إعلان

صفوت عكاشة.. السمّيع العاشق لـ''محمد رفعت'' ''حوار)

08:54 م السبت 26 يوليو 2014

صفوت عكاشة.. السمّيع العاشق لـ''محمد رفعت'' ''حوار

كتب- دعاء الفولي ومحمد مهدي وإشراق أحمد:

في أيام كتلك تتفتت فيها أواصر القرابة، غير أنه ظل على العهد، لم ير الشيخ، ولا تربطهما صلة دم، لكنه حفظ تراثه، كل ما في الأمر محض "رؤية" جاءته في منامه، فانصاع لها طوعا، باتت حياته منصبة حول الشيخ "رفعت"، يوثق "صفوت عكاشة" تفاصيله، يحرص على تسجيلاته، يقيها شر الاندثار، يجمع محبيه أسبوعيا لترديد مآثره، الأهم أن سيرة إمام القراء تبقى خالدة كما أحب.. دون انقطاع.

في السابعة من عمره كان، الراديو وسيلة الجميع في الخمسينيات، خمس دقائق في إذاعة الشرق الأوسط، يرتل بها "رفعت" لآيات من سورة مريم، تنتبه حواس الطفل "صفوت"، ينجذب للصوت الخارج عبر الأثير دون دراية، يتعلق به لسبب يجهله، فلا ينقطع عن سماعه، مع المرحلة الإعدادية بدأ يدرك "يعني إيه سمع".

ما كان يعلم المستمع العاشق شكل الشيخ حتى الصف الأول الثانوي؛ في حلم رآه، قارئًا لسورة "الانفطار"، بمقام الراست "لسه في ودني لغاية دلوقت" رتل من بدايتها وحتى الآية رقم 5 "علمت نفس ما قدمت واخرت" لكنه جاء تاليًا الكلمة الأخيرة مغايرة "قال ما قدمت وأحدثت"، أسر الرؤيا في نفسه، وقرر ألا يفارق "محمد رفعت" منذ ذلك الحين.

"هو اللي غير مسار حياتي" بابتسامة وفخر يرددها الرجل الستيني، فبعد دراسته للاجتماع بكلية الآداب جامعة عين شمس، وجد أنه يفتقد شيء بالطريق الذي بدأ خطاه من تجميع كل ما يتعلق بالشيخ "رفعت"، فمن أجل التبحر ومعرفة المزيد عن صوته، التحق بمعهد الموسيقى لدراسة المقامات والأصوات، ومنها اهتدى لضالته التي عشقها، وأضحى "سمّيعًا".

لا يعلم مدير مطابع جريدة الجمهورية السابق السبب الذي يربطه بـ"الشيخ" حد التمني أن يكون عكازه الذي يستند عليه إذا ما عاش زمانه لكنه يتذكر أثر هذا العشق عليه الأن فيبتسم قائلاً "ساعتها مكنتش هنفع في دراسة ولا أي حاجة"، فـ"محمد رفعت" يتصدر أولوياته وبعده يأتي الزوجة وأبناءه الاثنين، حتى أنهم يتقبلون ذلك، هم على علم بأنه إذا أتاه أمر يتعلق بالشيخ "رفعت" هرول إليه متناسيًا الدنيا ومَن عليها.

التقى عاشق السمع بالعديد من الشخصيات التي عاصرت "رفعت" أو انتقل إليها شيء من ذكراه، حال الأحفاد، ومن قبلهم كان أبناء الشيخ ذاتهم، فكانوا وجهته الأولى، بالسبعينات التقى حسين رفعت-الابن الأصغر-، كان "صفوت" شابا، مخالفًا للسمت المعروف عن "السمّيعة" بأنهم من كبار السن، لذلك كان الأمر ملفت لابن الشيخ، ببمرور الوقت تيقن ابن القارئ الجليل أنه أمام شخص بحبه الجم لأبيه ودأبه في معرفة التفاصيل عنه تؤهله أن يكون من العائلة، لتبق كلمته خالدة في ذاكرته كأنما أنشد مراده "ده أنت المفروض تبقى ابن الشيخ رفعت".

مع كل شريط يضعه ليسمعه عند "عكاشة" حياة، ملأت الأصوات تفاصيلها وتجسدت في تلك المكتبة، التي صنعها على عينه، يضيف لها دقائق وساعات من تراث كبار المطربين أمثال أم كلثوم، وقراء القرآن وعلى رأسهم معشوقه الأول "محمد رفعت" رغم أنه كان صديق شخصي للشيخ مصطفى اسماعيل.

