إعلان

"شحاذون جوت تالانت"

"شحاذون جوت تالانت"

أمينة خيري
09:39 م الإثنين 28 مايو 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

لم تعد الحسنة القليلة تمنع بالضرورة بلاوي كثيرة. كما لم يعد نداء "لله يامحسنين" يدغدغ المشاعر ويفتتها. فالمادة الدرامية المعروضة من شأنها أن تصيب الجميع بتخمة، والتنويعة الكبيرة التي تنضح بها شوارع المحروسة وميادينها كفيلة بأن تنافس أعتى أفلام هوليود وأقوى أعمال بوليود.

الرجل السبعيني نصف الكفيف القابع عند أول شارعنا على مدار العقود الماضية يشكو الأمرين ويبكي على زمن التسول الجميل. ورغم إننا لا نسميه شحاذًا، وذلك لعزة نفسه التي دفعته إلى تمويه طلبه لـ"الحسنة" عبر طاولة متهالكة يضع عليها أكياس من الحلويات وبعضًا من الألعاب رديئة الصنع، إلا أنه يعرف أنه يتسول بشكل أو بآخر.

سنوات العشرة الطويلة بيننا وبينه أزالت حاجز الحرج، وقضت على شبح التشكك في النوايا. فنحن – سكان الشارع- لا نتعامل معه باعتباره عالة علينا. وهو بات يعرف أن الغالبية المطلقة من السكان يعتبرونه معلمًا من معالم المكان. لذا، فإنه، وبما يتوفر له من بقايا نظر وما تيسر له من رؤية لفنون التسول في الألفية الثالثة وجنون الشحاذة في الشهر الكريم يقول بكل أريحية: "هؤلاء الشحاذين ولاد اللذين لم يتركوا للمحتاجين بحق مجالاً".

شارعنا الذي يهيمن على أوله محلان شهيران للحلويات وتنتشر في أرجائه مقاهي تجمع أبناء الذوات وبناتهم بات مرتعًا للمتسولين "نصف الوقت" والموسميين. وما بدأ قبل سنوات قليلة في هيئة حفنة من المنتفعين من أجواء الشهر الكريم ونفحاته التي تدفع كثيرين إلى التصدق تحول إلى سطوة كاملة وسيطرة شاملة لجيوش مجيشة من المتسولين الجدد الذين ينتشرون انتشارًا منظمًا ويسيطرون سيطرة منمقة على كل ركن من أركان الشارع.

وبدءًا بالسيدة المنقبة التي تذرف بحورًا من الدموع بحثًا عن حفنة من الجنيهات لعلاج زوج مشلول ومساعدة ابن مكلوم في فترة ما قبل الإفطار على باب محل الحلويات، ثم تجدها تتسامر على وقع كوب من الشاي مع زملاء المهنة عقب الإفطار، مرورًا بعائلة ممتدة من السيدات والأطفال الذين يفترشون الرصيف المواجه لكوفي شوب كبير يمطرون زبائنه بشتى أنواع عبارات الابتزاز العاطفي، وانتهاء بالرجل ذي الظهر المحني ليلاً المفرود نهارًا والذي يلصق أصابع يده اليمنى بصمغ من نوع رديء ويرتدي بدلة كاملة ويقسم بأغلظ الأيمان أنه وكيل وزارة سابق طرده أبناؤه من شقته ولا يطمع إلا في خمسة جنيهات ليتسحر يحفل الشارع بكم مذهل من مواهب التسول غير المسبوقة.

وشارعنا ليس استثناء، بل يمكن القول إنه في مستوى المتسول المتوسط. وهناك من نماذج التسول والشحاذة الموسمية والرمضانية ما يرقى إلى المستويات العالمية. هؤلاء يمضون وقتًا ويستثمرون جهدًا وينفقون مالاً وفيرًا ليظهروا بمظهر مشرف لما ينبغي أن يكون عليه المتسول في القرن الـ21. فقد ولى ودبر الشحاذ الذي يمد يده في عينك ويطالبك بالحسنة ملوحًا بخطر البلاوي الكثيرة المرشحة لإصابتك إن أنت تقاعست أو تململت.

اليوم لدينا المتسول الذي يأتي إلى عمله بسيارة، والمتسولة التي تسلي وقت الشحاذة بالحديث في الموبايل. وعندنا كذلك الأسرة الممتدة من المتسولين والتي تسيطر على منطقة بأكملها. فالجدة والأم وبعض من الرضيعات في أماكن تجمع السيدات. والمراهقات والشابات في أماكن تجمع الشباب، وهلم جرا.

ولولا الملامة لقلنا إن هذه الحشود الغفيرة من المتسولين دارسة لعلم النفس وقارئة في مجال الروحانيات ومتعمقة في العلاقات الاجتماعية المتشابكة في القرن الـ21. المؤكد أن هناك في مكان ما من يحتاج بعضًا من المال بالفعل، لا سيما في مثل هذه الأوقات الاقتصادية العصيبة من تاريخ الوطن. لكن المؤكد أيضًا أن الغالبية المطلقة هم مجرد "شحاذون جوت تالانت".

إعلان

إعلان

إعلان