إعلان

"محمد مرسى".. و"محمد صلاح"!

"محمد مرسى".. و"محمد صلاح"!

خيري حسن
09:48 م السبت 09 يونيو 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

ذهبت، ذات مساء، للمقهى القريب من منزلي بالمعادي. المقهى شعبي إلى حد كبير. ورواده خليط من جماهير كرة القدم وسائقي التاكسي الأسود. والقليل منهم مسنون من سكان الضاحية التي كانت هادئة في يوم ما. كان ذلك بعد أيام من إصابة النجم محمد صلاح في مباراة فريقه أمام ريال مدريد الإسباني. بعدما جلست بدقائق، جاء النادل بكوب الشاي ووضعه أمامي وهو متوتر. ثرثرة السائقين بجواري، تبدأـ ولا تنتهي- عن ذكرياتهم وعزهم، ومجدهم، وزمنهم الذي رحل وانتهى.

تتواصل النقاشات بين الروادـ خاصة الشباب منهمـ عن إصابة نجمهم المحبوب محمد صلاح. البعض يؤكدـ بحجج وبراهين- أنها نتيجة مؤامرة كونية صنعها الموساد الإسرائيلي، بتخطيط مع الصهيونية العالمية، لتدمير هذا الفتى الذهبي! الأستاذ دسوقي مدرس مادة التاريخ في مدرسة المعادي الثانوية العسكرية الذي حضر للتو، رد على صاحب هذا القول متسائلاً بسخرية قائلاً: ولماذا يفعلون به ذلك؟ رد القائل بعصبية وعنف: لأنه اقتحم الغرب، ورفع راية الإسلام خفاقة عالية بين ربوعه، ألم ترَ لحيته وحجاب زوجته؟!

سكت "دسوقي أفندي" وهو يكتم غيظه. ثم قال: من الناحية الرياضية هو مجرد لاعب- في تقديري- لا تزيد موهبته على العشرات قبله، ظهروا في الملاعب المصرية، وهذا لا يمنع اجتهاده ودماثة خلقه وإصراره ورغبته في التفوق.

أما من الناحية السياسية، فأنا لم أره، ولو مرة واحدة، وظف نجوميته- أو ساهم بهاـ في مناصرة أي قضية عربية أو إسلامية في المحافل الرياضية الدولية ولو بالصمت العاجز. كان يقول ذلك ورواد المقهى ينظرون لبعضهم في صمت تام، إلى أن جاءهم من خلفهم، صوت يقول: "والله.. الراجل ده بيقول كلام زي الفل.. رغم أنني مش فاهم منه أي حاجة". فانفجر الجميع في الضحك، وتاهت ملامحهم وراء سحابات الدخان المتصاعد. وخفت حدة المناقشات بينهم بعض الشيء. النادل مازال يأتي، ويذهب غير مهتم، بتلك الثرثرةـ من وجهة نظره- التي يسمعها كل يوم، ولا تنتهي!

بعد دقائق، هدأت أكثر وأكثر النقاشات، حول مصير إصابة "صلاح" ومدي خطورتها على مستقبل مصر في نهائيات كأس العالم 2018.
في ركن بعيد من المقهى، كان يجلس رجل سبعيني، يساري قديم، يأتي ليلة الخميس فقط، بصفة ليست منتظمة. نعرفه باسم "زكريا" بيه. يجلس بمفرده صامتاً، وتأتي له النرجيلة بسرعة ومعها فنجان القهوة السادة. في هذا اليوم ذهبت إليه مرحباًـ كنت تعرفت عليه من قبل- بعدما شعرت أنه يتابع باهتمام، ما يدور بيننا عن محمد صلاح.

استقبلني بابتسامة هادئة، بعدها أخذت مكاني بجواره بهدوء، ثم أغلق بين يديه كتابا عنوانه (مذكرات إنجي أفلاطون.. من الطفولة إلى السجن) ولم يكمل القراءة. نظر إليّ قائلاً: أنتم في حزن على لاعب سقط على الأرض وأصيب، ولستم حزْانى على ما يحدث للأمة العربية من ليبيا إلى سوريا مرورا باليمن الذي كان سعيدا ومن قبلهم العراق؟!.. ثم قال بدهشة: في مصر مئات المواهب، مثل "صلاح" في شتي المجالات، لكن لا أحد يسمع عنهم أو يعرفهم أو حاول حتى مساعدتهم.

ثم سكت عندما جاء النادل ليغير له (حجر الشيشة). قلت له: على ذكر المواهب.. كان في مدرستي "ننا" الإعدادية المشتركة التي تبعد عن العاصمة 160 كيلومترا جنوباً في محافظة بني سويف، طالب اسمه "محمد مرسي" كان في الصف الثالث. وكنت أنا في الصف الأول. ومنذ اليوم الأول لنا في المدرسة التي كانت تضم عدة قرى، استمعنا للقصص والحكايات عن مهاراته العجيبة في كرة القدم؛ لدرجة أن البعض شبهه بالساحر وأحياناً بالجن. في الفسحة كان يقام دوري المدرسة. الجماهير من الطلاب والأساتذة والعاملين في انتظار فريق" تالتة.. تالت "الذي يلعب له "مرسى". جرس الفسحة انطلق. التلاميذ على الأسوار يحتشدون. مدرس الألعاب في منتصف الملعب يقف كحكم للمباراة. الفرق المنافسة مرتبكة وخائفة.