للشيخ "رفعت" عند محبه الكثير من التفاصيل، يحفظها عن ظهر قلب حال الآيات التي يتلوها بمقامها وقراءتها فلا يخطئ سمعه كلمة أو حرف نطق به "رفعت" صاحب الحس المرهف الذي عُرف عنه، ويؤكده "عكاشة، بتلك المرة التي كان يصلي بها الشيخ متوليًا دور "التبليغ" –ترديد كلمات الإمام ليسمعها المصلون لعدم وجود ميكرفونات-، أنهى الإمام الركوع وقال "سمع الله لمن حمده" ليتبعه "رفعت" بقول "ربنا ولك الحمد" فإذا بالمصلين يخرجون من صلاتهم ويقولون "الله". فختم الإمام الصلاة صائحًا فيهم "صلاتكم باطلة"، فما كان بالشيخ إلا انزوى بركن يبكي لكونه سبب في ذلك، ولم ينتهِ الأمر إذ لازم الاستغفار طيلة طريق العودة إلى المنزل.

جمع التراث الصوتي لا يتعدى "حب" لدى المستمع الستيني بل يصفه بـ"جنون" محبب، رفض إخضاعه للتجارة رغم العروض التي تأتيه بين الحين والآخر ودفع المقربين له لانتفاع مما يحتفظ به لكنه يؤمن "لو دخلت في السكة دي هيبقى عندي نهم للفلوس وهنسى كل حاجة لكن كده أنا عاشق".

"محدش بيحبه قدي" بثقة تحملها النفس ويقين، بات "السمّيع" واسم "الشيخ رفعت" مرتبطان، تأثر به حد الولع الذي يجهل سببه رغم مرور السنوات، غير أن سيرة قارئ الإذاعة الأول منحته حكمتها، فصبغت عليه إذا ما تحدث عنه "مرض الشيخ رفعت كأنه ربنا يريد أن يبعث رسالة أن كل شيء إلى زوال.. وفي نفس الوقت الناس ما تفتنش به".

على الأريكة المواجهة للمكتبة، بينما يخرج صوت الشيخ رفعت يملأ صداه المنزل من جهاز تسجيل كبير، يجلس المستمع الستيني، يدفن رأسه بين يديه، ينظر للأسفل، عيناه مغمضتان، في لمح البصر تختفي حيويته، يثبت على نفس الوضع، يقطع السكون أحيانًا بهز رأسه يمينًا ويسارًا، أو يُدلي بجملة تُعبر عن امتنانه مما يسمع.

المعرفة التي حرص عليها "عكاشة" عن معلمه "رفعت" كان لها الأثر في التعمق بصوته، إزاحة الستار عن أسئلة يطرحها حين سماعه، حال قرار –طبقة صوتية- الشيخ والحزن الممزوج بالقوة حين تلاوته، الذي علم سببه بعد المعرفة عن تقليد يوم السبت الذي لم يبرحه "رفعت"، فهو ميعاد الذهاب إلى حديقة الحيوان لا لشيء سوى سماع صوت زئير الأسد وهو حزين "لأنه اليوم اللي بيجوعوا فيه الأسود عشان يأكلوهم لحمة تاني يوم.. وده طبيعته يسمع كل الأصوات ويطوع أي حاجة يسمعها لخدمة القرآن".

40 عامًا لم يبرح فيهم المُحب شيخه، آثر عام 2006 أن يضع ما استطاع جمعه من معلومات وحكايات عن حياته في كتاب من 200 صفحة "عايز الناس تعرفه.. العامة كل علاقتهم بيه إنه بيفكرهم برمضان"، وضع به رحلته مع كل من التقى "رفعت" أو عرف عنه محبين كانوا أو مشاهير "سيد مكاوي كان بيجيلي البيت نتكلم عن الشيخ"، وحال رحلته في السمع وجمع التسجيلات، سيقوم بتوزيع الكتاب الذي استغرق العمل به 8 سنوات دون مقابل، فقط يتمنى الوصول لدار نشر تتولى الطباعة.

جهد لم يآلوه "عكاشة" ليعبر به عن ولاءه للشيخ عن طريق الوصول لتسجيلات نادرة له من المستمعين، أو تحسين جودة التسجيلات، فقد كان الشيخ لا يُسجل أقل من50 دقيقة "حاولنا نقطعها لدقائق"، باستديو بمنطقة المهندسين يجتمع صفوت وبعض الأحفاد، إرهاق بدني اعترى الجميع لإنجاز الأمر، المُحب كان قليلًا ما يعود للمنزل بعد انتهاء يوم عمل طويل "كنت ببات هناك بالـ3 أيام، كان حسين ابن الشيخ يجيبني من الشغل على الاستديو والعكس".

