إعلان

في الذكرى الخمسين للنكسة.. قصة راهب يوناني رفض الخضوع لإسرائيل

08:01 ص الأحد 04 يونيو 2017

الراهب إيفمينيوس السينائي

تطبيق مصراوي

لرؤيــــه أصدق للأحــــداث

حوار-سامي مجدي ودعاء الفولي:

تصوير-روجيه أنيس:

حين اشتعلت حرب الأيام الستة، كانت 8 سنوات قد مرت على مجيء الراهب إيفمينيوس السينائي، لمصر. بعدما اختار دير مارجرجس بمدينة الطور بجنوب سيناء بيتا له. هُناك أدّى الصلوات يوميا. تضرع إلى الله. تشرّب لغة الشعب المصري. التصق بعادات البدو حتى أحبّهم وأحبّوه. وهّناك عزله الاحتلال الإسرائيلي عدة أعوام بداية من يونيو 1967، عندما رفض الانصياع لأوامرهم.

في دير سانت كاترين-بيت إيفمينيوس الحالي- جلس الراهب الذي ناهز عمره 82 عاما. أسند ظهره إلى الأريكة وعبث بلحيته، مسترجعا أيام ما قبل الحرب، وقتما استقبل الضباط المصريين الموجودين في المنطقة، جالسهم، توددوا له، إذ لم يجاوز عُمره حينها الثانية وثلاثين. لم يكن يتابع ما يحدث في العاصمة، لكن حكاياتها وصلت إليه من خلالهم. علم أن الأجواء متوترة بعد قرار الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، بإغلاق مضيق تيران أمام السفن الإسرائيلية في 23 مايو من عام 67.

Mon 1

لم يتخيل الراهب أن عجلات المعركة ستدور سريعا. ففي الرابع من يونيو، حلّقت طائرات إسرائيلية فوق الدير "على مستوى منخفض جدا.. حتى ظننت أنها ستصطدم بالصليب الموجود أعلى الدير" حسبما يقول لمصراوي. رفع رأسه للسماء فرآها، وأخبره الضباط المصريون أنها من طراز ميراج، وقتها استشفّ إيفمينيوس من أعينهم أن شيئا يحدث ليس على ما يرام.

مرت الأيام الثلاثة التالية سريعا "لا أذكر سوى ضرب الطائرات اليهودية لمدينة الطور في صباح يوم الخامس من يونيو" ثم انسحاب الجيش المصري. تخبط الراهب الذي كان وحيدا في الدير "لم أعرف ماذا سيحدث لنا". انعزل المكان تماما. لم يعد ثمة وسيلة اتصال، إلا أن أربعة ضباط مصريين جاءوا يودّعونه قبل ترك المنطقة بعد قرار الانسحاب من سيناء، فيما يذكرهم إيفمينيوس باللفتة حتى الآن.

أحد هؤلاء الضباط كان الأقرب لقلب الراهب "اسمه فريد.. مازلت أتذكر ملامحه". كان مسيحيا، حينها طلب منه فريد أن يُصلي له، ويطلب من القديس مارجرجس مساعدته على الوصول لمنزله في القاهرة سالما "لكني قلت له عليك أن تُصلي بنفسك وطلبت منه السير ليلا خوفا عليهم من الأذى". اختفى الضابط الثلاثيني دقائق داخل كنيسة دير الطور، ثم رحل مع الآخرين.

Monk 2

منذ وطأت قدما إيفمينيوس مصر، لم يشعر بالغربة "ولم أفكر أبدا في ترك الدير.. إنه بيتي الذي اختاره الله لي في السلم فلماذا أرحل عنه في الحرب؟". تحمّل تبعات اختياره، وضع ميزانا للتعامل مع العدو الإسرائيلي، فهم ليسوا أصدقائه، لكنه لن يدخل في مناوشات معهم، لهذا عندما اجتاحوا جنوب سيناء في اليوم الثالث من الحرب (الثامن من يونيو 1967)، طلبوا ممن يريدون الابتعاد عن مرمى نيرانهم، وضع قماشة بيضاء أمام المنزل "بحثت عن أكبر ملاءة في الدير وفردتها على السقف كي تراها الطائرات بوضوح كما رفعت علم الدير الأبيض".

الصلاة. الحديث مع الرب. الخشوع لئلا يُصيب آل المنطقة مكروه. كانت تلك الأعمال سبيل الراهب للراحة وقتها. غير أن بطش إسرائيل وصل للمدنيين من سكان الجنوب، ما اضطره لفتح الدير للعائلات المسيحية كي تحتمي بيه، ومع استمرار أذى المُحتل أتت عائلات مُسلمة لتنضم لهم. ظلت الأسر بصحبة الراهب لأثنى عشر يوما، ومع ازدياد العدد، بدأت المؤن في النفاد "ولم يعد هناك مكان نقضي فيه حاجتنا.. كُنا محاصرين ووضعنا مأسويا".

