إعلان

عن توحّش الصعيد وأضواء العاصمة المبهرة.. من أوراق مهاجر صعيدي

حازم دياب

عن توحّش الصعيد وأضواء العاصمة المبهرة.. من أوراق مهاجر صعيدي

حازم دياب
12:01 م الأحد 26 أغسطس 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

لا يمكن أن أتذكّر من طفولتي إلا ما وعيته، وما عرفته من حكايات الأهل لكي يكملوا الإدراك الطفولي الناقص. كان المستقر الذي لم يكن لي إرادة فيه في بلدة تُدعى بني مزار. تنتمي لمحافظة تنُعت بعروس الصعيد. الطفولة في الصعيد منذ ثلاثة عقود لم تكن بائسة كبقيّة مراحل العمر. يكفل ذلك انتشار الحارات السد وقلة مرور السيارات وتوطد العلاقات بين غير الأقارب.

نلعب الكرة في الشارع دون أن نخشى تهوّر سائق أو نوقف اللعب لزمير سيارة. نهيأ حفرة في ركن من زقاق ونستخدم – في الأغلب – سبابتنا لكي نلعب "البلي". كنت مميزا بين أقراني حيث كان سفر والدي للقاهرة باستمرار يجعلني من ملاك البلي كبير الحجم والملون والسيراميك. يتخلل اللعب في بعض الأحيان نداء بائع الترمس، أو رائحة البطاطا المشوية، ودائما ما نلهث خلف السيدة التي تفترش الأرض وتبيع الزلابية. رائحة السكر الأبيض المطحون الذي يكسو الزلابية الساخنة مازال يزكم أنفي حتى الآن.

الانتقال لمرحلة دخول المرحلة الابتدائية سوف يخرجك في الأغلب من جنة الطفولة، خصوصا إن كنت من السواد الأعظم من أهل الصعيد ممن الرزق عندهم "يومه بيومه". حظي الجيد – الذي لم يكن لي دخل فيه أيضا – جعلني في زمرة أسرة حاول ربها أن يحسن من دخلها عبر مشروع تجاري خاص. وجاءت والدتي من صلب عائلة ورثت بعض الأراضي بما يجعلنا قادرين على النشأة السوية داخل مدارس خاصة. التعليم الحكومي يمر بأزمة في كل نطاق المحروسة، لكن في الصعيد الوضع أكثر سوءا. تنظر للطالب فتشعر بالرثاء. تتطلع لهيئة المدرس فتشعر بالحزن. تشاهد المباني فتفقد الأمل. أدركت الفروق التي بدأت تنشأ حين توقفت بعد سنوات عن مرافقة أصحاب الطفولة من لاعبي "البلي" والسبع طوبات ومن يتخذون حائط الحارة السد كمرمى للعب الكرة.

تحذيرات الأهل من الرفقة وسماع الشتائم وانتشار الشجارات وظهور أمواس الحلاقة في الخناقات أبعدني تماما. يدفع الأمر ربما للسؤال عن النشأة الواحدة واختلاف المصائر بعد ذلك بسبب الحظ والمال. والدتي تعمل الآن مديرة بإحدى قطاعات الصحة على شفا المعاش. في مهدها كان لها أخ في الرضاعة تلهو معه لسنوات قليلة. حين امتدت هذه السنوات أصبح هذا الأخ سائق "حنطور". خشيت قول "عربجي" كما ألفنا في الصعيد لاستشعاري للحظة كونها سبة. لم تحك لنا عنه أو عن أولاده. ربما لو أكمل تعليمه، أو نشأ في بيت ميسور ماديا لتوطدت رابطة أزلية. لا يمكن تعميم الأمر أو إعلانه كنظرية، لكن مشاهداتي في الطفولة في البلد الذي قالوا إنّه سمي بني مزار تحويرا لباب المزار، تكفل لي تبنّي هذا الرأي.

