إعلان

التعليم الأزهري.. ما له وما عليه  (6ـ 10)

التعليم الأزهري.. ما له وما عليه (6ـ 10)

د. عمار علي حسن
09:00 م الأربعاء 06 يونيو 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع


ولد الأزهر من رحم السياسة مرتديا ثوب الدين، حين أريد له أن يجذر التشيع في العقلية والنفسية المصرية ويزيح الانحياز للمذهب السني، فبدا بذلك مؤسسةً ذات طابع "أيديولوجي" أكثرَ من كونها ذات سمت ديني.

ورغم مرور أكثر من عشرة قرون على ميلاده، فلا يزال الأزهر يجاهد ليبقى في قلب الظواهر المرتبطة بالسلطة سلبيا وإيجابيا، متحديا، سواء في مواقف بعض رموزه أو بعض إنتاجه الفقهي والمعرفي، كل أولئك الذين يريدون فصل "السياسي" عن "الديني"، ومطوقا مجالات تمتد من الأمور المحلية البحتة حتى العلاقات الدولية.

وشكلت عناصر ثلاثة الدور السياسي للأزهر في مسيرته التاريخية، كانت تجتمع أحيانا فيتعاظم هذا الدور، بغض النظر عما إذا كان خصما من رصيد المجتمع أم لصالحه، وأحيانا أخرى كان يتوافر إحداها أو اثنين منها، فيقل دور الأزهر السياسي. لكنه في جميع الأحوال لم ينقض تماما.

أ ـ العنصر الأول: هو شخصية شيخ الأزهر من حيث فهمه للواقع السياسي وإلى أي اتجاه يميل انحيازه الفكري والنفسي، للجماهير الغفيرة ومصالحها أم لمصلحته الذاتية مع السلطان وحاشيته.
ب ـ العنصر الثاني: يتمثل في طبيعة السياق الاجتماعي ـ السياسي السائد. ففي الظروف التي كانت السياسة فيها حاضرة وضاغطة إما بفعل الحروب أو القلاقل أو الصراعات الداخلية أو احتداد المشكلات الحياتية للناس، كان لا بد للأزهر أن يدلي بدلوه فيما يدور ويتخذ من المواقف ما يتماشى مع سير الأحداث، إذ إن المجتمع المصري، كان، ولا يزال ينتظر رأي الدين فيما يجري اجتماعيا وسياسيا.

ج ـ العنصر الثالث: يتعلق بشخصية الحكام أنفسهم. فهناك من بينهم من لجأ إلى الأزهر لكسب الشرعية، وهناك من استمد شرعيته من روافد أخرى. هناك من فسح المجال لعلماء الأزهر كي ينخرطوا في الحياة السياسية، وهناك من أوصد الباب أمامهم تماما.

هناك من كان يؤمن بأن للدين رؤية سياسية واجتماعية، وهناك من أراد له أن ينكفئ على أمور العقيدة والعبادة مبتعدا عن الهموم والأحوال الحياتية.
وقد بدأ الدور السياسي لشيخ الأزهر يبرز، في ظل مشيخة الإمام محمد الحفني (1757 ـ 1767)، الذي بلغ في هذا المضمار شأنا عاليا، رسم الجبرتي ملامحه قائلا: "كان شيخ الأزهر محمد الحفني قطب رحى الديار المصرية، ولا يتم أمر من أمور الدولة وغيرها إلا باطلاعه وإذنه".

وقاد احتجاج الشيخ أحمد العروسي على إساءة الوالي العثماني أحمد أغا لأهالي الحسينية إلى صدور فرمان سلطاني بعزل هذا الوالي. واضطر خلفه إلى أن يحضر إلى الأزهر ليسترضي علماءه. وبعد العروسي كان الأزهر على موعد مع رجل زاوج بين الدين والسياسة، في الفكر والحركة، وهو الشيخ عبدالله الشرقاوي (1793 ـ 1812)، الذي عاصر هبات المصريين ضد الحملة الفرنسية، وكان واحدا من رموز الشعب آنذاك، وحشد طاقة الأزهر في طليعة مقاومة الاحتلال، وعينه نابليون بونابرت ضمن عشرة في "مجلس الشورى" الذي أنشأه لاسترضاء المصريين. وكان الشرقاوي ممن أخلعوا الولاية على محمد علي، واشترطوا عليه الحكم بالعدل، لكنه نقض العهد، وتخلص من مشايخ الأزهر، ومن بينهم الشرقاوي.

أما الشيخ الشنواني (1812ـ 1818) فكان دائما يسدي النصائح لمحمد علي، رغم عزوفه عن الاتصال بمن بيدهم السلطة، وقد كان أيضا من قادة الحركة الوطنية إبان الحملة الفرنسية.

وكان الشيخ حسن العطار من قادة الحركة الوطنية ضد الحملة الفرنسية، وتولى المشيخة بعد تدخل شخصي من محمد علي، وكان يميل إلى الاحتفاظ بعلاقة "متوازنة" مع السلطة، مبررا ذلك بأن مصلحة الأزهر تقتضي ذلك.