Monk 3

صبيحة اليوم الثالث عشر من الحصار، سمع إيفمينيوس طرقا حادا على باب الدير، البالغ مساحته 92 مترا. فتح ليجد ضابطا إسرائيليا، عابس الوجه، يأمره بإخلاء المكان "رفضت. وانفعلت عليه قائلا: لن أخرج ولن يغادر أحد". رحل الضابط غاضبا، واستمرت المفاوضات بين الراهب وجنود الاحتلال 3 أيام، وانتهت بتدخل اللجنة الدولية للصليب الأحمر، لينقل المدنيين إلى السويس، في 12 حافلة "لوري" امتلأت عن آخرها، برجال ونساء وأطفال وشيوخ، فيما بقي رجل الدين وحيدا.

كغيمة شتاء اجتمع الحزن في نفس الراهب. مازال صوت الضابط الإسرائيلي يرن في أذنيه، إذ يقول "لن تخرج من هذا المكان.. إذا حاولت الخروج سأضربك بالرصاص". انكمش على نفسه، ليس خوفا، وإنما عجزا، فقد كان البحر أنيسه فيما قبل، يطل عليه وقتما يُريد، بينما أصبح في الحرب، يتسلل ليلا ليُحضر بعض الطعام من المحلات التي تركها أصحابها. وحينما جاءت إسرائيل، كانت اختيارات إيفمينيوس محدودة، نقل كل ما وجده من مؤن، خزّنها سرا في الدير، دون علم لأي مدى ستكفيه، فيما وضع في حسبانه، طعام بعض الماعز والقطة التي تعيش معه.

عاما كاملا ظل فيه الراهب داخل الدير. يتعبّد وينتظر الخلاص. تسرب العفن إلى البقوليات التي جمعها في الأيام الأولى "كنت أطبخها وأنتقي منها السوس وأكلها مرغما". كان الماء مازال يسري في الحنفيات، حتى قطعها الإسرائيليون عنه إمعانا في الأذى، قاموا في البداية بإعطاب المواسير، ثم منعوه نهائيا. لحسن الحظ كان لديه بضعة براميل ملأى بمصدر الحياة، استخدمها الراهب بحكمة، فلم يدرِ متى يُرفع عنه الحصار.

Monk 4

تلك التفاصيل على صعوبتها، إلا أنها ليست شيئا إذا ما قورنت بالوحدة. حاول كسرها بأفاعيل طفولية؛ أطلق اسما على معزة صغيرة أحبّت دائما التواجد معه في مطبخ الدير "أسميتها الطباخة"، فيما أعطى للقطة اسم "عزيزة"، قبل أن يخترع لها ألعابا للتسلية "رسمت ملعبا على الأرض بالطباشير.. وطلبت منها أن تقف عند العارضة المرسومة على الأرض لنلعب.. كانت هي والماعز ونسي.. حديثي معهم منع عني جنونا مُحتما".

لم تتوقف مضايقات الجنود للراهب "ظنّوا أنني جاسوسا للمصريين.. عرضوا عليّ الذهاب لليونان أو القاهرة أو أي بلد أريد لكني جددت رفضي". أحكموا الخناق عليه، كانوا يطرقون باب الدير في أي وقت، يقتحمونه، يفتشون محتوياته "حتى أنهم كانوا يرفعون أغطية الأواني ليتأكدوا أنني لا أخبئ جهاز لاسلكي".. يضحك إيفمينيوس، قبل أن تختفي ابتسامته، حين يتذكر أنهم كسروا المذياع الوحيد الذي ربطه بالعالم، ثم ركّبوا جهازا للإرسال فوق الدير ليراقبوا أي اتصال مزعوم قد يقوم به، ووضعوا جيرا حول الدير حتى يراقبوا ما إن كان يخرج من مكانه أم لا.

عدة أشهر أخرى من الضجر، قبل أن يسمح الجنود للراهب بالذهاب إلى البحر. كانت اللحظة لا تُقدر بثمن، استنشق نسيمه كطفل يزوره للمرة الأولى، لكن لم يستطع التحرك أبعد من ذلك "وقتها كنت أسخر من نفسي.. فأقول إن الماء في الدير تغير طعمه ولونه ولم يعد لدي سوى البحر لأشرب منه"، إلا أن الله بعث مددا.

