مكافئة نهاية خدمته أفدنة ليزرعها في الجزيرة، كذلك أحمد زين مَن امتلك 25 فدان بالجزيرة، وغيرهم كثير، منهم الذي تمسك بالأرض ومَن باعها بحسب وصف الحاج سيد.

5

أكثر من 1400 فدان تُقدر مساحة جزيرة الوراق، كأنما يغازل الأرض يعدد الجد سيد مزروعات أيديهم من قطن، قمح، خضار وفاكهة. ورغم تأثير بناء السد العالي على الزراعة غير أن أهالي الجزيرة لم يتخلوا عن ضرب الفأس "الأرض بقت ترشح مايه مالحة فزرعنا موز وبطاطس واللي كان يزرع قلقاس".

سافر الجد إلى دول عربية مختلفة مثل ليبيا الكويت والسعودية، جال محافظات عدة لكنه أبى مغادرة أرضه، تعلّقت روحه بها، وأصبح منزله في الجزيرة بمثابة الوطن الذي ينتمي له. ومع مرور السنوات ازداد أهالي الجزيرة ارتباطًا، صاروا مجتمع صغيرًا يحتمي ببعضه "الستات هي اللي عملت رابط في الجزيرة" تدلل أم يوسف، زوجة ابن الجد، على ذلك بالنسب الذي نسج العائلات ببعضهم "وبقينا شبكة واحدة عارفين بعضنا، والغريب نقدر نفرقه".

6

لم يعرف الجد غير الفلاحة، ورثها عن أبيه، أما الأرض فانقلب حالها هي الأخرى "البحر ده كان ناشف الجزيرة والوراق كانت حتة واحدة" يشير الرجل الثمانيني اليوم إلى مياه النيل الجارية قبالته، موضحًا السبب الذي عرفه عن والده، بأن محمد علي باشا أمر بتغيير مجرى النيل لأن الجِّمال كانت تحمل القمح فضلا عن مرور الأهالي لملء المياه فيما كان قصره يقبع قرب كلية الزراعة حاليًا.

أما التغير الثاني لأرض الجزيرة، فأبصره سيد بنفسه، يحدد الزمن كمزارع أصيل "شهر مسرى" –شهر قبطي 7 أغسطس إلى 5 سبتمبر- في ذلك الوقت تغمر مصر مياه الفيضان، تعلوا المياه "كانت الجزيرة من الوراق لشبرا الخيمة كلها دي بحر" يتذكر الجد، فيما يصف حال أسرته والأهالي التي كانت تجلس فوق أسقف البيوت الغارقة "جيب حاجاتنا بالقرب ونقعد لغاية ما الأرض تنشف ونرجع نعمل البيوت".

7

تنقص الجزيرة خدمات أساسية؛ الصرف الصحي، قلة إمكانات المستشفيات ووجود مدرستين فقط تُعددهم أم يوسف، رغم ذلك تأبى الرحيل عن المكان "إحنا زي السمك، والجزيرة بالنسبة لنا هي الميّة". تتذكر حينما كانت ابنة العشر سنوات وترك أهلها المنزل بسبب ظروف عمل والدها "قعدنا في مدينة بدر سنتين، مستحملتش وسيبتهم وجيت هنا تاني".

"أول ما بنوصل الجزيرة بعد شغلنا بنحس إننا براها كنا في سجن" يقولها عبده ابن الحاج سيد، فيتفق معه كل الموجودين في المكان، تكاد تتطابق أسبابهم لحب الجزيرة "كفاية الأمان، إني مبقاش خايف على ولادي ولا بيتي حتى لو سايب بابي مفتوح" وموقعها الساحر وهواها الخلّاب "ماسكة 3 محافظات، القاهرة والجيزة والقليوبية"، فيما يقول الحفيد سعيد إنها المنطقة الوحيدة التي لم يمسسها الاضطراب الأمني وقت ثورة 25 يناير 2011.

يتملك الحفيد نبيل الغضب من تبعات ما حدث "الإعلام مبيقولش الحقيقة وبيتقال علينا إرهابيين"، يتذكر حينما شهدت الجزيرة أحداث مشابهة من 10 سنوات "بس لما عملنا مظاهرات الدولة تراجعت وعملنا مفاوضات والموضوع خلص" في حين وقف أعضاء مجلس الشعب وقتها مع الأهالي "إنما دلوقتي مشوفناش حد منهم".

8

طيلة عمر الجد سيد على الجزيرة، شهدها تحيط بأبنائها، تنعم بالأمان، ولهذا أيضًا كان له عنده جذور؛ فيما يشبه أسطورة "علي بابا والأربعين حرامي"، يستعيد الرجل الثمانيني ذلك السارق وعصابته، الذي هدد المكان كما حكي له أبيه "كان ينزلوا على البلد ياخدوا لهم 5-6 بهايم"، مما دفع الشرطة إلى تعيين نحو 30 خفيرًا على الجزيرة، لكن السرقة لم تتوقف، في ذلك الوقت كان يبحث الجد الأكبر محمد زيدان عن عمل "قال لمأمور المركز أنا هغفر البلد دي"، تعجب الشرطي لجرأة المتحدث، واتفقا أن يدفع زيدان حق الماشية التي تسرق.

أما خطة الجد الأكبر لحراسة الجزيرة، كانت بسد الفراغ؛ دعا أشقائه للمجيء والسكن، والزواج في المكان، ثم قام بقطع تلابيب العصابة "كان المرشد بتاعهم من الجزيرة اسمه جاد عبد المعطي"، فأقام معه نسبًا، وبعدها اتفق مع ذلك المرشد على استدراج رئيس العصابة وقتله وهو ما حدث "وبعد شيخ المنصر ده البلد بقت عايشة في آمان تسيب البيبان مفتوحة لغاية النهاردة".

9

لا ينقضي يوم دون تجمع العائلة بفروعها الممتدة للأحفاد داخل بيت الجد؛ لكن حالة المنزل اختلفت منذ أسبوع، جلستهم مُشبّعة بالقلق على مصير غامض للابن المقبوض عليه، وخوف من أن يطول الأذى "وطنهم الأصغر" كما يصف الأحفاد، فيما يرى الجد أن الحكومة أمامها عشرات الحلول دون الصدام مع الأهالي "الدولة ليها 60 فدان، جزء على الشواطئ والباقي جوّه، تاخد كل المنطقة اللي على الشاطئ وتسيب لنا الباقي والناس مش هتعترض.. ده لو هي عاوزة تحِل".

فيديو قد يعجبك: