إعلان

مذكرات قرية.. تاريخ البشر والمكان فذاً

مذكرات قرية.. تاريخ البشر والمكان فذاً

د. هشام عطية عبد المقصود
09:03 م الجمعة 07 سبتمبر 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

تمثل السير الذاتية كتابة لها خصوصيتها وليس لذلك علاقة بما يقرره البعض بل ويشترطونه معيارًا لسيرة ذاتية جيدة من صراحة في الكشف لسوءات الذات أو حتى خطاياها – فالأمر نسبى تماما ومن يدري مدى الصدق؟!- ذلك أن كل عمل هو انتقاء وبناء وما يتضمنه ذلك بالضرورة من مستويات سرد وتضمين شخصيات أو إبعادها، ومنحها دورا محوريا أو هامشيا فضلا عن موضعها إيجابا أو سلبا في عين السارد صاحب السيرة.

ولعل بعضًا من أجمل السير الحديثة والمعاصرة ما قدمه توفيق الحكيم في "سجن العمر" ثم في "زهرة العمر" وأيضا تقف السيرة الذاتية "الأيام" للدكتور طه حسين علامة بارزة، وما قدمه الدكتور لويس عوض في سيرته المبادرة عربيا بتبني فكرة كشف ما قد يراه البعض غير لائق في مجال العلاقات الاجتماعية، ثم السيرة الناقدة وأحيانا الناقمة للحياة الثقافية والعلمية في مصر خلال ستينيات القرن العشرين والتي قدمها الدكتور عبدالرحمن بدوى، وغير ذلك من سير شهيرة ومعروفة، تحمل جمالا فنيا في سرد تحولات الحياة والإنسان بين الأمل والرجاء.

ثم هناك مذكرات تأتي متعتها من المفاجأة، مثل كتاب "مذكرات قرية" للدكتور عصمت سيف الدولة، حيث لم يصنع الترويج الإعلامي لها حضورا يعرفك بها، وتكون المفاجأة في اختيارك لها في ظل عنوان يبدو كلاسيكيًا، والمذكرات تقدم سيرة لصعيد مصر مكانا وبشرا عبر قرية نشأ بها الكاتب وعرف حياتها واستغرق في عمق تجاربها، ليمنحنا تلك التفاصيل التي تحتشد ببراعة الفكرة والكتابة معا في ضفيرة لا تختل، ثم طاقة الحكي والإمعان في التأريخ دون شوائب الملل، سيرة عن الإنسان والمكان في فترتي نهايات القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين وهو ما يكسبها زخم توصيف الحياة الاجتماعية في تلك الفترة، منحها طبيعة المؤلف البحثية وعمق تكوينه وثقافته طابعا خاصا، كتاب يقع بالصدفة بين يديك في أثناء انتقاء ما يمكن إدخاله قائمة القراءة من معرض يحتشد بالكتب، لتتردد حتى تطالع سطوره الأولى ثم تمضي به فرحاً.

يبدأ كتاب مذكرات القرية بتأصيل لمفردات ولغة القرية وما يرتبط بها من دلالات إنسانية أوسع نطاقا، العقل كالرحى تتلقى مادة من خارجها فتجرشها أو تطحنها وتحيلها إلى تكوين جديد.. وكلما قلت تلك المادة أو هزلت خف الفكر وانخفض مستوى الإدراك.. وتبدأ الرحى التي انقطعت عنها مادة الطحين في طحن حجريها ذاتهما، فيخف حجراها بعد أن طحن كل منهما الآخر.. والغريب أن أهل القرية يصفون الرحى التي تطحن حجريها إلى أن يخفا فلا يعودا يصلحان للطحن بأنها "تلحست" أي أصبحت ملساء ثم ينقلون التعبير إلى الإنسان فيقولون عمن اضطرب تفكيره أنه "ملحوس".

