إعلان

 "الأرجوحة".. أسئلة وجودية مُربكة يُفجرها الفِقدان الكبير (كارلوفي فاري٢)

"الأرجوحة".. أسئلة وجودية مُربكة يُفجرها الفِقدان الكبير (كارلوفي فاري٢)

د. أمل الجمل
04:15 م الأربعاء 04 يوليه 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

الأمر لا يقتصر فقط على أن فقدان الأحبة غربة، فعندما نفقد الأحبة تهتز الأرض من تحت أقدامنا، أحياناً تلتبسنا الحكمة فنُعيد تأمل مشوارنا وحياتنا؛ معناها وقيمتها، وهل تستحق البقاء فيها أم لا؟ أحيانا أخرى تتفجر بداخلنا أسئلة عن الوجود والعدم؛ ما قيمة ما نفعله؟ لماذا نحيا؟ ولماذا خُلقنا أصلاً؟ لماذا هم دون غيرهم رحلوا؟ ولماذا بقينا نحن؟ لماذا التقينا طالما لن نبقى معاً للأبد؟

بعض الناس تمتلك القدرة على مقاومة الفقد، فتبحث عن أشكال متباينة لسرقة نفسها من التفكير والحزن، لقتل الشعور بالوقت، ولو إلى حين. أناس أخرى لا تحتمل، وتقرر الرحيل خلف أحبائهم، لذلك مع مثل هذه النوعية نتفهم كيف يقوم بعض الأهل بإخفاء خبر الرحيل، ربما يمكن تشبيه الأمر بمريض السرطان الذي يُخفي عن أهله حقيقة مرضه الذي لا شفاء منه. بعض الأطباء يختار هذا الاتجاه لحماية المريض من الانتكاسة، والخوف وانهيار المقاومة خصوصا إذا كان المريض إنسانا هش الإرادة. هناك نوع ثانٍ من الأطباء يُفضل أن يعرف المريض حقيقة مرضه حتى يستطيع التعامل مع المرض أو يستعد للنهاية الوشيكة أو البعيدة.

بالفيلم الوثائقي "الأرجوحة" للمخرج اللبناني سيريل عريس اختار والده ألا يُخبر الجد أنطوان بوفاة ابنته ماري تريزا الشابة الجميلة المفعمة بالحيوية والانطلاق الشباب. نرى صورتها النابضة بالحياة معلقة على أحد الجدران، تركز عليها الكاميرا طويلاً كأن عينا محبة عاشقة تتأمل ملامحها، ومن خلف الكاميرا يأتينا صوت الحفيد - المخرج - يسأل والده: لماذا لن نخبر جدي؟ فيجيبه: لأنه لن يحتمل الخبر، لو أخبرناه سيفقد الرغبة في الحياة، سيشعر بالذنب لأنه لا يزال على قيد الحياة، بينما هي الفتاة الشابة التي لم تعش حياتها قد غادرت. سيلوم نفسه، وسيتركها ترحل ليلحق بها، خصوصا أن قلبه لا يحتمل، فهو يعمل بنسبة ٢٥٪ فقط من قدرته.

وعندما يسأله سيريل ثانية: ولماذا أخبرت الجدة فيفيان؟ فيجيب والده: لأنها تخرج للناس وتتفاعل مع الحياة، وتتعامل مع الشارع وستعرف حتماً، لكن الجد لن يخرج، ومن ثم يُمكن عمل بالونة من حوله لحمايته، وعزله عن الحقيقة. يصمت الأب لبعض الوقت قبل أن يُكمل: "وهذا التصرف في ذات الوقت ربما يكون تعبيرا عن أنانيتنا، فعدم إخباره يكشف عن عدم قدرتنا على التعامل مع موت جديد". (يقصد وفاة الجد المحتملة).