دراسة "عكاشة" للمقامات والأصوات كان لها فضلها في جمع تراث الشيخ، فبين الأحفاد يقود "السميع" مسيرة العمل لاستكمال الآيات أو الكلمات المفقودة من التسجيلات بالصوت ذاته، ورغم ذلك لا يخلو الأمر من المشاكل، عندما اصطدم فريق العمل بكلمات ليس لها مثيل في المُصحف، ككلمة "أبكم" في سورة النحل "دي اضطرينا نجيب حروفها من الآيات اللي قرآها الشيخ ونلزقها سوا"، استغرق تجميعها فقط 35 أسبوعًا.

لقراءة الشيخ أفضال، عرفها "السميع" كما بعض فناني زمن "رفعت" ممن أدمنوا صوته، الملحن محمد عبد الوهاب على رأسهم، للجلسات التي اجتمع فيها محبوه انضم، لم يكتفِ بذلك بل عرّف أكثر من صديق بالمهنة على سهراته، منهم المُلحن مدحت عاصم "عبد الوهاب قاله تعالى يوم الجمعة نروح مسجد هسمعك شيخ عظيم بيقرأ قبل صلاة الجمعة"، اتفقا على الميعاد المقرر في الثامنة صباحًا "مدحت قاله هو إحنا رايحين قرءان الفجر ولا الجمعة؟"، لكن "عبد الوهاب" يعلم السبب، لم يجد الصديقان مكان وسط الجموع التي ملأت المنزل، بينما الساعة لم تبلغ الثامنة والنصف بعد، وبالكاد شقوا الطريق للصفوف الأولى.

لم ينس "عاصم" تلك المرة، لجانبه جلس "عبد الوهاب"، يشد على يده كلما قال "رفعت" آية أظهرت جمال أداؤه، الملحن كامل الشناوي كذلك قابل القارئ بسبب "عبد الوهاب"، حتى أن الأول نقل مكان سكنه كي يبقى قريبًا منه طوال الوقت، نجيب الريحاني كان في أوج شهرته حين سمع الشيخ الكفيف "كان بيتحول من فنان له معجبين لتلميذ يجلس بين أيدين الشيخ"، حتى أن شائعة ترددت عن إعلان "الريحاني" إسلامه قبل أن يموت، لا تخلُ تفاصيل المحبة كذلك من بديع خيري، الذي كتب فيه زجلًا، والمغنية ليلى مراد كانت من المحبين لقراءاته أيضًا.

سيرة الشيخ التي تشرب "عكاشة" تفاصيلها لم تخل من المواقف الطريفة مع الأهل والأصدقاء؛ فكان حينما يجالس صحبة "الصالون" –عبد الوهاب، الريحاني وغيرهم- الذي لم ينقطع عن منزله إلا بموت الوافدين كان يقلد الباعة الجائلين بصوته، فتعلو الضحكات الوجوه.

وجمع الشيخ بزوج ابنته "عبده فراج" موقف طريف، إذ كان يستمع له في الإذاعة؛ فأعجبه مقام يُسمى عجم يقرأ به الشيخ بين الحين والآخر "فقال له ياريت يا عمي تكتر لنا منه شوية"، فضحك "رفعت" وأخبره أنه مُلتزم بإرضاء جميع المستمعين في وقت محدود، أما المسجد فالوضع به مختلف، ليذهب زوج الابنة للمسجد "لقاه بيقرأ طول السهرة بمقام العجم.. والناس استغربت وسألوا الشيخ فقال لهم اسألوا عبده".

من مكتبته وإليها يعود "عكاشة" مستمعًا لـ"رفعت" مستهلاً يومه أو خاتمًا له، لا يهم فصوته ما يبرح سمعه، ولا حياته التي باركها لتضم أكبر محتوى تسجيلي في الشرق الأوسط، ينسى في حضرته كل شيء إلا معنى جديد يتلمسه من التلاوة و"الناس توصل إحساسها بالشيخ رفعت زي ما أنا حاسه".

لمتابعة أهم وأحدث الأخبار اشترك الآن في خدمة مصراوي للرسائل القصيرة.. للاشتراك...اضغط هنا

فيديو قد يعجبك: