إعلان

"من أعظم الجواسيس في العراق".. "حارث" اخترق داعش: منع المفخخات وسلّم الانتحاريين

09:09 م الأحد 12 أغسطس 2018

زوجة "حارث" تنظر إلى صوره القديمة

تطبيق مصراوي

لرؤيــــه أصدق للأحــــداث

كتب - محمد الصباغ:

على مدار ستة عشر شهرًا، عمل أحد العراقيين لدى تنظيم داعش الإرهابي. كان جهادياً مسلحًا أمام الجميع يتبع تعاليمهم وقواعدهم، لكن في الوقت نفسه يرسل بالمعلومات السرية إلى المخابرات العراقية.

قال مدير المخابرات العراقية أبو علي البصري، إن سجله كان مذهلًا. استطاع الرجل أن يحبط 30 هجومًا باستخدام سيارات مفخخة، و18 محاولة انتحارية.

وكشف تحقيق نشرته صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية، اليوم الأحد، أن الرجل الذي يدعى حارث السوداني أعطى أيضًا قائمة بأسماء قيادات بارزة في تنظيم داعش بمدينة الموصل للمخابرات العراقية.

كما أشارت الصحيفة أيضًا إلى أن المخابرات العراقية ساعدته عبر وسائلها الإعلامية وبيانات الدولة الرسمية، وذلك عبر تزييف أخبار عن هجمات انتحارية في العاصمة بغداد وتزييف أعداد الضحايا فيها أيضًا.

المتخصص في التكنولوجيا البالغ (36 عامًا)، ربما هو أعظم الجواسيس في تاريخ العراق، وأحد القلائل الذين استطاعوا اختراق التنظيم الإرهابي الذي سفك الدماء وبث الرعب في النفوس على مدار السنوات الأخيرة.

ربما تكون وحدة الصقور بالمخابرات العراقية هي الأهم في الخطوط الأمامية في الحرب ضد داعش، والتي ربما لم يسمع عنها الكثيرون.

أجرت نيويورك تايمز، مقابلات مع مدير المخابرات العراقية وأفراد من وحدة "السوداني" وأصدقائه أيضًا، بجانب أفراد من عائلته. كما اطلعت الصحيفة على مقاطع فيديو للعمليات، والرسائل النصية من وإلى الجاسوس العراقي الأبرز.

ساعدت وحدة الصقور في هروب قادة التنظيم الإرهابي خلال العام الأخير له في معاقله القوية، وعلى رأسهم زعيم داعش أبو بكر البغدادي.

لم يتحدث كثيرون في عائلة السوداني عن طموحه بأن يكون جاسوسا. ولا حتى والده، عابد السوداني، تخيل أن يتحول ابنه بهذه الدرجة بعدما كان يجعله يعمل بعد الجامعة في محل الطباعة الذي يمتلكه.

وأساتذته بجامعة بغداد أيضًا، حيث كان يرسب في الامتحانات. لم يستغل فرصة الدراسة، وبدأ حياة بين مطاردة النساء وإهمال الدراسة.

وأعطاه والده إنذارًا "حاسمًا"، بحسب وصف أخيه منذر، فخيّره بين الاستقرار والحياة حسب ما يريد الوالد، وإما الطرد من المنزل. استقر "السوداني" في زواج تقليدي وعاد إلى الجامعة، ودرس الإنجليزية والروسية.

تأسست وحدة الصقور العراقية في عام 2006، وبعد سنوات وتحديدا في 2013، كان حارث السوداني يبدأ خطواته الأولى بمهمة مراقبة الحسابات الإلكترونية والمكالمات الهاتفية للمشتبه في كونهم إرهابيين.

ويقول شقيقه منذر: "كان متحمسًا جدًا للمرة الأولى في حياته. كان سعيدًا. رأينا جميعًا ذلك".

التمويه

2

في صيف عام 2014، استولى تنظيم إرهابي أطلق على نفسه "الدولة الإسلامية" على مساحات شاسعة في العراق وسوريا، وأعلن ما يسمى بالخلافة. وبدأت وحدة الصقور مهمة جديدة: اختراق التنظيم بوكلاء سريين (جواسيس).

تطوع حارث السوداني، وقال قائده سعد الفالح، إن ما حمسه على ذلك هي صور الأطفال الذي قتلهم التنظيم الإرهابي. وأضاف: "لم يقدر على تركهم يفعلون ذلك. فهو أيضًا أب".

بدأ في تلقي التدريبات، حتى يستطيع خداع الإرهابيين في التنظيم الوليد. وكان حارث السوداني تربى في محافظة الرمادي العراقية ذات الأغلبية السُنيّة، وساعدته لهجة المدينة في عملية الخداع.

