إعلان

قطار الحقول البعيدة "قصة قصيرة"

قطار الحقول البعيدة "قصة قصيرة"

د. هشام عطية عبد المقصود
09:02 م الجمعة 10 أغسطس 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

القطار المتوقف على المحطة ذات الرصيفين المتواجهين يبدو متربا قديما كما تختلط ألوان عرباته كأنها تم تجميعها عبر أزمنة مختلفة وجميعها من زمن بعيد تماما، حتى أن درجة اللون الأصلي تخفت فتكاد تتلاشى، يظهر وجه ناظر المحطة من وراء شباك حديدي صغير داخل غرفة صغيرة، وكوب به بقايا الشاي موضوع على مسند المقعد الذي يجلس عليه والمغلف بقماش زيتي اللون، الوقت عصرا والشمس تحنو تمهيدا لغياب.

تتناول التذكرة الورقية منه وتمضى في اتجاه القطار، تعبرك مسرعة سيدة في جلباب ريفي أسود، تحمل طفلها الصغير وتمسك بيد ولد أكبر، يسير عدد قليل من الأفراد، يحملون أشياء كثيرة يبدو بعضها ثقيلا، حقائب قماشية وأكياس تظهر من بعضها ثمار الفاكهة التي دأبت القرى المحيطة على زراعتها.

تكون قد انتقيت صحيفتين يوميتين كعادتك، ثم تتأكد من وجود الكتاب الذي اخترت أن يرافقك خلال هذا السفر، تفضل كتابا لا يرهقك، وستبدو أنك مستغرق فيه حين يحاول البعض بدء أو إطالة الحديث معك، كما سيمنحك حرية أن تغادر سطوره حين تحب النظر لشيء ما، ثم تعود إليه تستكمل صفحات أخرى في تتابع لا يرهق عقلك.

هذا القطار يمر عبر كل المدن والقرى الصغيرة منطلقا من عاصمة المحافظة البعيدة ومتجها إلى الشمال حيث تنتهي رحلته عند مدينة أخرى تتوسط المسافة إلى القاهرة، تحب تلك الرحلة وعلى هذا النحو، بالقطار درجتان ثانية وثالثة لا يختلفان فى شيء سوى أن التواجد في عربات الدرجة الثانية سيمنحك إمكانية اختيار مقعد تراه مناسبا، هو مثلا بعيد عن أول عربة القطار وعن الباب ثم إنه إلى جوار النافذة تماما، وفى الاتجاه الذي يمضي مع واجهة القطار.

شكل المدن الصغيرة والقرى التي تتابع من خلال نافذة القطار يبدو مألوفا، هادئة تمضي وتسلم إلى أخرى تشبهها وجميعها تحمل رائحة ثقيلة راكدة في أول الغروب، بعض اللمبات الخافتة الضوء تبدأ على استحياء في الظهور أعلى أعمدة إنارة على طرق صغيرة تتقاطع مع حركة القطار وتفضى إلى داخل القرى المتناثرة، والتي تتكدس في نقاط منها البيوت متلاصقة، بيوت بلا طلاء بها طوابق قليلة كأنها تحمل شكل الصبر وتفضي بعدم الاكتراث بالعالم خارجها.

يستعد البعض وقوفا عند الباب في انتظار توقف القطار في المحطة القادمة، يهدئ السائق من سرعته ويبدأ ظهور الأفراد الواقفين على رصيف المحطة حيث يمرون كتماثيل بينما يعبرهم القطار بطيئا قبل أن يقف تماما، لا يتغير شيء، يستيقظ واحد هنا أو هناك ينظر الى اسم المحطة أو يسأل جاره عن اسمها ثم يواصل نوما متقطعا، يعبر في منتصف الطريق باعة الحلوى ومأكولات طالما عرفها زمنا حين كان في أسفاره القليلة يصعد إلى ذات القطار، وقبل أن تتشكل طرق تصل بشكل أسرع وأيسر إلى داخل المدن والقرى وليس من خارجها وبعيدًا عنها كما يفعل القطار.

صوت حركة القطار لم يتغير منذ التقطته الأذن في أول رحلة سفر، صوت عريض متثاقل متكرر، وخيط دخان يمضي صاعدا في الفضاء معه كأنه يعلن للبلدات القادمة عن وصول القطار.

ما زالت هناك سبع محطات أخرى تالية حتى يتوقف القطار في المدينة الصغيرة التي تحمل اسما ينتمي الى عصر تاريخي قديم أصابه تعديل لغوى بسيط لكنه ظل محتفظا بأصل الحروف، تعيش القرى على حركة القطار وهى تحمل تاريخها الطويل وتعيد تكرار الوجود وتمضي مع الزمن، يتضاءل الغروب لونا داكنا مع حركة القطار، وتختفي أشكال الحقول الممتدة لتنعس في ليلها، وتتكاثر النجوم في السماء لتبدو كنقاط ضوء بعيدة، المساء يفرد مظلته تماما، وتتحول المسافات من شباك القطار إلى امتدادات مظلمة بلا شكل محدد.

حين يقترب القطار من محطة توقفه، ستعرف ذلك بأضواء صغيرة وبالمكتبة الصغيرة التي يعرف صاحبها ويسأل هل ما زال يتذكره، حيث لا تزال قائمة على ناصية آخر مزلقان للقطار قبل أن يتوقف تماما، حركة الناس تزداد زحاما، تفاجئك رائحة الطعمية تنبعث في الجو شهية تماما، تعرف ذلك المحل الصغير الذى يقدم الطعمية في أرغفة الفينو الطويلة الرفيعة وعليها قطع الطماطم الصغيرة منثور فوقها الكثير من "الشطة"، ستنظر في ساعتك وتتحجج في داخلك بأن الوقت قد تأخر وأنه يكفى ذلك ويجدر أن تأخذ طريقك إلى القاهرة، لكنك ستمضى لتكون في مواجهة المحل الصغير تماما، ستأخذ رغيفين ثم تجلس على كرسي في ذلك المقهى المجاور وتطلب كوب شاي، تُبطل صوت الهاتف وتضعه في الجيب الخارجي للحقيبة الصغيرة، تأكل بينما هواء الشارع يصافح وجهك، تنظر في اتجاه ذات القطار حيث يقف في رصيفه ساكنا، مستعدا ليأخذ طريق عودته عبر الحقول والقرى التي طالما عرفها واعتادها.

إعلان