أحببت القراءة ولعب كرة القدم وألعاب القوى من صغري، فلا استطعت الحصول على الكتب سواء من مكتبات خاصة أو من مكتبات المدرسة، ولا وجدت ملاعب مناسبة أو أماكن أستطيع أن أمارس فيها هواياتي. كان ذلك يصيبني بالحنق، وكانت تلك هي المرة الأولى التي يلمح فيها والدي بشكل صريح لي ولأخي الذي يكبرني بخمس سنوات أن مستقبلنا ليس هنا، وأن سكننا بالصعيد مجرّد مرحلة تنتهي بانتهاء التعليم، وهو ما كان. والدي عمل مفتشا للتموين لمدة ٣٢ عاما، وكان مرتب الشهر الأخير قبل عامين فقط لعمله لكل هذه السنوات ٢٩٥٠ جنيها تشمل كل الحوافز والمكافآت. ومن يناظره في نفس العمل الحكومي في العاصمة يتفاوت مرتبه بشكل أكبر. عموما طالما أهلك ليسوا من ملاك الأراضي والأعمال التجارية فأنت مضطر للسفر سواء للوجه البحري، أو ركوب الطائرة والانتقال للخليج. والأخير كان يرفضه أبي لرغبته في أن نبقى أسفل مظلة واحدة ولو بعدت المسافات التي تؤرق القلب، لكن بيدنا القدرة اللحظية على جعلها قريبة.

نشأت دينيا متسلحا بحكايات الأنبياء والصحابة التي كان يسردها عليّ والدي. أذكر كم الشجارات التي كانت تحدث سواء مع مدرّس الدين أو القرآن في المدرسة لخلافات في الرؤى. حتى حين حاولت الأسرة أن تحفظني القرآن في المنزل، عاد أبي مرة ليجدنا نلعب مع الشيخ كرة القدم ولا نستذكر الآيات.

كان هناك كثير من الشباب الذي ينضوي تحت لواء الجمعية الشرعية من مختلف الطبقات الاجتماعية. ربما أدين بالفضل لأسرتي في ذلك، حيث كان الانغلاق هو العنوان الصارم في هذا الأمر في مختلف فترات الشباب، التي نشعر فيها أن ثمة انفصالاً يجب أن يحدث مع أهل البيت، وارتباطاً يجب أن يوثّق مع أي كيان آخر.

كبرت في الصعيد غريبا. انطوائي بما وطّد لأغلبية أهل البلدة بألا تعرفني وتفاجئ بانتمائي للعائلة في المناسبات. العائلات في الصعيد معروفة لبعضها البعض. وهناك روابط كالدم تتولد بين جيران الشارع الواحد. نظرية النقطة مثلا في الصعيد ليست في الأفراح وحسب. كان لدى والدتي كشكول تكتب فيه ما لها وما عليها: هناك صديقة ولدت، قريب مرض، نجل نجح في شهادة تعليمية. ويتم منح النقطة بالمثل. يحتوى مجتمع الصعيد على تكافل اجتماعي واتحاد بين الأسر والعائلات بشكل ربما مبالغ فيه في كثير من الأحيان. كان عزوفي الاجتماعي يخيّم عليّ الإحساس بالوحدة، ويجعلني أدرك أن الهجرة للعاصمة ليست فقط لأسباب لها علاقة بالتحقق في مجال العمل مثلما يفعل الأغلبية.

يمر في بلادنا نهر وتشقه ترعة، لكن الخير يمرق في الناس لا في المشاريع أو من خلال التنمية. لم يحفظ للصعيد مكانته إلا الأجداد الفراعنة. هناك ظواهر اجتماعية رأيتها في الصعيد ولم أر ما يشابهها في الآخرين. العيد يختلف كليا في الصعيد عن وجه بحري عموما، وتشعر ببهجة حقيقية للعيد وأنت في بلدتك. الاهتمام المبالغ بصلة القربى يظهر في الأعياد. كذلك زيارة الأموات في المقابر فيه تكون أكثر من زيارة الأحياء في البيوت.

