إعلان

تنمية  البشر

تنمية البشر

عمرو الشوبكي
09:20 م الخميس 03 مايو 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

التنمية علم وهي في الاقتصاد والسياسة والاجتماع، لأنها الأصل أو الرؤية الشاملة التي تخرج منها التفاصيل والأرقام وتصبح الإنشاءات والأبنية والعمائر جزءًا من تصور أشمل اسمه التنمية.

يقينا مشاريع بناء مساكن بديلة لسكان العشوائيات خطوة مهمة ومطلوبة ولكنها تظل منقوصة وغير مكتملة ما لم نضعها في إطار تصور أشمل يقوم على التنمية والاستثمار في البشر وبحث مشاكلهم المختلفة لا اكتشافها فجأة وكأنها هبطت من السماء رغم أن المقدمات كانت تؤكد حتمية النتائج.

ولقد شهدت مصر في السنوات الأخيرة أزمات ثلاثة مختلفة في الشكل ومتقاربة في المضمون، أولها ما جري في جزيرة الوراق (لم تحل) ومثلث ماسبيرو (حلت بالقوة والتفاوض)، ثم احتجاجات حي الأسمرات.

والحقيقة أن هذه الأزمات تدل على غياب مفهوم التنمية بمعناها الشامل، فمثلا مشكلة جزيرة الوراق ليست قضية مساكن بنيت على أرض زراعية أو على أراضٍ مملوكة للدولة إنما هي تقريبا مدينة كاملة بها مئات الوحدات السكنية ويعيش عليها ما يقرب من 60 ألف مواطن وتبلغ مساحتها 1400 فدان ولا تمتلك الدولة فيها (كما ذكر رئيس المجلس المحلي السابق لحي الوراق) إلا 60 فدانا فقط، وبالتالي تصبح قضية تفريغها من السكان أو هدم بعض المساكن المخالفة ليست قرارا أمنيا أو قرار هدم ونقل سكان إنما هي قضية تنموية كبري لها أبعاد اجتماعية وثقافية وسياسية.

أما مثلث ماسبيرو فقد عوضت الدولة سكانه وخيرتهم إما الحصول على مساكن أعدتها لهم أو أخذ تعويض مالي.

أما حي الأسمرات فقد تضمن إنشاء 11 ألف وحدة سكنية بتكلفة 1.5 مليار جنيه، للقضاء على العشوائيات الخطرة، وقد أقيم على مساحة 126 فدانًا بإجمالي ما يزيد على 10 آلاف و980 وحدة سكنية بالإضافة إلى المباني الخدمية.

وقد اشتكي الناس مؤخرا من ارتفاع قيمة الإيجار لكونه يصل إلي 300 جنيه وبعضهم لا تتجاوز معاشاتهم 360 جنيها، وأيضا من عدم صلاحية الأدوات الصحية وغياب كثير من الخدمات الأساسية، في حين اشتكت الحكومة من سوء تعامل بعض الأهالي مع مباني المنطقة والخدمات التي قدمتها لهم. .

والحقيقة أن هناك عشوائيات ومناطق خطرة في كل بلاد العالم بما فيها الدول المتقدمة ولكن تبقي المعضلة الرئيسية في طريقة التعامل مع البشر في هذه المناطق وليس الحجر.

والحقيقة أن عشوائيات مدن مثل سان بولو في البرازيل وأسطنبول في تركيا، بجانب البرتغال وإسبانيا في ثمانينيات القرن الماضي تعاملت حكوماتهم معها عبر إدارة سياسية ومبادرات أهلية وشفافية.

فقد قامت البلاد التي واجهت العشوائيات بالتنمية وليس فقط الإنشاءات، فوضعت مجموعة من المحددات التي اعتبرت أن أي مشروع استثماري يأتي لمنطقة عشوائية فرصة ليس فقط لتعويض السكان ماديا (وهو مؤكد) إنما أيضا تأهيلهم لكي يستطيع ولو قسم منهم أن يعيش في مكانهم القديم بعد أن أصبح جديدًا وراقيًا، ويكون لهم حصة أكبر في العمل داخله (فعلنا ذلك جزئيا في حديقة الأزهر) بطريقة التمييز الإيجابي حتى لا يكرهون الدولة ويعتبرونها سالبة لحقوقهم، ويشعرون بالتهميش والإقصاء الذي يخرج الجريمة والعنف، وأحيانا الإرهاب.

التنمية تعني في الوراق الشراكة مع سكانها بتأهيل جانب منهم مهنيا واجتماعيا عبر برامج طبقت في الشرق والغرب ونجحت، حتى يبقي في جزيرته ويتكيف مع الوضع الجديد ومن لم يستطع يعوض وينقل لمكان آخر، وبالنسبة لمثلث ماسبيرو فقد حلت بالجراحة وتنميط السكان على اعتبار أنهم جميعا مخالفون للقانون وغير مؤهلين للعيش في تلك المناطق بعد إعادة بنائها حتى نسهل من عملية نقلهم باعتبارهم عبًا على الدولة و"يحمدوا ربنا على كده".

أما في الأسمرات فخطوة نقل سكان المناطق العشوائية الخطرة إلي هناك كانت تتطلب أولا برامج تأهيل للسكان وبحث ظروف وأماكن عملهم حتى يصبح سكنهم الجديد حلاً حقيقياً لمشاكلهم.

التنمية السياسية والاجتماعية ودولة القانون والشفافية تعني الاعتراف بالواقع فليس عيبا أن نقول إن هناك صراعا بين الأهالي وأصحاب السلطة والنفوذ في الوراق مثلا، وهو صراع موجود في كل دول العالم ولا يحل بالكلام الطيب، وإننا كلنا في مركب واحد ويجب أن تضحوا من أجل مصر، لأن الموضوع من الأصل ليس حربًا ضد احتلال أو غزو خارجي، ولا ضد جماعات إرهابية حتى نضحي جميعا، إنما هو "بيزنس" واستثمارات سيستفيد منها ناس وسيتضررآخرون، فيصبح الأمر هنا متعلقًا بالتنمية وإدارة الأزمات والتعويضات المناسبة للأهالي بما فيها التأهيل الاجتماعي والوظيفي للراغبين منهم أن يبقوا في نفس أماكنهم القديمة (الوراق) أو تأهيلهم أيضا للذهاب إلي المناطق الجديدة (الأسمرات) على ضوء مجموعة من المعايير (طبيعة عملهم، مستوي تعليمهم، قابليتهم للارتقاء في السلم الاجتماعي) وبرامج تأهيل خاصة.

الناس تتعلم كيف تعيش في مناطق جديدة وفتح الفرص أمامها للبقاء في أماكنها القديمة بعد تحديثها وإعادة بنائها، وأن إعادة البناء في الحجر تعني عند البشر برامج إعادة تأهيل وتنمية.

يقينا هذه الرؤية التنموية تحتاج لمجتمع أهلي مبادر لا محاصر، وحياة سياسية نشطة تحمل صراع أفكار ورؤى مختلفة حول برامج التنمية، وطالما ينظر للتنمية على أنها شركات إنشاءات وتسليم مبان قبل الموعد فستظل أمامنا مشكلة كبيرة في التعامل مع البشر وتعميق شعورهم بالانتماء عبر المشاركة.

إعلان