إعلان

السيدة زينب

السيدة زينب

د. جمال عبد الجواد
09:00 م الجمعة 01 يونيو 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

بعد الإفطار، قصدت معرض الكتب الملحق بدار الهلال الكائنة في حي السيدة زينب. كنت قد واعدت صديقا عزيزا على لقائه هناك. شراء الكتب في رمضان عادة أدمنتها منذ سنوات المراهقة المبكرة، عندما كانت معارض الكتب الرمضانية تقام فوق هضبة الدراسة بالقرب من القاهرة الإسلامية رائعة الجمال. الجولة في معرض كتب دار الهلال كانت سريعة، فالكتب الجيدة كثيرة، لكن هناك طاقة لما يمكن حمله من وزن وحجم، بالإضافة إلى أن الكتب معروضة بطريقة عشوائية مرهقة لا تشجع على البقاء لوقت أطول. اشتريت سبعة وعشرين كتابا وراوية، ودفعت -بعد الخصم– 215 جنيها، بمتوسط ثمانية جنيهات للكتاب الواحد، إنه سعر قليل فعلا، فلا توجد دار نشر في وقتنا هذا تبيع الكتب بهذه الأسعار.

تأسست دار الهلال عام 1892 على يد جورجي زيدان، لم تكن للرجل صنعة غير الكتابة والنشر، في زمن كان فيه نشر الكتب يعود بالربح على أصحابه دون حاجة لدعم من دولة أو جهة أجنبية.

كانت البداية بمجلة الهلال التي ما زالت تصدر إلى اليوم، وبعدها توالت منشورات دار الهلال، كانت مجلة المصور التي أصدرتها دار الهلال منذ عام 1924هي درة التاج في مطبوعات الهلال، وعلامة بارزة في تاريخ الصحافة المصرية، فالمصور هو أول مجلة عربية تعطى للصورة أهمية مساوية لأهمية الكلام المكتوب.
لدار الهلال مبني شديد الفخامة في شارع المبتديان بالسيدة زينب. المبنى من تصميم المهندس الإيطالي ألبيرت زنانيري، وهو يعد أحد معالم النهضة العمرانية الحديثة في مصر. مشينا بمحاذاة مبنى دار الهلال الشامخ. اقتربنا من البوابة الكبيرة الجميلة، واختلسنا نظرات عبر الزجاج إلى المدخل الفسيح، والدرج العالي، والثريات المدلاة، والرخام شاهق البياض، كل هذا بناه جورجي زيدان من عائدات النشر فقط.

شارع المبتديان الذي تحتل دار الهلال رقم 16 فيه، هو أحد شوارع القاهرة الحديثة، وشاهد على النهضة العلمية والتعليمية فيها. يستمد الشارع اسمه من "مدرسة المبتديان" التي أسسها محمد علي باشا ضمن مشروعه لتحديث التعليم في مصر. المبتديان هي أول مدرسة ابتدائية في مصر، وظلت المدرسة الوحيدة من نوعها لعدة سنوات، وفيها تخرج بعض من أهم أعلام النهضة المصرية في القرن التاسع عشر، وظلت المدرسة موجودة في مكانها حتى أغلقها الخديو عباس عام 1848.

واصلنا السير في شارع المبتديان باتجاه السيدة زينب، ينتهي شارع المبتديان في مواجهة مدرسة السنية، أول مدرسة للبنات يتم افتتاحها في مصر والشرق كله. تأسست المدرسة السنية في عام 1873 في عهد الخديو إسماعيل، وانتقلت إلى مقرها الحالي في شارع الكومي، في مواجهة شارع المبتديان عام 1891، وظلت هناك منذ ذلك التاريخ.
انعطفنا يمينا باتجاه ميدان السيدة زينب، ليقابلنا زحام وضجيج وفوضى التسوق المحببة في القاهرة الشعبية. واصلنا السير، وكلما اقتربنا من الميدان، كلما تمكنا من رؤية مسجد السيدة زينب الرائع، والذي يمنح للحي كله اسمه الشهير.