ويبقى التساؤل: "إلى متى نستطيع أن نحتفظ بالسر". هكذا يتساءل الوالد، لكن التساؤل الذي ظل يطرح نفسه عليَّ أثناء مشاهدتي للفيلم -في عرضه العالمي الأول بمهرجان كارلوفي فاري الممتد من ٢٩ يونيو وحتى ٧ يوليو الجاري، ضمن مسابقة الأفلام الوثائقية التي تضم ١٢ فيلماً، والذي أعتبره حتى الآن أهم فيلم عربي بالمهرجان دون منافس: هل حقاً لم يُدرك الجد المُسن الحقيقة رغم محاولاتهم المحكمة لإخفاء الخبر عنه، ورغم عدم تواصله مع العالم الخارجي إلا من خلالهم؟!

ينتمي الفيلم إلى السير الذاتية التي يتناول فيها صناعها أحد - أو بعض - أفراد عائلاتهم والتي تكررت في أفلام عدد من المخرجين العرب، منهم مثلاً الفلسطيني "عمو نشأت" للمخرج أصيل منصور الذي يقوم عبر التحليل الطويل، والسعي الممنهج، وتحري الدقة، بمحاولات سرد تاريخ عمه وفهم علاقته بوالده، ولماذا انكسر الوالد بهذا الشكل بعد استشهاد الأخ فينتهي به الحال لاكتشاف أن العم لم يُقتل على أيدي الإسرائيليين وإنما بأياد فلسطينية متعاونة مع الاحتلال الصهيوني، لكن فيلم أصيل منصور كان استثناءً؛ إذ في هذا النوع من الأفلام يظل اللبنانيون أكثر من أجادوا هذا اللون الوثائقي، اقتربوا من مناطق يصعب الاقتراب منها، اقتحموا المحظور، ومن مناطق مؤلمة، قد لا يتقبلها البعض، خصوصا عندما يتعلق الأمر بكبر السن وتوابعه كما في الشريط الوثائقي المؤلم "يا عمري" للمخرج هادي زكاك الذي قام بتصوير جدته المعمرة - ١٠٤ سنوات - وهي مصابة بـ"ألزهايمر"، واقترب بصورة مرعبة ومؤلمة من الطبقات المتراكمة للجلد المجعد في تصوير مفزع يجعلنا نتمنى بأن نكون محظوظين بالرحيل قبل أن نصل لتلك المرحلة العمرية.

هنا، أيضاً، في "الأرجوحة" يقترب سيريل عريس من تلك المرحلة لكن بتصوير فني مغاير، بل أكثر إيلاماَ، ويطرح أسئلته الوجودية المقلقة، ويمنح فرصة للجد التسعيني أن يعبر عن هواجسه عن الحياة والموت، عن مشاعره التي يبدو أنه أصبح غارقاً فيها طوال الوقت، يقول: "أشعر أنني قرب النهاية، أشعر بها فقط… حياتي أصبحت خلفي. كل يوم أعتقد أنه سيكون اليوم الأخير لي في الحياة، وعندما أستيقظ صباحاً أقول الحمد لله، وأشكره على كرمه معي وسخائه، على الأبناء الذين منحني إياهم، ثم يطلب من زوجته أن تفعل بالمثل أيضاً، لكن تلك الجملة الأخيرة تشعل النار وتؤججها في قلب الجدة المكلومة على موت ابنتها الشابة الجميلة، فتبدأ في الدق علي يديها في محاولة لتُصبر نفسها، تغالب دموعها، وفي لحظة ما تنفجر بالبكاء مرددة: "أريد ابنتي، أريد ابنتي". فيسألها أنطوان: مَنْ؟ تقول: ماري تريزا. يسأل مجددا: مالها؟
في المرات التي يسأل فيها أنطوان عن ابنته يخبرونه أنها في الأرجنتين، فيقول:

متى ستعود؟
بعد أسبوعين.

سلموا لي عليها إذا اتصلت، وأخبروها أني أحبها.

فترد الزوجة: وهي تسلم عليك أيضاً.