لكنه كان شيعيًا، لا يعرف التعاليم السُنيّة بشكل جيد. فبدأ في حفظ الآيات التي يكررها الجهاديون والمتعلقة بالصلاة والقتل.

حمل اسم "أبو صهيب"، الرجل العاطل من ضاحية سُنيّة بالعاصمة بغداد. وكانت مهمته هي زرع نفسه داخل التنظيم الإرهابي. وفي سبتمبر من عام 2014، وقبل بدء المهمة، جلس مع شقيقه منيف الذي كان يعمل في المخابرات أيضًا، وأعطاه النصائح حيث كان أول من يقوم بمثل هذه المهمات.

في صباح اليوم التالي، تحرك "السوداني" نحو أحد مساجد مدينة الطارمية على حدود بغداد، حيث اعتادت خلية تابعة للتنظيم الإرهابي على عقد اجتماعاتها. ظل بالمسجد اليوم بأكمله، أطول من المدة المخطط لها.

وبالفعل نجحت الخطوة الأولى، فقد قبلت الخلية "أبو صهيب" كأحد أفرادها. وبدأ حياته في الطارمية.

تزييف الضحايا والعمليات الانتحارية

أيامه الأولى كانت مليئة بالتدريبات الدينية وأيضًا أخرى متعلقة بالتعامل مع المتفجرات. وبعد أسابيع قليلة، بات "أبو صهيب" عضوا رسميًا في تنظيم داعش بالموصل. أصبح من المسئولين الرئيسيين عن توفير الدعم اللوجستي المتعلق بالعمليات الانتحارية في بغداد. فبعدما صدّفوا أنه من سكان بغداد، بات عنصرا هاما في تفادي نقاط التفتيش إلى داخل العاصمة.

كان يتلقى مكالمات هاتفية أسبوعية من أجل لقاء انتحاريين قادمين إلى الطارمية من مناطق سيطرة داعش، أو استقبال سيارة مفخخة. وفي كل مرة –بحسب نيويورك تايمز – كان يرسل تحذيراته إلى "الصقور"، ومهمتهم منعه وما أو من معه من الوصول إلى بغداد.

كانت الخطة تقوم على الوصول بالسيارة المفخخة لمنطقة يمكن إبطالها، أما الانتحاريين فكان المطلوب هو إنزالهم بمنطقة يمكن استهدافهم فيها أو القبض عليهم.

ونشرت الصحيفة مقطع فيديو لسيارة قادها وقبل نقطة تفتيش على مشارف بغداد، أنزل الانتحاري الذي كان معه، قبل أن يتم استهدافه برصاصة قناص.

بعد ذلك تأتي مهمة أخرى، حيث كانت السلطات العراقية للحفاظ على رجلها داخل تنظيم داعش، تقوم بتزييف أخبار وصور عن عمليات انتحارية أو سيارات مفخخة، وفي بعض الأحيان كان يتم الإعلان عن رقم كبير من الضحايا.

كان الرجل يعاني من مشاكل صحية بسبب الخوف الذي يلازمه. ويقول شقيقه منيف: "تخيل أنك تقود شاحنة مفخخة بحوالي 300 كيلوجرام من المتفجرات. تفكر في أنه يمكن أن تموت بأي لحظة. فعل ذلك مرات ومرات".

وبالعودة للعائلة، فقد تسبب غيابه المفاجئ في التوترات. والده وشقيقه منذر فقط من علموا بحياته السرية. زوجته رغدة شلوب، كانت تعتقد أنه أهملها وأطفالهم الثلاثة.

وقالت لصحيفة نيويورك تايمز: "أعتقد أنه خاف من أنني سأكون قلقة لو علمت الحقيقة. لا تريد امرأة أن يتربى ابنها بدون أب".

الشكوك

4

في منتصف عام 2016، كان هناك شعور إيجابي بأن تنظيم داعش يمكن هزيمته. وفي الموصل حيث قادة "السوداني" أو "أبو صهيب"، تم زيادة مهام الرجل الجاسوس.

طلبوا منه البحث عن ضواحي ومقاهي في بغداد يمكن استهدافها بهجمات. وفي إحدى مهام البحث، حاول التسلل في زيارة نادرة إلى منزل العائلة.

حينها سأله أحد قادته بداعش عن مكانه بالتحديد. قال "السوداني" إنه كان في المنطقة المستهدفة، فرد القائد بأنه "كاذب" بعدما تابع إحداثيات هاتفه.

كان ذلك الإنذار الأول. قال منيف لشقيقه إن المهمة حان وقت إنهائها، لكن السوداني رفض ذلك.