في شأن الزواج ربما تكون من أسرة متوسطة أو أقل، وحين تتقدم لعروس يكون الذهب المطلوب حده الأدنى مائة وخمسين جراما، ويزداد طرديا مع وجود فتاة قريبة لأهل العروس حظيت بأرقام أكبر. ناهيك عن تحمّل العريس تقريبا لكل شيء بشكل يشعر فيه الأغلبية مؤخرا بأهمية الهجرة إلى الشمال حال الرغبة في الزواج.

الصعيد أيضا ليس كما تمثلّه الدراما: أناس يمشون بالجلباب في الشوارع، يمسكون السلاح، يوزعون دم الثأر، يسرقون الآثار نهارا، ويتزوجون النساء ليلا. أذكر أن زيارة زوجتي السكندرية الأولى للصعيد وأهلها، رددوا فيها جملة متكررة لأيام: "ما الصعيد مش زي الأفلام اهو". ما زلت فقط لا أستطيع أن أغيّب الذعر من نظرات زوجتي التي تتلقاها من الآخرين حين أضع يدي على كتفها، بينما أحمل طفلي في شيالة ونحن سائرين في الشراع. مثل هذه الأمور تعد عيبا ومثارا للانتقاد، لاسيما في المناطق التي تقترب من الريف جغرافيا.

الميراث في الصعيد مرعب في تقسيمه، والنظرة هناك للمرأة كارثية. النظرة للمرأة كمخلوق وضعي ربما تسيطر على المجتمع بأسره، لكن في الصعيد بشكل مبالغ فيه، إذ لا يعتبرون أن لها حقوقا مادية في الميراث، وينتشر ذلك بشكل أكبر في مجتمعات المزارعين وملاك الأراضي، وتكون نظريتهم أنهم بتوريث الفتاة يمنحون أموالهم وأراضيهم لعائلة أخرى. يؤمن الصعيدي بأن الأرض جزء من العرض، كانت الزراعة أولوية قبل أن يثيرهم التمدن وتصبح ثانوية بعد التجارة والاستسلام للمد العمراني وتجارة الأراضي. كم من قطع كانت تطغي عليها اللون الأخضر، وأصبحت الآن أبراج تناطح السماء.

الطرق في الصعيد كانت مُرعبة حتى وقت قريب لكن ثمة تطوير أصابها أخيرا. لكن مازالت المواصلات وأساليب النقل تحتاج لعطف يليق بشقاء الأهل. زيارة واحدة لقطار الصعيد وأخرى لقطار الإسكندرية تكفيك لاستيفاء الفارق.

في وقت ثورة يناير لم يكن ثمة تحركات كبيرة إلا من المنتمين لتحزبات سياسية ودينية، حيث السواد الأعظم من الصعيد في الفترة الأخيرة أصابه الخمول. البعض يفسر ذلك ساخرا وجادا أحيانا بالقيظ الشديد الذي يجعل الصعايدة "خلقهم ضيق" كما يحلو للبعض وصفهم. يقول أمل دنقل حين زار الإسكندرية: "أحب المطر. أحب أن يغسل وجهى. ويغرق شعرى ورأسي. في الصعيد نتمنى قطرة منه، وهو هنا في هذه المدينة مباح، حتى للبحر الفسيح المليء بالماء. وتظل الرمال عطشى بطول الصعيد".