إنه شريط وثائقي مشغول بحساسية، بأسلوب فني، يتنقل بين أفراد العائلة، يترك كاميرته ثابتة طويلا، دون تحريك فتلتقط أدق وأقرب التفاصيل، وحتى عندما تكون بعيدة، وبينها وبين الهدف حاجز مثل الباب أو الجدار الذي يحتل ثلثي الكادر ويحيله إلى سواد دامس، لكن ذلك لا يحول بيننا وبين الاقتراب بمشاعرنا من الجد أو الجدة، فاللقطات الصامتة ملونة بالمشاعر، تفيض بالمعاني والأفكار، خصوصا للرجل المسن الذي أتم عامه التسعين، بوداعته، استسلامه، وسكينته، بوجه البشوش، ونظرته التي رغم كل شيء تشي بأنه يشعر بالحقيقة، ولا يريد أن يخبرهم، ولا يريد أن يُزعجهم خصوصا أثناء الاحتفال بعيد ميلاده، والنظر إليهم برقة، بشجن، ثم تدمع عيونه، إنه من أجمل لقطات الفيلم، فكأنه ورغم التفاف جميع أفراد عائلته، جميع أبنائه وأحفاده من حوله، يفتقد وجود ابنته ماري تريزا التي كانت قريبة منه جدا، وكان يحبها كثيرا، ويقترب منه أكتر حفيده، سيريل، يترك كاميرته تقترب في لقطة كلوز على عيونه التي تدمع، وكأنه يعرف، وكأنه غير مصدق، ونسمع في الخلفية إحدى النساء تقول: "إحساسي أنه يعرف برحليها، أو يشعر بحقيقة ما نحاول أن نخفيه عنه".

رغم المشاهد العديدة التي تشي بمرض ألزهايمر، خصوصا في مشهده مع حفيدته فهو لا يتذكر أنه تناول طعام العشاء معها منذ قليل، لا يعرف أنها حفيدته، يسألها:

من أنت؟ ما اسمك؟ وعندما يعرف أنها حفيدته يشرد ثم تدمع عيونه. فتسأله الطفلة مجددا:

لماذا أنت حزين؟ فيقول:
لست حزين، أنا سعيد، سعيد لأنك هنا، ولأن والدتك موجودة هنا، أنا سعيد، ويبكي.
لكنه في مشاهد أخرى يبدو على مستوى كبير من الوعي، خصوصا عندما يتم الحديث في السياسة وأخبار داعش، وتصريحات رجال السياسة فيعقب أنطوان على الحاضرين: "كلهم فاسدون، في السياسة لن يتركوا أحدا جيدا حتى يقتلوه…" هكذا يعلق وذلك رغم السن الكبيرة وكأنه لم يعرف ألزهايمر أبداً.

الجدة التي تصغر زوجها بخمسة وعشرين عاما تستسلم، لا تستطيع المقاومة، وبينما هي في انتظار وصول جثمان ابنتها تحاول أن تصمد وألا تضعف أمام زوجها، وذلك رغم حيرتها المتسائلة لماذا ابنتها التي يختطفها الموت؟ تحاول - بدعم أبنائها وحفيدها - أن تقاوم من جديد، لكنها تخشي أن تضعف أمام زوجها، أحيانا تضعف، تقول: أريد ابنتي، عازوة ماري تريز. فيسأل أنطوان بلهفة: ماذا؟ فتغير دفة الحديث. في مرات أخرى تحاول أن تهدئ من نفسها قبل أن تدخل إليه: تقول: سأحاول أن أكون هادئة. أنا قوية، لن أبكي.. يا رب كن معي، ثم تبدأ الحديث معه، فتسأله: احكِ لي شيئاً، يدعي أنه لا يسمعها، مراراً يفعل ذلك وكأنه يهرب من الحكي، وفي مرات يقول: "أنا لا أخرج فماذا أحكي لك"، ترد: كنا شبابا، أما الآن فالحياة صعبة، هنا يرد عليها أنطوان المفعم بالحكمة: كل واحد علي الطريق لازم يكبر، لازم يخاطر، وبعد شوية يرحل. تسأله: لماذا يُخلق الإنسان؟ فيجيبها: لن نعرف أبداً. تقول المرأة الستينية في يأس: أنا نسيت كل شيء، أنا لا أنتمي لهذا العالم، أنا خارج هذا العالم.