في التاسع عشر من ديسمبر عام 2016، نفذ التنظيم عملية دهس بشاحنة في سوق بالعاصمة الألمانية برلين، ما أسفر عن مقتل 12 شخصا وأصيب العشرات.

وفي 31 من ديسمبر، تحدث قائد التنظيم الإرهابي بالموصل إلى "السوداني" وأخبره أنه قد تم اختياره لتنفيذ هجومًا في يوم رأس السنة، ضمن سلسلة من الهجمات المخطط لها حول العالم.

هنا، قاد الجاسوس العراقي سيارته البيضاء إلى ضاحية الخضراء شرقي بغداد. وكالعادة اتصل بالصقور لشرح المهمة وكيفية التصدي لها.

مرة أخرى كان "السوداني" في طريقه للمنزل الآمن التابع للمخابرات العراقية، وتلقى اتصالاً من قائده بداعش. حينما أخبره أنه في طريقه للمهمة الموكلة إليه اتهمه مرة أخرى بالكذب. واخترع حينها "السوداني" مبررًا، وقال إنه ربما اتخذ الطريق الخطأ.

كان في طريقه لتسليم المتفجرات التي معه للمخابرات لإبطالها، وطلب منهم الاقتراب أكثر من الموقع المحدد من قبل داعش حتى لا يتم كشف أمره. عاد إلى الطريق، وبالفعل اقترب منه عناصر المخابرات وأنهوا المهمة.

وفي دقائق وصل السوداني إلى الموقع المحدد بعد ذلك. وفي ليلة رأس السنة، نقلت وسائل إعلام عربية عن مسئول عراقي بارز أن شاحنة بيضاء انفجرت خارج سينما البيضاء في العاصمة بغداد. نجحت مهمة السوداني بذلك.

لكن الأمر لم يكن كذلك فقد زرع الإرهابيون في الشاحنة أجهزة تنصت تسمح لهم بسماع كل المكالمات بين "السوداني" ووحدة الصقور بالمخابرات العراقية. وقال اللواء الفالح لنيويورك تايمز: "شعر بأنه مشكوك فيه. لكننا لم ندرك حجم ذلك".

المهمة الأخيرة

5

في يناير من عام 2017، استدعى التنظيم الإرهابي "السوداني" من أجل مهمة أخرى، وأخيرة. أرسلوه إلى موقع جديد، مزرعة خارج مدينة الطارمية. كانت بعيدة عن المراقبة وصعب الهروب منها.

طلب منه شقيقه منيف عدم المخاطرة، مشيرًا إلى أن تغيير المكان يدل على شكوكهم. لكن "السوداني" قرر الذهاب.

ويقول منيف لنيويورك تايمز: "لا أعتقد أنه وثق فيهم. ربما أعمته رغبته في جعلنا فخورين به".

في صباح السابع عشر من يناير، دخل "أبو صهيب" المزرعة. وفي المساء، أبلغ "الصقور" قائدهم بأن هناك خطأ ما.

ولأن الطارمية كانت منطقة سيطرة داعش، بات الدخول إليها أمر صعب. وبعدما وضعت الخطة وبدأ التنفيذ، كان قد مر ثلاثة أيام، وبعد اقتحام قوة مشتركة من الشرطة والجيش المنطقة، لم يكن هناك أثر لـ"السوداني".

منذ ذلك الحين بدأ "الصقور" يجمعون الأدلة. اكتشفوا أجهزة التنصت بالشاحنة. واقترح البعض أنه قد تم اصطحابه إلى مدينة القائم البعيدة عن سيطرة الحكومة العراقية.

لكن في أغسطس، أصدر التنظيم الإرهابي مقطع فيديو أظهر مقاتليه يعدمون مجموعة من السجناء. وتأكد "الصقور" من أن "السوداني" واحدا منهم. وقال شقيقه منيف: "تربيت معه، وتشاركنا غرفة النوم. لا أحتاج إلى رؤية وجهه حتى أعرف أنه أخي".

ويبقى ألم لن يفارق عائلته بعد معرفة الحقيقة، فرغم صدمة الحياة السرية التي لم يكونوا يعلمون بها، لم يدفنوا جثة ابنهم ولا يعلمون أين هي وما حدث لها.

تعتبر المخابرات العراقية "السوداني" أحد أبرز أفرادها، وساعد في عمليات كبيرة ونجاحاته سوف يتم تدريسها في تدريب أعضائها الجدد.

وبعد استعادة مدينة القائم من التنظيم الإرهابي في نوفمبر الماضي، أرسل "الصقور" فريقًا للبحث عن رفات رجلهم، لكن دون جدوى.

فيديو قد يعجبك: