إعلان

في كراهية الزعيم الشعبي

في كراهية الزعيم الشعبي

عمرو الشوبكي
09:00 م الخميس 26 يوليه 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

د.عمرو الشوبكي
حين يكون هناك صراع داخل مجتمع من المجتمعات بين من يقول إن الشعب جاهل وغير مهيأ للديمقراطية والتقدم، وبين من يقول إن الشعب قادر على الاختيار وصناعة المستقبل حتى لو كان المجتمع الذي أفرزه يعاني من مشاكل وأزمات كثيرة، فيجب التوقف جيدا أمام دلالات هذا الصراع. صحيح أن هناك صراعات أخري داخل كل المجتمعات بين اليسار واليمين، وبين العلمانيين والإسلاميين، إلا أنه يجب التوقف مليا أمام الحالات التي يدور فيها الصراع حول أحقية (وأهلية) الشعب في الاختيار.

والحقيقة أن جانبًا من الموقف العدائي من عبدالناصر يرجع لهذا السبب: لقد كان زعيما شعبيا، ويجب أن تكون الرسالة واضحة للجميع أن الشعب غير قادر على الاختيار، وحين اختار وأحب ودعم زعيما بوزن عبدالناصر فيجب أن يقتنع الجميع بأنه سيء حتى تنسف فكرة أحقية الشعب في الاختيار من الأساس.

صحيح أن الخلاف مع سياسات عبدالناصر جزء من سنن الحياة، فهناك رأسماليون وإقطاعيون يرفضون سياساته الاشتراكية وهناك إخوان مسلمون يكرهون سيرته ولا يطيقونها وكانوا وراء كثير من الحملات التي روجت ضده، وهناك بعض الشيوعيين وأصحاب المدارس اليسارية المتطرفة الذين تتراوح عقدهم من "البدلة الميري" حتى الاعتراض على اشتراكية عبدالناصر "المائعة" التي آمنت بالأديان السماوية، وبالقطاع الخاص ولم تؤمم محل البقالة وتاكسي الأجرة، وهناك ليبراليون اختزلوا تجربته في غياب الديمقراطية والتعددية الحزبية.

كل من يقيم تجربة عبدالناصر بشكل سلبي أو إيجابي مواطن مصري كامل الأهلية له كامل الحق في أن يرفض ويقبل ما يشاء، أما المعضلة فهي مع من يعمل بدأب على كراهيته ونشر الأكاذيب عن تجربته حتى تصبح المشكلة ليست في سياساته إنما في الشعب الذي اختاره، والمطلوب ترسيخ صورة ذهنية عن أن الشعب فاشل وغير قادر على الاختيار وإذا اختار سيكون خياره سيئا.

صحيح هناك أخطاء كثيرة وقع فيها الرجل وخاصة في ملف الديمقراطية وحقوق الإنسان وفشله في مواجهه دولة عبدالحكيم عامر العسكرية الموازية لدولته الشعبية التقدمية فكانت هزيمة 67. فهذه كلها جوانب تنقد ولكن لا علاقة لها باختلاق التهم والأكاذيب حول عبدالناصر، وانتشار حملات التجهيل المنظم والتسطيح النشيط لكي ترتدي الأكاذيب ثوب الحقائق.

يبدأ خطاب كارهي الشعب وليس عبدالناصر بتصويره كأنه عجب العجاب، وفعل بمصر والعالم العربي ما لم يفعله أي حاكم من قبل، وذلك عقابا على حب الشعب له وليس للخلاف مع سياساته.