هناك أكلات في الصعيد لا يناظرها مثيل في أماكن أخرى، والأكلات العادية سوف تجد فقط عيارات زائدة للسمن تصلّب الشرايين وتمنح فرصا هائلة للكوليسترول للعبث في الجسد. الملفت أن السمن البلدي أداة للتفاخر، ولو كانت ثمة مأدبة ما وقامت سيدة المنزل بوضع زيت في الأكل فإن ذلك مسبة في جبين هذه السيدة وأسرتها وإمارة على بخلها. هناك حكمة تخص الأكل في الصعيد تقول أيضا: "ابدأ بالهبر عشان لو جت شوطة تيجي في الطبيخ". والهبر هي اللحم الذي يعشقه أهل الجنوب. اللهجة أيضا مختلفة في النطق، وهناك ممثلون يعدون على أصابع اليد الواحدة أتقنوها في الدراما.

حين انتقلت للقاهرة منذ سبع سنوات كنت هائما كأغلب المهاجرين. أبحث عن فرصة في غير مجال دراستي. أقبض القليل من المال، وأتعرض لضغط المدينة التي لا يتوقف أهلها عن التبرم ومركباتها عن الضجيج. الفشل هنا يعني تغيّر المستقبل للأبد، والرجوع خطوة للجنوب مرة أخرى هو الهاجس الذي يحرّك الصعيدي المنتقل حديثا للعمل في أي شيء. أعرف أصدقاء خريجي جامعات وكليات قمة اضطروا للعمل كعمال و"صنايعية" لمجرّد كسب المال الذي يعينهم البقاء وسط من لا يرحم. في بلدتك لن تنام من غير عشاء. لكن هنا يمكن لبطنك أن تئن من الجوع دون أن تجد من يخرسها. هناك طبقتان من الصعايدة المهاجرين: طبقة عاملة كادحة في مجالات متدنية لم تجد فرصتها في بلدتها، وترتضي السكن في عشش على أطراف القاهرة الكبرى وهؤلاء يأتون في الغالب دون أسرهم في البداية. والطبقة الأخرى التي تؤمن بأن ثمة موهبة ما تمتلكها في أي مجال وبسبب غياب الفرص الحقيقية لهم في بلدانهم ارتحلوا.

تختلف تصرفات الصعيدي بانتقاله للعاصمة. يخلع عن نفسه بعض ما لا يوائم بيئته الجديدة. في بلدتي مرة تحرش لفظيا ميكانيكي بسيدة تعبر من أمامه. ردة فعل الحادثة كان وفاة ثلاثة أفراد وإصابات بالجملة وحريق منزل وتهجير أسرة. لن تحدث نفس ردّة الفعل في العاصمة من نفس الأشخاص. يصبغ عليهم المجتمع الذي يعيشون فيه تصرفاتهم.

المهم الآن أن الهجرة منذ الأزل لا تتوقف. يغضب ذلك الأمر القاهريين، رغم أن أغلبهم من أصول غير نقية. يتغنّي القاهريون ببلدتهم في الأعياد ويسبونها بمجرّد زيارتهم لبلدة أخرى ذات طبيعة غنية.

المثير أن أغلب الناجحين الذين غيروا وجه مصر ثقافيا وفنيا وعلميا وسياسيا وكرويا، كان أغلبهم من المهاجرين من الأقاليم سواء الصعيد أو الدلتا والأماكن النائية والساحلية.

منذ عام تقريبا، ثمة وزير شغل منصب يختص بالإحصاء أطلق تصريحا يقول إن الوقت قد حان ليركب "الصعايدة" القطارات ويعودون من حيث أتوا. رحل الرجل من منصبه، ولن يذكره أحد. لكنهم لن ينسوا الذين قدموا من الصعيد مثل رفاعة الطهطاوي وأمل دنقل وعبد الرحمن الأبنودي ويحيى الطاهر عبد الله وعباس محمود العقاد وطه حسين وعمار الشريعي وهدى شعراوي وأحمد بهاء الدين ولويس جريس وعبد الرحيم منصور ومئات آخرين، صنعوا بصمتهم الفريدة بالبحث عن ضوء العاصمة الجاذب الذي يقهر النفس بقسوته ويمنح الفرص بمركزيته.​

إعلان