ناظر المدرسة يعلن عن مد وقت الفسحة، ليفسح الطريق أمام الساحر"مرسى" ومهاراته العجيبة؛ ليفعل الأفاعيل بكل الفرق التي تواجه فريقه. نحن نقف على أطراف الملعب نهتف له. الآن "مرسي" يخرج من الفصل. يرتدي كوتش "باتا" وشورت أبيض وفانلة النادي الأهلي التي يعشقها. نهتف له جميعا" مرسي .. مرسى" هو يشير لنا من بعيد بعلامة النصر.

نعاود الهتاف: "الأهلي يا مرسى"! فيرد علينا وهو يبتسم قائلاً: الأهلي حديد! الحكم يطلق صافرته. تبدأ المباراة وسط التصفيق الطلابي الحاد. الفريق المنافس يخصص ثلاثة لاعبين لمحاصرته، حتى لا تصل الكرة إليه. لكنها تصل. وإن وصلت انتهى أمرها لصالحه. يناور. يراوغ . يجري. يسرع. يقف على الكرة. يسقط أمامه لاعب واثنان وثلاثة. مازلنا نهتف له. وهو مازال يلف بالكرة على قدمه. على جسده. على صدره. على رأسه. ثم يثني ظهره في حركة بهلوانية، فتسقط الكرة أمامه، وفي لمح البصر يصوبها، بقوة وسرعة عجيبة، فتسكن شباك الخصم. وهكذا يواصل هوايته، بل عشقه، حتى تنتهي البطولة، ويحصل عليها فريقه باكتساح.

انتقل بعد ذلك إلي المدرسة الثانوي التجاري بالمدينة ولم نعد نراه إلا في البطولات التي كانت تقام بين فرق مراكز شباب القرى. وكان هو أيضاً النجم الذي تخافه كل الفرق من فرط مهاراته ولياقته وموهبته الفذة. مرت سنوات، لم أعد أسمع عنه أي شيء، حتى عدت إلى قريتي منذ سنوات، فلمحته من بعيد، يرتدي نفس الملابس الرياضية التي كان يرتديها منذ سنوات بعيدة، زاد عليها صافرة علقها في رقبته. ويلعب مع أطفال لم تتعدَ أعمارهم 10 سنوات في مركز شباب قريتي- هو من قرية مجاورة لنا ـ بنفس المهارة والعشق للكرة التي كان عليها أيام المرحلة الإعدادية ‏والناس إذا ما مروا عليه، يضحكون معه ويقولون له : "الأهلي يا مرسي". فيرد وهو يحتضن الكرة بعشق وحب شديد: "الأهلي حديد"! سألت صديقا كان يقف بجواري ماذا حدث له: رد: "مسكين.. فقد عقله منذ سنوات، لكنه لم يفقد حبه لكرة القدم ولا للنادي الأهلي. كنت أتحدث مسترسلاً، دون أن يلفت انتباهي أن النادل يقف خلفي يستمع باهتمام شديد، غير عابئ بنظرات "زكريا بيه" الذي أجلس إليه؛ إلا عندما قال بصوت مسموع: "يا خسارة.. الكورة جننت الجدع.. زي ما جننت البلد كلها" قالها وهو عائد مسرعا إلى زبائنه داخل المقهى وخارجه. سألني "زكريا بيه": ألم يتزوج؟ قلت: عرفت أنه أحب فتاة، لكنها تركته، بسبب حبه الشديدة للكرة. ثم تزوج بطريقة تقليدية عائلية، ورزقه الله بثلاثة أطفال. لكن بعد فترة فقد عقله؛ فطلبت زوجته الطلاق منه، وتركت له البيت وعادت إلى أهلها لتربي أطفالها وحدها. أما هو، فتركته لمصيره المجهول. هنا سكت قليلاً، بعدما أشار لي، حتى أتوقف عن الكلام، الذي- فيما يبدوـ أحزنه، ثم أشار للنادل، ودفع له الحساب، ولملم أشياءه، وقال وهو يقاوم حالة من الحزن هاجمته: كم من المواهب- مثل هذه الموهبةـ ضاعت بين دروب هذا الوطن؟ قالها وهو يستعد لمغادرة المكان وعيناه تنظران فى الفضاء ثم أكمل غاضباً: مصر فيها الكثير من المواهب في الثقافة والفنون والرياضة والسياسية، لكنها ضاعت، وقتلت، وانتحرت بفعل فاعل. ومن يحاول المقاومةـ ولو لبعض الوقت- يفقد عقله وموهبته وحياته كلها، مثل زميلك هذا "محمد مرسى" الذي فقد كل شيء، عندما لم يجد من يتبنى موهبته الفذة التي كان عليها في الصغر. ولو كان وجد من يرعاه، ويدعمه لكان اليوم لدينا العشرات من النجوم والمواهب مثل محمد صلاح في كل المجالات.

ثم غادر الرجل المكان بهدوء، وهو يتمتم بكلمات لم أسمعها، وهو يمر بين وجوه زبائن المقهى العابثة، الذين مازالوا يتحدثون عن إصابة محمد صلاح بحماس شديد! أما أنا، فأمسكت بالموبايل، واتصلت بصديقي "محمد جمعة" الذي مازال يعيش في قريتي، وسألته عن مصير"محمد مرسى" الذي كنا نستمتع بمهاراته وموهبته الرياضية زمان أيام الإعدادية. بعد ساعة وجدته يرسل لي صورة التقطت له قبل عدة شهور، وهو يرتدي الشورت الأبيض. وفانلة النادي الأهلي الحمراء التي مازال يعشقها، وفي رقبته "صفارة" قديمة، يعلن من خلالهاـ دون أن يدري- عن بداية ونهاية موهبة كانت تستحق الحياة.

إعلان