إعلان

ابنُكَ قاتل أم مقتول؟!

ابنُكَ قاتل أم مقتول؟!

د. براءة جاسم
09:01 م الأربعاء 02 مايو 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

تخيلْ لو أنَّك خُيِّرتَ بين أن يكونَ ابنَكَ فيليب -مبتكر فكرة الحوت الأزرق- الذي تسبّبَ في مقتلِ مئاتِ الأبناءِ، وبين أن يكونَ واحدًا ممن وقعوا ضحايا لفكرتِه فانتحروا، فماذا تختار؟!

ربما تبدو الإجابةُ الأسرعُ إلى ذهنِكَ كأبٍ أو كأمٍ هي ألَّا يكونَ ابنَك من الضحايا، ذلك أنَّ طبيعةَ البشرِ عادةً هي كفُّ الأذَى عن أنفسِهِم وعن ذويهم قبلَ غيرِهِم، إلا أنَّك لو تأملتَ الخيارَيْنِ لاستنكرتَ أيضًا أن يكونَ ابنَكَ هو الطرفُ المعتدِي، ذلكَ الشابُّ الذي لمْ ينشأْ النشأةَ التي تجعلُ منهُ إنسانًا سويًا، فتفخرُ بأن يكونَ هو ابنُك.

دعني أطرحُ عليكَ سؤالًا آخر، ما الخللُ الذي حدثَ عند الأسرتين، أسرةِ الجاني "فيليب" وأسرةِ أيٍّ من ضحاياه؟ ما الذي يجعلُ كلًّا منهُما يتخذُ طريقًا نقيضَ الآخر، فيتحولُ الأولُ إلى جانِ والآخرُ إلى مجنيٍّ عليْه؟ الحقيقةُ أنّني لا أريدُ الآن الدخولَ في الجدلِ الفلسفيِّ القائلِ بأنَّ الجاني هو في الأصلِ مجنيٌّ عليهِ، بل سأتركُ هذا النِّقاشَ لمقالاتٍ قادمة؛ إن الهدف من هذه المقالات هو أنْ ألقِيَ الضوءَ على بعضِ التحدّياتِ التي تواجه الأهل، وأضعُ بين يديكَ ما خَلُصَتْ إليهِ الدراساتُ وتوصَّلَ إليهِ العلمُ، لنأتيَ بإجاباتٍ عن هذهِ الأسئلةِ نتجنبُ بها الخللَ الذي حدثَ أو قدْ يحدُثُ لكلا الطرفين، ومن ثمَّ نستطيعُ أن نجدَ العلاج فضًلا عن الوقاية.

إذًا فما هو ذلكَ الشيءُ الذي يجعلُ منكَ الشخصَ الذي أنتَ عليهِ الآن؟ أو بعبارةٍ أخرى، ما العواملُ التي تجعلُ منّا ما نحنُ عليهِ اليومَ مِن صفاتٍ وخصائص؟ أو ما الذي يشكّلُ لنا هذا المزيجَ الشخصيَّ مِن المعتقداتِ والطباعِ الأفكارِ والعاداتِ التي تميّزُنا عن غيرِنا؟

جدلٌ كبيرٌ قائمٌ -منذُ الأزل- في مجالِ علْمِ النفسِ عن الطبيعةِ والتّطبُّع، أو ما الموروثٌ وما المكتسبٌ في شخصياتِنا وسلوكِنا؟!

ولو تجولتَ بين مدارسِ علْمِ النفسِ المختلفةِ ستجدُ أنَّ كلّ مدرسةٍ تركزُ على أنَّ الموروثَ والمُكتسَبَ متصارعان دائمًا، يغلِبُ أحدُهُما الآخرَ على حسَبِ الموقفِ المتعرِّضِ له الشخص، أو حسبِ المرضِ النَّفسيِّ الذي تظهرُ آثارُه. وهناك مذاهبُ/ مداخلُ أخرى اختارت أن تمسكَ العصا من المنتصف، فقالتْ بأن هناك قطْعًا الجزءَ البيولوجي، وله محفزاتُه، وهناك مكتسباتٌ تظهر تِباعًا على مدارِ حياتِنا حسَبَ تجاربِنا، وبأن ما نمرُّ به يؤثرُ علينا ويجعلُنا على ما نحنُ عليه الآن. ويقدّمُ كلُّ مذهبٍ/ مدخلٍ أدلتَه ويستشهدُ بالأبحاثِ والدراساتِ التي أُجرِيَت على الأشقاء -سواءً كانوا أو لمْ يكونوا توائم- الذين تربوا في بيتٍ واحد، ثم اختلفت طباعُهم، فبالرغم من نشأتهم في نفس البيت ترى اختلافَ شخصياتِهم. وقد أُجريَتْ دراساتٌ أخرى على إخوةٍ لنفسِ الأبِ والأمِّ تربوا في أسرٍ مختلفة، ثمّ لوحظ بينهم تشابهاتٍ نفسيّةٍ كثيرة.

