إعلان

تغريدات .. "من زمن فات"

د.هشام عطية عبد المقصود

تغريدات .. "من زمن فات"

د. هشام عطية عبد المقصود
07:00 م الجمعة 04 فبراير 2022

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

ستكون تلك الكتابات مفارقة مدهشة، تحمل أثرها عبر الوقت كمشاهدات على ديوان الحياة حقبا وأياما، حكايات وملاحظات، بصرا وبصيرة، دهشة وتقبلا ثم مابينهما، إنها حكايات الأوائل الذين ذهبوا إلى الغرب متعلمين أو زائرين، فيلاحظون ويسجلون ثم يكتبون ما يبدو حين نتناوله اليوم تأريخا ما لتلك الوقائع التى عايشوها أو تلخيصا لمدن والعالم يحمل بصمة " الإبريز" كما صكها رفاعه الطهطاوى فى وقائع رحلته ومشاهداته فى باريس والصادر عام 1834، حيث الإبريز لديه نفائس الذهب من ثمين الأفكار وأنماط الحياة وطرق المعايش التى يستخلصها وينقيها صافية من عموم مايقابل ويرى.

وقد ظلت باريس مقصدا أثيرا لمثقفى مصر والعرب طوال النصف الأول من القرن العشرين، فهى حاضرة بشكل واضح فى "أيام" طه حسين وعبر كونها مستودع الذائقة الأدبية فى "صوت باريس"، أو لدى ما شكل بهجة عند توفيق الحكيم فى "عصفور من الشرق" وما أثمر لديه يانعا باعتباره " زهرة العمر" وليس أدل على ذلك من عنوان كتاب مبكر نسبيا عنهما وتضمن رحلة الدكتور أحمد زكى باشا إلى فرنسا عام 1900 بعنوان " الدنيا فى باريس"، بينما ظلت بعض الكتابات الأخرى الكثيرة ليست حاضرة بالقوة نفسها، ولعل واحدا من أكثر الكتابات التى تحتشد بأسلوب فريد وطاقة تعبيرية درامية هو كتاب الدكتور زكى مبارك "ذكريات باريس" والتى تضم ملاحظاته لفترة دراسته للدكتوراة فى جامعة السوربون خلال المدة من 1927 الى 1931.

ويهدى المؤلف كتابه إلى صاحب صحيفة البلاغ عبد القادر حمزة واصفا إياه بالصديق الذى وصل جناحى وراش سهمى، وينتهى الإهداء بتاريخ كتابته ومكانه: مصر الجديدة فى 18 أغسطس سنة 1931.

فى خطاب لصاحبه القاياتى يتحدث واصفا وحيث يمكننا هنا أن نلتقط إشارات تمثل تأريخا ما: "أعود فأقول إنك ذكرتنى بقهوة الحلمية وهى قهوة سخيفة لا هى بالجديدة ولا هى بالقديمة، ولا أعرف لأى سبب هجرتم من أجلها قهوتكم الأولى، التى كانت تسمى دار الآداب، ويظن أنها سميت بذلك من أجل حضراتكم، ولعنة الله على العقوق، وليس فيها قانون ولا عود، ولا يخطر ببال أهلها أن يستقدموا لها ولو مرة فى السنه بديعة أو نعيمة أو أم كلثوم، ومن المحتمل فقط أن يكون صديقنا الأستاذ رامى يطرفكم فيها ببعض أغانيه وتغريداته". هنا التغريدات تظهر كمصطلح مبكر عن اللقطات التعبيرية ذات الجمل القصيرة والدالة التى عرفتها وصكتها منصة تويتر فى تعريبها.

وتحت عنوان " ضحايا السين" يقدم رؤيته التى لا تستسلم لفتنة باريس المدهشة: "لانتحدث هنا عن ضحايا الحب، وانما نتكلم عن ضحايا الفاقة والبؤس .. يعيش أهل باريس فى التطلع لبعضهم البعض، وحسد من يجد لقمته فى الصباح وحساءه فى المساء .. وليس فى الدنيا مدينة يموت فيها الإنسان جوعا إذا نفذت دراهمه غير باريس وتشبهها لندرا وبرلين فى هذا الجانب المظلم فليس ازدهار المدن فى الواقع إلا متعة للأغنياء والموسرين أما الفقراء فلهم من المدن المزدهرة حظ البأساء والضراء".

وهو يعالج ظاهرة ظل لها حضور ووطأة فى الحياة الشرقية محددا أثرها الإجتماعى، وتتعلق بما يستقر فى مخيلة عموم الناس وما يتوقعونه من البعض يقدمها وهو يتابع بعض الإحتفالات: "ثم تكون هذه النكبة الإجتماعية التى درج عليها الناس، وتقضى بأن الجمهور لايحترم الرجل الذى يشاركه فى أسباب دنياه .. وقديما شك الناس فى نبوة الأنبياء لإنهم يأكلون الطعام ويمشون فى الأسواق كما حدثنا القرآن الكريم".

ثم يقدم لنا هامشا تاريخيا وإنسانيا عبر حوار قصير مع بيرم التونسى صاحب الأشعار والأغنيات الذى قابله فى باريس هائما مشردا فقيرا يحمل حنينه إلى مصر باقيا، وتحت عنوان "باريس 29 يوليه 1929" : "فى طريقى إلى المنزل حديقة صغيرة يؤمها الناس من مختلف الطبقات، وأنا أخترق تلك الحديقة عند الغروب لمحت طائفة من الجرائد المصرية فى يد إنسان لا أعرفه، وعلى وجهه مسحة من سماحة الشرق، هذا شاب قصير نحيل، متضعضع مهدود، أنت هنا منذ زمان ؟، منذ عشر سنين، وماذا تصنع؟، عامل فى أحد المصانع أنا محمود بيرم التونسى، فأتذكر صيف عام 1919 وكان شاغلا لجميع الأندية المصرية، بمجلته الصغيرة اللذاعة ( المسلة )، وأخذ يسألنى عن مصر وعن الصحفيين الذين يطلبون منه أن يراسلهم مجانا وهو فى أشد الحاجة الى المال ، وقلت له إسمع يامحمود أفندى سأكتب عنك مقالة، رد: هل ستكتب عن بيرم بعد أن نسيه الناس!".

إعلان

إعلان

إعلان