مقولة أن عبدالناصر جلب لنا الهزائم، وكأننا لم نكن دولة محتلة منذ عام 1882 (وقبلها) وأن عبدالناصر هو الذي حقق الاستقلال لا غيره.
لقد هزمت مصر ومعها الجيوش العربية في 1948 وأقيمت دولة إسرائيل، أي أن عبدالناصر لم يذهب إلي حيث يختبئ اليهود في الشتات لأنه عدواني يبحث عن الحروب إنما هم الذين جاءوا عندنا و"جيوشنا العربية في العهد الملكي هي التي حاربتهم وهزمت هزيمة فادحة".
عبدالناصر انتصر انتصارا ساحقا في 56 ومع ذلك يحوله كارهو الشعب إلى هزيمة رغم إنه صمد عسكريا وانسحبت الجيوش الغازية من سيناء، وغير خريطة العالم سياسيا بإنهاء عصر الاستعمار وبزوغ عصر الاستقلال الوطني.
فحين يصبح رئيس بلدك قائدًا ملهمًا لكل شعوب العالم الثالث ويغير موازين القوة في النظام العالمي الجديد وفق كل الكتابات الغربية والعربية المحترمة، ومع ذلك هناك من يزور الحقائق ويعتبره هزم في 56.
صحيح أن عبدالناصر مسئول عن هزيمة 67 وطبيعي أن يهاجم باعتباره زعيمًا خسر حرب وليس على اعتبار أن تاريخه كله هزائم.
عبدالناصر استقال عقب الهزيمة، وهو بذلك يكون أول زعيم عربي يعترف بالهزيمة ويستقيل في مشهد لم نره في عالمنا العربي على يد أي زعيم مهزوم أو منتصر ومع ذلك يقول لك البعض إنها "تمثيلية"، ويبقي السؤال البسيط لماذا لم يفعل المهزومون في حروب إسرائيل وغزو الكويت نفس التمثيلية ويفكرون بالاستقالة؟ .
الفارق أن عبدالناصر كان زعيما شعبيا حقيقيا بصرف النظر على الاتفاق مع كل أو بعض سياساته، واستقال إيمانا بضرورة تحمل المسئولية الأخلاقية والسياسية عن الهزيمة.
كيف نفسر انتظار مئات الآلاف من أبناء الشعب السوادني الشقيق لموكب عبدالناصر حين زار الخرطوم عقب هزيمة يونيو لحضور مؤتمر القمة العربية في 1968؟ لقد طلبت السلطات السودانية من طائرة عبدالناصر الانتظار في الجو حتى تهبط طائرة الملك فيصل رحمه الله أولا لأن الناس كانت ستنصرف بعد خروج موكب عبدالناصر.
عبدالناصر تكلم عن الشعب في كل خطبه باحترام غير مسبوق، ووصفه بالقائد المعلم، وكان خطابه السياسي وإعلامه يردد بشكل دائم مفردات من نوع نضال الشعب العربي والمصري صوت الجماهير حقوق الضعفاء، وغاب عن قاموسه الحديث عن مؤسسات الدولة وأجهزتها مثلما يجري الآن، حتى بدت وكأنها أهم من الشعب نفسه، فالشعب المصري في خطاب عبدالناصر هو المستهدف من الاستعمار ومن أعوانه وليست الدولة، وحتى حين كان يتحدث عن الجيش كانت الكلمة المحببة للجميع هي جيش الشعب، مع الشعار الخالد: "بالجيش والشعب سنكمل المشوار"
لم يؤمن أحد بالجماهير مثلما فعل عبدالناصر ولم ينل زعيم شعبية هائلة وسطها مثل عبدالناصر ولم يتحدث زعيم عربي قولا وفعلا عن الناس وقضاياهم مثلما فعل عبدالناصر كل ذلك كان لا بد أن يكون له ثمن باهظ من كثيرين نجدهم داخل الدولة وخارجها يقنعون الناس كل يوم بأنهم جهلاء وغير قادرين على أن يختاروا، وإن خيارهم وزعيمهم الأكثر شعبية أي ناصر يحمل كل سوءات الدنيا.
نعم عبدالناصر لم يكن نبيا ولا رسولا فهو بشر أخطأ وأصاب وتجربته يمكن الخلاف معها جزئيا أو كليا، إنما ليس هذا ما جري في مصر على مدار نصف قرن إنما حملة كراهية منظمة ضد "الزعيم الشعبي" وتكريس هزيمة داخلية تبث في نفوس الكثيرين بأن الشعب لن يختار إلا المهزومين فاتركوا "لهم" حق الاختيار بدلا من الشعب

إعلان