إذًا فما الذي يجعلُنا نجدُ في نفس الأسرةِ ابنًا عاقًّا وابنًا مُطيعًا، أو ابنًا يصابُ بالاكتئابِ أو غيرِه من الأمراضِ النفسيةِ ولا يصابُ به أخوه، أو نجدُ أسرةً يخرجُ منها ابنٌ مجرم، بينما نشأ أخوهُ سويًّا ناجحًا؟

وبالتطبيقِ على حديثِ الساعة، نطرحُ نفسَ السؤال فنقول: "ما الذي حوَّل فيليب إلى جانٍ؟"، أذكرُ أنَّه في لقاءاتٍ أُجريَت مع "فيليب"، صرَّحَ بأنّهُ كان يتعرضُ للعنفِ الجسديِّ من قِبلِ والدته، وبأنها كانت دائمةَ الانشغالِ في عملِها، ولم تكن حاضرةً بالبيتِ بشكلٍ كبير، وكذلك بأنّه -أي فيليب- كان وحيدًا لا أصدقاءَ له. هذه الخطوطُ العريضةُ في حياتِه يمرُّ بها مئاتُ الألوفِ، بل ملايينُ الأطفال، وهناك ملايينَ أخرى تمرُّ بظروفٍ أكثرَ صعوبةً أو أشدَّ قسوة، فلماذا تحوَّل "فيليب" بما عاناه من ظروفٍ قاسيةٍ إلى جانٍ، بينما تحوّلَ غيرُهُ ممَّن يُعانون نفسَ الظروفِ إلى مجنيٍّ عليهِم عن طريقِ لُعبتِه أو غيرِها؟

هناك أسئلةٌ يمكننا الإجابةُ عنها، وأخرى يصعبُ تفسيرُها؛ أنا لم ألتقِ بـ"فيليب" لأضعَ يدِي على الخللِ الحقيقيِّ أو ألمسَ نقطةَ التحوُّلِ التي أدَّتْ بِه إلى الطريقِ الذي سَلكَه، لكنَّ الذي أستطيعُ أن أجيبَ عنه إجابةً مؤكدةً مائةً بالمائة، أنَّ هناك عاملا أساسيا، خطوطُهُ العريضةُ عنفٌ جسدي وإهمالُ الأهلِ أو غيابِهم -لسببٍ أو لغيرِ سببٍ مقصود- وشعورٌ بالوحدةِ، أدّى إلى هذه النتيجةِ النهائية.

وعلى الجانبِ الآخرِ هناك أيضًا خطوطٌ عريضةٌ جمعتْ بين من وقعوا ضحايا لـ "فيليب"، ذلك أن معظمَهم لا شكَّ مصابونَ بالاكتئابِ نتيجةً لعواملَ مختلفة، أستطيعُ أن أجزِمَ أيضًا كمتخصصةٍ أنّ الإهمالَ، أو دعني أسمّيهِ التقصير الأسريّ -المقصود أو غير مقصود- وكذلك الشعور بالوحدةِ أهمُّ ركائزِ تلكَ العواملِ المؤديةِ إلى الاكتئاب، بدليلِ أن هؤلاء الأطفالَ والمراهقين قد أفلتوا من تحت رادارِ الأهلِ لمدةِ خمسين يومًا متصلة، ولسوف أكرر جملةً كتبتُها في مقالي السابق قلتُ فيها: "خمسونَ فرصةً لاستردادِ ابنِكَ من الموت، خمسونَ يومًا، بخمسينَ مرحلة". وأنا لا أقصدُ من ذلك أن أشيرَ بأصابعِ الاتهامِ إلى أحدٍ، بل أعرضُ خطوطًا عريضةً لأسبابٍ يُمكنُ تجنبُها.

عزيزي القارئ، ارفعْ عنكَ أسواطَ جلد الذات، وتوقّفْ عن لومِ نفسِك، ولْنبدأ معًا خطواتٍ عمليةٍ تكونُ دافعًا للانتقالِ لواقعٍ أفضل، عبّر عن حبّك لأبنائك بالقول والفعل، أخبرهُم دومًا أنّك تحبُهم وادعم قولَك بحضنِهم، فذلك أكبرُ عواملِ النجاةِ بهم، أضِفْ إلى ذلكَ الثقافةَ وتطويرَ الذات، فهي ضرورةٌ ملحةٌ للجميع، ناهيكَ بالآباءِ المسؤولين عن حياةِ أبنائِهم.

سأتوقفُ هنا وأنا مدركةٌ أنني لمْ أُجِب عن كلَّ ما لديكَ من أسئلة، وحتى لقاءٍ آخرَ في مقالٍ قادمٍ أتحدثُ فيه عن السنين الأولى التي تُشكلُ أهمَّ الملامحِ النفسيةِ لأبنائنا، وأجيب فيه عن مزيدٍ من التساؤلات، أستطيعُ أن أقولَ لك، مدّ جسورَ التواصلِ بينَكَ وبين أبنائِك، وأعدُكَ بألا يستضعفَهُ بعدَ ذلكَ شيءٌ.

إعلان

إعلان

إعلان