أما الشيخ إبراهيم الباجوري (1847 ـ 1860)، فقد حرص على إعلاء كرامة علماء الأزهر في مواجهة السلطة، وكان عباس باشا الأول يحضر دروسه، ولم يعبأ باعتراض رجال الحكم على قيامه بتعيين هيئة من العلماء تحل محله في القيام بأعمال المشيخة، حين أنهكه المرض. واصطدم الشيخ مصطفى محمد العروسي (1860ـ 1870) مع السلطة، لاعتراضها على قيامه بفصل عدد من المدرسين بالأزهر رأى أن مستواهم العلمي دون المستوى المطلوب. وكان خلفه محمد المهدي العباسي (1870ـ 1882/1882ـ 1885)، الذي لم يتحمس للثورة العرابية، فتمت إزاحته من منصبه وقت عنفوانها، لكن بعد انكسارها أعاده الخديو توفيق، لكن لم يلبث أن اختلف معه، فطلب إعفاءه من منصبه، فاستجيب له. أما الإمام شمس الدين الإنبابي (1882ـ 1882/1885ـ 1896)، فقد أفتى بعدم صلاحية توفيق للحكم، بعد أن باع مصر للأجانب، مناصرا بذلك عرابي ورفاقه. لكن معارضته للخديو عباس الثاني قادت إلى تدخل السلطة في شؤون الأزهر بإنشاء مجلس إدارة له، نال من صلاحيات شيخه. كما قادت معارضة خلفه الشيخ حسونة النواوي (1896ـ 1900) للحكومة في إقدامها على تعديل قانون المحاكم الشرعية إلى إبعاده من منصبه، لكن العلماء تضامنوا معه، فلجأت الحكومة إلى حل وسط بتعيين شيخ يمت بصة قرابة له هو الشيخ عبدالرحمن النواوي.

وتسببت مناصرة الشيخ علي محمد الببلاوي لأفكار محمد عبده إلى اصطدامه بالخديوِ عباس، الذي رفض مقترحاته لإصلاح الأزهر، فما كان منه إلا أن استقال. ولعب خلفه الشيخ عبدالرحمن الشربيني دورا مضادا، بعد أن لجأ إليه الخديوِ ليحارب حركة الإصلاح في الأزهر بفعل أفكار محمد عبده. لكنه لم يلبث أن استقال عندما تمادى الخديوِ في معاداة أنصار الإصلاح.

وعارض الشيخ محمد أبوالفضل الجيزاوي (1917ـ 1927) ما انتواه الملك فؤاد من إعلان نفسه خليفة للمسلمين، بعد سقوط الخلافة العثمانية، مبررا ذلك بأن مصر لا تصلح دارا للخلافة، لوقوعها تحت الاحتلال الإنجليزي. ورفض الجيزاوي الاستجابة لطلب الإنجليز بإغلاق الجامع الأزهر إبان ثورة 1919، وصدر في عهده قانون قيد سلطة الملك في تعيين شيخ الأزهر، حين أشرك رئيس الوزراء في هذا. ولم ترق محاولة الحكومة حرمان شيخ الأزهر من بعض الأوقاف الخاصة به، للشيخ المراغي فاستقال، لكنه لم يكن مناهضا للسلطة، شأنه في ذلك شأن خلفه الظواهري، الذي تعاون مع الملك فؤاد في توسله بالأزهر لكسب الشرعية، وتدعيم سلطته المضادة لمصالح الشعب. وكانت ذريعة الظواهري في هذا هي أن مصلحة الأزهر في التبعية للملك لا للحكومة أو الأحزاب. ونكل الملك في عهد الظواهري بعلماء الأزهر، ففصل بعضهم وشرد آخرين، بعد أن صدر قانون خول الملك سلطة تعيين شيخ الأزهر ووكيله، وشيوخ المذاهب الأربعة، ومديرو المعاهد الدينية.

وفي ظل مشيخة الإمام محمد مأمون الشناوي، أصدرت مجموعة من العلماء بيانا شهيرا دعت فيه إلى الجهاد ضد إسرائيل بعد صدور قرار تقسيم فلسطين عام 1947. وأدت المواقف الوطنية للإمام عبدالمجيد سليم إلى عزله، إثر معارضته لفساد الملك فاروق قائلا عبارته الشهيرة، حين قرر الملك تخفيض المخصصات المالية للأزهر: "تقتير هنا وإسراف هناك"، في إشارة إلى بذخ فاروق. واستمر الخلاف بين الملك والأزهر في عهد الإمام إبراهيم حمروش (1951ـ 1952)، فأعفي من منصبه، بعد أن رفض طلب فاروق عدم اشتغال علماء الأزهر بالسياسة.
ونكمل الأسبوع المقبل إن شاء الله (تعالى).

إعلان