وفيما يخص سمات الزي في القرية الصعيدية يقدم المؤلف استنتاجا فريدا له وجاهته لأصل الزي ودلالته وحضوره قيمةً ومكانةً "واللبدة بشملتها ليست مجرد غطاء للرأس عند أهل الصعيد، إنها تحمل بقايا ما كانت ترمز إليه يوم أن كانت اللبدة البيضاء تاجا لملوك الصعيد الفراعنة، وكانت الشملة علامة الانتماء إلى الفاتحين المنتصرين، فلا يضعها على رأسه من جميع سكان الكرة الأرضية إلا الصعايدة قبلي ابتداء من أسيوط حتى وادي حلفا ولا يحملها على رأسه إلا الرجال البالغون وتبقى على رأسه إلى أن يموت أو أن تبلى فيستبدلها بأخرى جديدة، والعار أن تسقط عمامته وينكشف رأسه، ذلك هو العار لأن سقوطها علامة الهزيمة تماما كما كانت في صراعات الملوك في مصر القديمة، لا يخلعونها صيفا أو شتاء، فإن خلعت سهوا يصيب الرأس العارية صداع أليم قد يكون تعبيرا لا شعوريا عن رفض ما يرمز إليه غيابها"

وفى تعبير جميل تجليات ما يفرضه ضيق اليد والفاقة ثم ذلك النفاذ إلى عمق الثقافة الشعبية وتوظيفها دينيا واجتماعيا لدى البسطاء تحايلا على المعايش واستمرارا "يصوم أهل القرية جميعا شيوخا وكهولا ورجالا ونساء.. ويعرفون أن الزكاة فرض ولكنهم لا يخرجونها فقرا، وأن الحج فرض لمن استطاع إليه سبيلا ولا يحج أحد منهم إلا نادرا لأن الاستطاعة نادرة، ويقدم الفقر الشائع تبريرا يرضي ضمائرهم، فمن بين كل ما صاغه الفقهاء من أحكام لا يعرفون فيذكرون إلا أن الضرورات تبيح المحظورات وينطقونها بكلماتها العربية الفصيحة".

وتقدم المذكرات أيضا ما يشبه التأريخ لسيرة ما يفعله فيضان النيل في القرى والبشر في مرحلة ما قبل إنشاء السد من بطالة تشمل الجميع فيتفرغون للألعاب الشعبية، ثم ينتقل ليحكي عن تحولات القرى بفعل وسائل النقل، وكيف تصنع القطارات ومحطاتها طبيعة المدن وتشكل تحولها "المحطة تحولت إلى قرية صغيرة حديثة يفد إليها ويقيم فيها باعة المأكولات والمشروبات، وأنشئت المقاهي والمطاعم، وأنشأ أصحابها إلى جوارها مساكن لهم ولأسرهم، والزحام حاضن الجرائم، فأنشئت نقط الشرطة، وجاء إلى المحطة كتبة ودفاتر وحراس وخدم ولكل هؤلاء أسر وأولاد وبنات وربما حموات، ثم الحاجة إلى مساكن تليق بهم".

وفي لمحة ذكية عما يفعله التعليم من تطوير وترقية للمدارك والعادات في المجتمعات يصف الكاتب ما فعله دخول التعليم وافتتاح المدرسة في قرية مصرية بالصعيد في ذلك الزمان البعيد "افتتحت في القرية مدرسة، طُليت حوائطها بالجير الأبيض.. وفى ردهتها أعجوبة الزمان صوان مرتفع ذو ضلفتين، وراء كل ضلفة زير معلق تحته إناء من صفيح، ماء القرية معكر لكنه هنا ينضح فيتحول إلى ماء رائق، ماء بنورًا لم تذقه القرية قط، تلك هى "المزيرة" الأعجوبة يحرسها فراش يحمل أكوابا من الصفيح، يملؤها ماء رائق يقدمها بدون مقابل للتلاميذ، ولا يسقى أحدًا من كوب شرب منه غيره إلا بعد أن يفرغ ما بقى منه - وذلك عجيب - فكل الناس في "المناضر" يشربون من قلة واحدة تنتقل من خشم إلى خشم ولا يبالون، كان ذلك سببًا في تهافت كثير من رجال القرية على زيارة المدرسة".

إعلان