صادفنا بعد قليل شارع الخليج المصري، والذي يسمى الآن شارع بورسعيد. حتى عام 1897 كان هذا الشارع عبارة عن خليج حقيقي تملؤه المياه في زمن الفيضان. كانت المياه تدخل إلى الخليج المصري من نقطة بدايته عند منطقة "فم الخليج" الموجودة بهذا الاسم حتى وقتنا هذا عند نهاية شارع مجرى العيون والتقائه مع كورنيش النيل.
كان الخليج المصري هو مسار نقل المياه لأنحاء المدينة، وللأراضي الزراعية البعيدة عن النيل شمال شرق القاهرة، في مناطق الأميرية والزاوية الحمراء، التي كانت أرضا زراعية في ذلك الزمان.

في عام 1897، في عهد الخديو عباس حلمي، تم ردم الخليج المصري وتحويله إلى أكبر شارع في القاهرة، فقد كان أول شارع يخترق المدينة من مصر القديمة، حتى يصل إلى حدود شبرا الخيمة، وفيه تم إنشاء أطول خط ترام يخترق المدينة من أقصاها إلى أقصاها.

انعطفنا يمينا في شارع الخليج المصري باتجاه ميدان أبوالريش، مبتعدين عن مسجد ومقام السيدة زينب. إلى اليمين تقع سينما الشرق التي كانت لعقود إحدى العلامات المميزة في السيدة زينب. لقد تم إغلاق سينما الشرق في السنوات الأخيرة، وإن كان مبنى السينما ما زال موجودا كما هو.
تقل الضجة والزحام كلما ابتعدنا عن الميدان.

نعبر شارع الوفدية الهادئ، الذي لا أعرف سبب إطلاق هذا الاسم عليه، وإن كانت أرجح أن للأمر صلة بحزب الوفد، فالسيدة زينب هي الدائرة التي انتخبت الزعيم سعد زغلول لمجلس النواب عام 1924.

ينقلك شارع الوفدية من حي السيدة زينب الشعبي، لحي الطبقة الوسطى الهادئ في المنيرة. مشينا في شارع أمين سامي، أحد أعلام النهضة الفكرية والتعليمية في مصر الحديثة. إلى اليسار يوجد المركز الثقافي الفرنسي والمعهد الفرنسي للآثار الشرقية، الموجود في هذا المكان منذ عام 1880، ومنه انطلقت بعثات كان لها الفضل في اكتشاف حضارتنا الفرعونية وتعريفنا بها.

عدنا للجلوس على مقهى بجوار سور حديقة جميلة، أولها في شارع المبتديان وآخرها في شارع أمين سامي. في مواجهتنا على الجانب الآخر من الشارع توجد دار مجلة روزاليوسف، الموجودة في هذا المكان منذ 1925، عندما كانت أول صحيفة تؤسسها وتديرها امرأة في الشرق.

أعود للحديقة التي كنا نجلس بجانبها لأقول: تمت إقامة هذه الحديقة في نفس المكان الذي سكنته لعقود مدرسة دار العلوم قبل نقلها عام 1980 إلى داخل حرم جامعة القاهرة، تم تأسيس دار العلوم في عام 1872 لتقدم لمصر أساتذة للغة العربية والحضارة الإسلامية والدين الإسلامي من غير خريجي الأزهر الذي كان في ذلك الوقت مركزا للجمود والفكر المحافظ، فأنتجت لنا دار العلوم طائفة جديدة من مدرسي الدين واللغة العربية من لابسي البدلة والطربوش، وليس من لابسي القفطان والعمامة.

شربنا قهوة ذكية، وعرض علينا السحور، فقبلنا. كان سحورا رمضانيا تقليديا لذيذا، دفعنا فيه ما لم يزد على الثلاثين جنيها. كانت ليلة رمضانية ممتعة اشترينا فيها كتبا كثيرة وشربنا القهوة وتسحرنا، كل ذلك بجنيهات قليلة. الأهم من كل هذا هو ذلك التاريخ الغني الذي ذكرتنا به المعالم الموجودة في جزء صغير من حي السيدة زينب، لا يزيد عن بضع مئات من الأمتار طولا، فما بالك لو كان لدينا الوقت للسياحة في باقي أنحاء القاهرة الكبيرة. أنا فعلا أحب هذا البلد، وواقع في غرام هذه المدينة الرائعة.

إعلان