رغم كونه فيلماً مؤلما، لكنه شديد الإنسانية، به لحظات مبهجة للجدة، خصوصا في علاقتها مع حفيدها المخرج، وحوارهما التلقائى البسيط الذي لا يدور عن شيء مهم، فقط القهوه تكون حاضرة، الكاميرا تدور وكأنها لا تدور، تحكي معه أنها وضعت بعض المكياج، واهتمت بشعرها، فيخبرها أنها جميلة، لترد أنه من يجعلها جميلة، وبينما تشرب القهوة يتسامرون كأن الكاميرا لا تدور، أو في انتظار أن تدور.

مثلما يستعين المخرج بأشياء من أخبار التفاز ليرسم صورة للمجتمع اللبناني فيلتقط جملا وكلمات من الأخبار منها مثلاً ما يتحدث عن سعر المتر المربع في بيروت الذي بلغ أسعاراً فلكية بالدولار، ثم أخبار آخرى عن داعش والجهاديين، وعن الانتخابات اللبنانية التي انتهت، وكادت يتم تعليقها بحجة الاشتباكات والعنف الطلابي.

الفيلم الذي تم تقسيمه إلى فصلي الشتاء والصيف بعد المقدمة أو المدخل- من دون أن نعرف لماذا تحديدا هذا التقسم غير المؤثر درامياً، ربما يرجع للتوقيت الذي تم فيه التصوير- أخرجه، وأنتجه، وقام بأعمال المونتاج له سيريل عريس، وكانت مستشارة المونتاج والسيناريو له منيه عقل. بوضوح لافت يتميز تراك الصوت عنده، فقد اشتغل عليه مطولاً، ومنحه عناية خاصة في العمل، سواء مع الشخصيات التي نراها على الشاشة تتحدث بشكل مباشر أمام الكاميرا، أو تلك التي تبوح بدواخلها من ورائها، كالجد، أو الجدة، أو الابن الذي هو والد المخرج، كراوٍ أحياناً من أي منهم، أو الأخبار التليفزيونية التي يجلسون لمتابعتها، ونسمع فقط صوتها من دون أن نري صورها، فقط نراهم وهم يتابعون ويعلقون. وهناك أيضاً تراك الموسيقى بأوتار الجيتار للموسيقار بول تيان، المثيرة للشجن، للحزن، الملائمة تماماً للحالة النفسية التي ولدها الفقد والقلق، تلك الموسيقى المعزوفة بأنامل، طابعها الرقة- تجعلنا نبكي على هذا الرجل القوي والرقيق في آن واحد.

في جلستهما الأخيرة على الشاشة يتحدثان عن الابنة، تقول إنها تفتقدها، فنلمح نظرة جانبية تشي بأنه يعلم ويُصبر زوجته، وكأنه هو الأقوي، ثم يرد عليها: هي مبسوطة في أمريكا الآن.

وتكون تلك الجملة هي ختام بالفيلم، بعدها ينتقل المخرج إلى الجدة الجالسة على الأرجوحة تطوحها الذكريات المؤلمة بين صعود وهبوط.

ثم ينتقل أخيرا إلى لقطات مفرغة لأثاث الشقة المرتب، النظيف، المنسق بدقة، لكنها تبدو صامتة، باردة بشكل موحش، يُشعرنا بالانقباض، بعدها تظلم الشاشة، وتعود لتضيء بكلمات تخبرنا عن وفاتهما، وأن الزوجة فيفيان البالغة من العمر ٦٥ عاماً كانت قد ماتت قبل زوجها التسعيني لأنها لم تستطيع أن تتحمل الحياة بعد معرفة وفاة ابنتها. ثم لحق بها أنطوان فقط بعد ١١٠ أيام فقط، أي بعد أقل من أربعة أشهر.

إعلان