Monk 5

في أحد الأيام زار الراهب ضابط إسرائيلي وزوجته وأطفاله قادمين من شرم الشيخ "لم يكن لدي ما أقدمه لهم كضيوف"، ملأ كوبين من مياه البراميل التي اصفرّ لونها وصنع منها فنجانين من القهوة ليقدمها لهم، وما أن وقعت عينا الضابط على ما يحمله سأله: "هل هذا عصير برتقال؟"، فابتسم إيفمينيوس قائلا: "بل مياه مما تبقي في بعض الصهاريج وهي ما صنعت منه القهوة أيضا"، صمت الضابط قليلا ثم عاود السؤال "هل هذا ما تشرب منه؟"، فرد الراهب سريعا: "نعم.. لأن جنودك قطعوا عني المياه منذ أكثر من عام"، فيما جذبه الراهب من يده ليريه شكل البراميل التي تغير لونها.

رحل الضابط دون أن يمس القهوة والمياه، واعدا بمساعدته، وقد ظل لـ8 أشهر بالفعل يُرسل له طعاما جيدا ومياه، لكنه نُقل من جنوب سيناء، فعاد إيفمينيوس لحياته القديمة "لكن احتفظت ببعض المياه النظيفة".

أكثر من 3 سنوات مرت قبل أن تُتاح الفرصة أخيرا كي يخرج لمدينة الطور "لكن على الأقل واتتني الفرصة للابتعاد عن جدران الدير". كانت علاقة إيفمينيوس بالبدو من سكان المدينة جيدة. يلجأون له لحل مشاكلهم، حتى أنه نقل مطالبهم لجنود الاحتلال، ففي تلك الفترة زار وزير الدفاع الإسرائيلي، موشي ديان الجنوب عدة مرات، فاستغل الأب الفرصة ليطلب منه مؤن تكفيه والسكان "كتبت ورقة وطلبت منه أطنان من الأرز والعدس والمعكرونة".

استنكر ديان مطلب الراهب "قال إن الكميات كبيرة لكني انفعلت قائلا إنها ليست لي وحدي.. هي للمدنيين الذين يتضورون جوعا"، أصرّ الوزير الإسرائيلي على رفضه، فهدّده إيفمينيوس: "إذا لم تُرسل لي ما طلبت.. سأذهب لكل السفارات والقنصليات المعنية.. سواء اليونانية أو الأوروبية.. سأقول لهم إنكم منعتم عنّا الطعام". نزلت الجملة فزعا على ديان، انصاع صاغرا، وأحضر ما كُتب في الورقة.

Monk 6

طيف الحرب في خيال إيفمينيوس يحمل مواقف مؤلمة، بعضها حدث له، والأخرى مسّت معارفه "مشاهد دماء الجنود المصريين وجثثهم المحترقة حيّة في ذهني.. كان الأمر مُفجعا". عقب عام 1971، أخذ الراهب جولة بصحبة أحد البدو، تجنّبت عيناه مظاهر الموت، إلا أنه تعرّف على ثلاث جثث للجنود الذي زاروه بُصحبة الضابط المصري فريد "طلبت من مرافقي أن ندفنهم بأي ثمن.. ذلك التكريم هو أقل ما يمكننا تقديمه". أحضرا سيارة ورفعوا الأجساد عليها، واروا أجسادهم الثرى في عمق الصحراء، أما فريد فقد كتب القدر لقاءً ثانيا بينه وإيفمينيوس عقب الحرب.

العام 1978. انسحب الإسرائيليون من مدينة الطور بعد المعاهدة، صارت معظم سيناء حُرة إلا قليلا، وكذلك إيفمينيوس الذي قرر زيارة مبنى محافظة جنوب سيناء "هُناك قابلت فريد". رحّب به الضابط المصري، دون أن يتعرّف عليه، لكن الراهب اليوناني عرف ملامحه "لمّا أخبرته أنني من دير مارجرجس في الطور قال سريعا إن له صديقا راهبا هُناك". وقتها باغته الراهب بالقصة التي دارت بينهما، فاحتضنه فريد "قال لي إن صلاتك هي التي أوصلتني للمنزل"، لكن لسان الأب اختلج فيما يُخبره أن زملاءه الثلاثة غّيبهم الموت في الصحراء "وشرحت له المكان الذي دفنتهم فيه".

Monk 7

ما يذكره الراهب حقا بعد خمسين عاما، أن الحرب فعل مُقيت. يروي حكاياتها كمصري عانى منها، لا يعتبر نفسه من بلد آخر ، يستقبل أصدقائه من البدو وأبنائهم داخل دير سانت كاترين "انا عشت 62 سنة في مصر.. وأموت هنا"، يُلقي بعض العبارات بعربية ضعيفة، يُعيد سرد النكات التي يسمعها من أهل سيناء، ينظر بعين الشفقة لما مر به المصريون، ويذمّ ما فعلته إسرائيل.

فيديو قد يعجبك: